آراء

أولادنا أكبادنا تغرقُ في البحرِ

jawadkadom gloomما سأقوله في هذه المقالة صريح ودقيق جدا دون أية إضافات أو تزويق أو بهارات بلاغية

سأنقل اليكم اعزّاءنا القرّاء الحقيقة التي ظهرت أمامي حرفا حرفا ونقطةً نقطة .

يعيش جاري المهندس الوديع الوسيم الخفيف الظل والذي اظنه دون الاربعين من عمره قريبا مني مع زوجته المهندسة المكتنزة بالجمال وبهاء النفس في بيت عامر جميل يضمّهم منذ أمد ليس بالقصير وكثيرا ما نتبادل السلام والترحيب كلما التقينا صدفةً وقد وهبه الله صغيرين جميلين من نسله؛ ولد وبنت دون سن الثامنة وزوجته حامل في شهرها الخامس كما عرفت مؤخرا من جيراني المقرّبين، هذا الجار العزيز الهادئ الطباع لايعوزه شيء من الحاجات المادية ويعمل في احد المشاريع الهندسية في مرتعٍ من البحبوحة واليسر اضافة لما يغدقه أهله الميسوري الحال على اسرته لمواصلة حياته في اسعد حال من العيش الكريم القائم على الاكتفاء بل وحتى الرخاء.

وبسبب اوضاعنا المأساوية التي نعيشها في العراق والتي لا اريد ان اسهب في تفاصيلها وغرائبيتها وشذوذها فهي معروفة للقاصي والداني؛ قرر هذا الشاب مع زوجته السفر الى تركيا لعله ينفذ بجلده وعائلته الى موطئ قدم في بلاد يختارها كلاجئٍ ويقضي ما تبقى في حياته في المهجر هو وعائلته وقد وردتني اخبار منه انه عازم على الابحار عبر بحر ايجة عسى ان يصل الى اية جزيرة يونانية كمحطة اولى ثم يسعى الى السفر والوصول الى اية دولة اوروبية تمنحه اللجوء غير ان حظه العاثر خيب اماله اذ استقل المراكب المتهالكة المعدة للتهريب وكان مصيره الغرق والموت المحتم هو وزوجته وولديه .

قرر والده جلب جثامين الاسرة لاجل دفنهم قريبا منه ليستمر في زيارتهم والبكاء على قبورهم وانتظر اياما حتى وصلت وفجأة وبدون سابق انذار تعالت الى مسامعي صيحات الندب والعويل والنحيب وفوجئت امام ناظريّ بأن نعوشا اربعة تتضح امامي في الشارع محمولة على أكتاف أهله وأحبابه وجيرانه مع ترديد عبارات التأليه والتكبير .

وكم كانت صدمتي موجة حينما ايقنت ان هذه النعوش تعود لجاري المهندس وعائلته فقد اغرق البحر كل عائلته ولم يبقِ احداً حياً لتخليد هذه الاسرة الراحلة . هذه الحادثة المروّعة أعادتني الى قصة الطفل السوري الكردي الغريق "ايلان" والتي رميت الرياح العاتية وموجات البحر جثّته على ساحل البحر وبعدها توالت كوارث الغرق للاطفال خاصةً وقد تأكّد لي ان كثيرا من اطفالنا العراقيين لقوا المصير نفسه مثلما يلقى السوريون المصير نفسه وهم يركبون البحر خلاصا من أوطانهم العاقّة بهم، لكن الحادثة المفجعة لعائلة جاري المهندس كانت اكثر ايلاما ووجعا وتمزيقا لدواخلي ربما لاني اعرفهم عن كثب وقد امتثلت امامي بكل مأساتها وفجيعتها، فالذي يسمع ويتسقط الاخبار غير الذي يرى الجنائز واجداث الموتى القريبين له بأمّ عينه

تُرى اكان حقا عليه وهو الاب المهندس الواعي ان ياخذ اولاده الصغار معه ويجازف بهم في ابحار غير آمن على مراكب هزيلة ومتهالكة وهل يباح له ان يغامر بأولاده في رحلة مليئة بالمخاطر ويتراءى الموت امامهم وهم يتأرجحون وسط موجات البحر الهائجة؟.

قد نبرر للانسان الواعي الناضج ان يغامر بنفسه وحده ويبحر طلبا للجوء والعيش بعيدا عن مأسي بلده الذي يزخر بالويلات والكوارث والقتل العشوائي في دولة ضاع فيها القانون وغاب عنها العقاب عن القتلة واللصوص وزعماء العصابات بل اتاح لهم الزمن الوغد ان يتبوؤا اعلى المناصب في السلطات الثلاث .. أما ان يضحي المرء بأولاده الصغار فهذه هي الكارثة الكبرى فمهما اشتد الظلم وكثر الحيف وتعددت المخاطر فمن الخطأ والخطل ان تنسحب على الاطفال الصغار فما ذنبهم ان يدفعوا حياتهم ثمنا لرغبة اب متذمر من وضع مزرٍ؟؟ مع اني اعرف ان الوضع الذي نعيشه مريرٌ جدا ولايحتمل ابدا ولكن مصير اطفال يموتون غرقى أكثر مرارةً وألماً بأشواط لاحدود لها

بؤسا لك ايها البلد غير الآمن ؛ متى تحتضن اولادك ورعاياك وبني جلدتك ؟؟ ؛ أتظل طاردا لشعبك وتبيح لهم ان يركبوا الصعاب ويضحّوا بأنفسهم وأولادهم إكراما لحفنةٍ رخيصة من ساسة لا يعرفون اية قيمة للإنسان ولا يهمهم سوى اشاعة الفساد وشلّ البلاد وقتل العباد . وقبيل ان انتهي من مقالتي هذه صدمني خبر مفزعٌ مفاده ان مئة وثمانين لاجئا عراقيا بضمنهم اطفال قد غرقوا ليلة الجمعة الثلاثين من اكتوبر في بحر إيجه

واذا كانت الامم المتحدة ومنظمة " اليونسيف " على الاخصّ نائمة وفي غفلة عمّا يجري من دفع الاطفال للموت غرقا لتكون نذورا وأضاحي لأفواه البحار التي لاتشبع من اللحوم البشرية الطرية للصغار فليس لي إلاّ ان ادعو اولياء الامور الاّ يغامروا بأولادهم واطفالهم ودفعهم للسير في هذه المهالك فهؤلاء الملائك الصغار لهم حياتهم التي حباها الله لهم وليست ملكا لأبويهم وانْ أنجبوهم وطرحوهم في اية بقعة قاسيةً كانت ام راحمة وحانية .

 

جواد غلوم

في المثقف اليوم