آراء

مقاليد السيادة وحدود العبادة

badya shikatوالآن وقدبات العالم العربي يترنّح كالسكران بين قرون الشيطان، ألم يئن الأوان بأصحاب الضمائر وكل الحرائر الذين يمتلكون نواصي العلم والفهم أن يَهدموا ماشُيِّد لنا مِن محمِيّات؟ تلك التي ضمنت لغيرنا السيادة وحفظت لنا العبادة؟

ألم يصدر في 26أوث 1876 إعلان حقوق الإنسان الذي نصّ على أنّ السيادة للأمة غيرقابلة للإنقسام، وأنّ مرجعية السلطة هي للشعب وحده؟ثم ظهرت تبعا لذلك فكرة الرقابة السياسية والقضائية على السلطة التنفيذية، وتقرّر مبدأ المساواة في السيادة لدى جميع الأمم في الحقوق والواجبات من غيرإعتبارلأصل تلك الدول ولامساحاتها ولا شكل الحكومات؟

فأين كل ذلك ممّا يحدث اليوم؟ أليس مايحدث هوخرق صارخ لكل تلك الشعارات؟؟

إننا نرى عين اليقين جميع تلك الدول التي تمتلك حق الفيتو في الأمم المتحدة صاحبة الأمروالنهي على غيرها من الدول، وكأنها قد جعلت لنفسها من خلال تلك الهيئة شرعية للسيادة، فلا تسأل عمّا تفعل وهم يُسألون، فعلى العراق والجزيرة العربية ومصر نجد السيادة الأمريكية، وعلى سوريا السيادة الروسية وأما على المغرب العربي ولبنان فالسيادة الفرنسية، وكأنّها قد ملكت الوثيقة الرسمية لكفالة أيتامٍ بؤساء، وهم في الحقيقة عصافيرمسجونة ليست بحاجة سوى للتحليق في السماء .

لقد بات لزاما علينا وضع مفهوم للسيادة ينطق به لسان الحال لتغييرالمآل، فكل ماوُضع من مفاهيم لها في الغرب هي مفاهيم توثّق لهم عروة التّحكم بمقاليد السيادة على الدول العربية، فإن تتبّعنا مسارات تلك المفاهيم إبتداءا من جان بودان "1530ـ1569" ومن خلال كتابه "ستة كتب عن الجمهورية" نجده قد عرّف السيادة بأنها عبارة عن:"السلطة العليا على المواطنين والرعايا" ثم بكونها سلطة دائمة غيرمؤقتة ولاتخضع للتقادم، ومطلقة لاتخضع للقوانين، فصاحب السلطة العليا برأي بودان هو واضع القوانين وهو غيرمسؤول أمام أي أحد بتنفيدها.

فكان بودان ممّن وضعوا أسسا للسيادة داخل الدولة، أمّاخارجها فقد ظهرغروسيوس، الذي رأى أنها سلطة سياسية يمتلكها شخص تجعل مِن أفعاله غيرقابلة للنقد، ليعقبه هوبز، والذي إعتبرها أولا وأخيرا حفاظا على بقاء المجتمعات، حتى لايأكل القوي فيها الضعيف، وبرأيه حين يتفق الجميع على شخص بعينه ليكون صاحب السلطة فهم يمنحوه بموجب ذلك حق التصرف في ممتلكات الدولة، وبالتالي في أموالهم تبعا لذلك، فتكون أموالهم حسبه مجرّد إمتيازات يقرّرها الحاكم على الرعية كما يشاء، والحاكم حسبه أيضا غير ملزم بإتباع القانون، لأنه هوواضعه وله مطلق الحرية في سنّه أوإلغائه، فكفتي العدالة بين يديه لوحده.

وطبعا في ثنايا تلك النظريات غثاءا من النقيض لابد له من معاول تقريظ .

فجان بودان مثلا وهويخلق السيادة من خلال ثالوث:"السيادة، المواطن والدولة" جعل بدايةُ صاحب السلطة هو من يصوغ القوانين داخل الدولة، بعد ذلك جعل من الشعب من يقوم بإلزام الحاكم بتطبيقها .

فهنا يستوجب علينا طرح الإشكال الآتي: إذا كان الشعب يملك حق إلزام صاحب السيادة بتطبيق القوانين، فهوإذن صاحب السيادة الحقيقية، وليس الحاكم كما أراد له أن يكون جان بودان ؟ وهذا مايبيّن إستحالة أن تكون السيادة مطلقة لدى الحاكم بإبعاد كامل للشعب.

والأمرذاته بالنسبة لغروسيوس الذي نقد نظرته بنفسه حين راح يضع ضوابط لتلك الهيئات التي تُخوّل لنفسها سلطة إعلان الحروب، بعد أن جعل السيادة مفهوما بموجبه لايجوز نقد أفعال صاحب السلطة مهما كانت، فكان بوضعه لتلك الضوابط هوأول من إنتقدها، لِما لاحظ من عنجهية الطغاة، واستبداد الحكم الذي طفح به كيل العدالة.

أماهوبزوهو يضع السيادة المطلقة للحاكم حفاظاعلى بقاء المجتمعات فهو يعمل بدل ذلك على إفنائها، لأن الحاكم لايُبسَط له الكمال بسطا لمجرد حيازته على السلطة، وبما أنه بشرفقد يصيب وقد يخطئ في حكمه، فإذا حدث وأخطأ ولم يكن مِن معارضة يجابهها، فسيحدث الفناء الجماعي بدل البقاء الذي تحدّث عنه، وهذا مانلحظه من خلال الممارسات الديكتاتورية للحكام في البلدان العربية، أوحتى من خلال ماتمارسه دول تريد أن تكون لها بدل السيادة الدولية سيادة إقليمية كأمريكا وروسيا.

ولذلك فإنّ السيادة وحتى تكون حقيقية ينبغي أن تبنى على أساس البحث عن المصلحة العامة وليس المصلحة الخاصة، فتكون كلمة الحق هي العليا وإن كانت من فرد لايساوي أبخس بضاعة، وكلمة الباطل هي السفلى وإن كانت ممّن لاتُشق له عصا طاعة.

ثم إنّ السيادة في الدولة المدنية مرجعيتها القانونية هي دليل نقصانها في ذاتها، فلو كان الكمال في ذاتها لما كانت بحاجة لِما يُسمّى بالقوانين الدستورية، كما أنّ تلك القوانين قد يطغى ويستبد من خلالها واضعها كما نلحظ في كثيرمن الدول، خاصة في عدم فصله بين السلطات، حتى صارت السلطة العسكرية هي الآمرة الناهية، وباتت طوقا يلف عنق الديمقراطية، فعمّ الفساد والإستبداد، وأصبحت تلك الدول أحوج ماتكون لمرجعية يكون فيها الكمال جوهرا لاعارضا، والسيادة فيها خاضعة لحتمية السماء لا لشطحات الأهواء، فيتساوى أمام كمالها وفي حكمتها وسموغاياتها جميع البشرفقراء وأغنياء، حكّاما أقوياء، أورعية ضعفاء.يقول محمد الغزالي:"تعاليم الدين المنوعة في كل شئون الحياة هي نداء الطبائع السليمة والأفكار الصحيحة، وتوجيهاته المبثوثة في أصوله متنفس طلق لما تنشده النفوس من كمال".

فيكون الحاكم هوهيئة تنفيدية لهيئة تشريعية هي الرعية أوالشعب.فتتبلور السيادة على الصعيد

الداخلي بطاعة الله ورسوله وولاة الأمر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوااللَّهَ وَأَطِيعُواالرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِمِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}

غير أنّ لذلك ضوابط وأطر، فهذ الخليفة عمربن الخطاب يوم استلامه لمقاليد الحكم، راح يبيّن للرعية حدود هاته الطاعة في خطبته فقال:"من رأى منكم فيّ إعوجاجا فليُقَوِّمني "

وأمّاعلى الصعيد الخارجي فمن خلال قوله عزوجل:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}"أي:في الدنيا بأن يبسطوا سيطرتهم عليهم.

إنّ على الدول العربية الإيمان بأنّ وحدتها هي الخلاص من كل ذاك الخنوع والإدعان، وأما الخشية من إصابة بنيان الوحدة بسبب الدين بالإنهيار، فهُوَ أشبه بمن يخاف أن تكون الشمس كوكبا مشتركا تحدّد للجميع اللّيل من النهار.

 

باديـة شكاط من الجزائر

في المثقف اليوم