آراء

ماذا يريد البرلمان العراقي وماذا يريد العبادي؟

abdulhusan shaabanلا تزال الصورة ضبابية وملتبسة بخصوص وعود رئيس الوزراء العبادي بشأن الإصلاح السياسي والإداري، ومحاربة الفساد والمفسدين، إذ لا يمكن إسقاط الرغبات على الواقع، إنْ لم تتوافر أدوات ضرورية قادرة على تحقيقها، خصوصاً المباشرة بها والسير بتدرّج وتراكم ضروريين للوصول إلى الأهداف المنشودة.

كانت حركة احتجاج عارمة قد بدأت في الشارع العراقي بسبب سوء الخدمات، خصوصاً الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي في ظروف الصيف العراقي القاسية، وارتفاع درجات الحرارة، الأمر الذي لم يكن هناك مناص من التعاطي معها، بعد أن كانت حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي تجاهلتها واستخفّت بها وقمعتها، وكانت النتيجة عزلته وارتفاع الأصوات المطالبة بعدم التجديد له لدورة ثالثة، فما كان من رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي، الذي جاء بعد مخاض عسير وتداخلات إقليمية ودولية، إلاّ أن يعلن عن رغبته في اتباع نهج آخر، مستفيداً ممّا حصل لسلفه.

لقد ازداد المشهد السياسي العراقي تعقيداً وقتامة، لاسيّما بسبب هيمنة «داعش» على الموصل وتمدّدها نحو محافظات أخرى، وانخفاض أسعار النفط وارتفاع معدلات البطالة، فلم تعد والحالة هذه تكفي النوايا والوعود لسد رمق الجائعين والذين يعيشون في العراء.

إن تعقيدات المشهد السياسي العراقي لا تتعلّق بالسياسة المحلية فحسب، بل تشتبك مع السياسة الإقليمية والدولية، فالعراق لا يزال يرتبط باتفاقية إطار استراتيجي مع الولايات المتحدة، تلزمهما التعاون والعمل المشترك في الأطر السياسية والاقتصادية، وبشكل خاص النفطية، والاجتماعية والثقافية، فضلاً عن الأمنية والعسكرية، وفي كل ما يتعلّق بأوضاع الدولة العراقية، وكانت تلك الاتفاقية إحدى ثمرات الاحتلال الأمريكي للعراق الذي لا يزال مكبّلاً بقيودها الثقيلة، التي تتعلق بسيادته ومستقبله.

ولهذه الأسباب استفزت الولايات المتحدة عندما أعلن عن تحالف رباعي يضم إيران وروسيا وسوريا والعراق، وتصنّف الدول الثلاث الأولى باعتبارها عدوّة لواشنطن، فكيف تتصرّف الحكومة العراقية لتعلن عن تعاونها في مجالات تعتبر حكراً أساسياً لواشنطن التي قد «تتفهم» تداخلات إيران، لكنها لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء محاولات روسيا لدس أنفها في العراق بعد وجودها العسكري القوي في سوريا.

من جهة أخرى، فإن النفوذ الإيراني لم يعد خافياً، وإنما أخذ بالتعاظم، لاسيّما عند تأسيس الحشد الشعبي، وازداد اتساعاً وعلانية، وأخذت شخصيات عسكرية وأمنية إيرانية تظهر في الساحة العراقية من دون أي حرج، مثل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري.

لقد بدا من اللحظة الأولى لإعلان العبادي عن نيّته للإصلاح، إن الأغلبية الساحقة من القوى السياسية لم تكن معه، وإنْ لم تستطع التعبير عن توجّهها بسبب موجة الغضب الشعبي، لكنها حاولت وضع العصي في عجلته، فبعد أن حدّد برنامجه الإصلاحي الذي اقتضى مصادقة البرلمان، كان لهذا الأخير مشروعاً آخر للإصلاح، وحتى إن لم يكن يتناقض مع مشروع العبادي جوهرياً، لكنه أراد عدم منح الفرصة الكاملة له للظهور بدور المصلح الوحيد، وأراد مشاركته في مغازلة الشارع العراقي والتخفيف من غلوائه ونقمته على السياسيين وأصحاب الامتيازات والرواتب الضخمة.

ولأن العبادي طرح مشروع الإصلاح من دون حلفاء أو أصدقاء، حتى وإن وافق عليه البرلمان بالإجماع، فقد كان هذا الإجماع، مثل جميع القرارات التي تمرّ على الشاكلة نفسها، مصطنعاً وشكلياً، ولم يكن سوى للاستهلاك كما يقال، وبدأ العدّ التنازلي له لحظة إقراره، إلى أن وصل إلى مرحلة التآكل.

ومع مرور الوقت ارتفعت وتيرة التناقضات، ويتضح ذلك من خريطة القوى السياسية التي عبّرت عن تحفظها على منح العبادي الصلاحيات الدستورية للمضي في خططه الإصلاحية، التي لا يمكن تنفيذها من دون رأي موحد وتوجّه عام، وإلاّ فإنها ستصطدم بالعديد من العقبات وستواجه «القطط السمان» التي امتلأت بها مطابخ القوى السياسية جميعها من دون استثناء، وهذه ستكون كابحاً بوجه أي محاولة للمساس بمصالحها وامتيازاتها، وستقاوم كل مسعى جدي للانتقاص منها، أو مساءلة عناصرها وملاحقة أتباعها.

لم يكن خصوم العبادي وحدهم من وقف ضد خطط الإصلاح الموعود، بل إن الكتلة التي ينتمي إليها، وأعني بها «دولة القانون»، كانت هي الأخرى ضده، وهذا يعني إن خطط الإصلاح دخلت في نفق مظلم وقد يصعب الخروج منه، خصوصاً وقد وُوجهت بانتقادات بزعم تجاوزه الصلاحيات الدستورية، وجرت محاولات لسحب التفويض الممنوح له، الأمر الذي لم يقتصر على الخصوم فحسب، بل بدأ الحديث بصوت مسموع عن النيّة في استبدال العبادي من الوسط الذي ينتمي إليه، تحت عنوان تردّده بشأن قبول التدخل الروسي لضرب تنظيم «داعش».

والواقع أن العبادي في موقف لا يُحسد عليه، فمن جهة ضغوط الولايات المتحدة عليه لإبعاد الحشد الشعبي عن محافظة الأنبار، وتدخّلها بخصوص تسليح العشائر وتحديد حركة الجيش العراقي، ورفضها فكرة التحالف الرباعي، الذي عاد العبادي واختزلها إلى «خلية استخبارية» لتبادل المعلومات وللتعاون الأمني، كما عبّر عن ذلك.

ومن جهة أخرى هناك ضغوط إيران وائتلاف دولة القانون، وكذلك تشكيك التحالف الكردستاني في خطط الإصلاح، لاسيّما في استمرار المشكلات القديمة قائمة معه، خصوصاً بشأن إنتاج النفط وتصديره وحصة الإقليم، فضلاً عن عدم ثقة اتحاد القوى العراقية بنجاح خطة العبادي وقدرته على إنجازها، الأمر الذي يجعله يواجه تحدّيات متعدّدة، وقد يؤدي استمرارها إلى تعويم سلطاته، فكل جهة تحاول أن تفرض عليه وجهات نظرها، وهو يواجه الجميع بلا أي تحالفات أو صداقات، ومن دون أدوات مؤثرة، لا على صعيد الدولة أو الجيش أو الحزب الحاكم أو كتلة الائتلاف الوطني، فضلاً عن القوى الإقليمية والدولية.

لقد بات العبادي مرتهناً، فهو غير قادر على التراجع عن قراراته، لأنها ستؤدي إلى إنهاء دوره السياسي، ولا هو بقادر على المضي بها جراء المعارضة الشديدة التي يواجهها، وآخرها كان تحجيم صلاحياته من جانب البرلمان والتلويح بسحب التفويض الممنوح له في حالة تجاوزه، وبالتالي فهو موزّع بين رغبة واشنطن ورغبة طهران، إضافة إلى أن تحالفه الحزبي والنيابي، الذي ينظر إليه بعين الشك، من جانب الأغلبية التي يقف خلفها المالكي، بزعم تفرده بالقرار.

ويعتبر البرلمان العراقي بأغلبيته، أن العبادي تجاوز على الدستور والقوانين النافذة تحت شعار الإصلاحات، وإنه يصر على عدم التشاور مع شركائه السياسيين، والأمر لا يتعلق بسلّم الرواتب الذي مسّ شرائح واسعة، ولا سيّما من الطبقة الوسطى، بل بقرارات التعيين والعزل والإعفاء في العديد من المراكز الحساسة العسكرية والأمنية والخدمية والسياسية.

إن الوضع الحرج الذي يواجه العراق بانخفاض أسعار النفط وخواء خزانة الدولة، والسعي للاقتراض الذي قد يكون بشروط ثقيلة، جعل المشكلات المالية والاقتصادية تتقدّم إلى الواجهة، إضافة إلى المشكلات الأمنية والعسكرية، والإرهاب، والفساد، والمحاصصة الطائفية والإثنية، أما الحلول التي حاول العبادي تقديمها فقد ظلّت قاصرة ودفعت الأمواج سفينته إلى عرض البحر الهائج، وحتى الآن لم ترسُ في برّ الأمان، خصوصاً وهو لا يمتلك القوة اللازمة لتنفيذ إصلاحاته الموعودة والمضي فيها.

وإذا كان من يقف إلى جانب العبادي من الكتلة الشيعية، خصوصاً جماعة الحشد الشعبي، ممثلين بجماعة مقتدى الصدر، ولواء بدر الذي يقوده هادي العامري، والمجلس الإسلامي الأعلى بزعامة عمّار الحكيم، وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، إلاّ أن ولاء هذه المجموعات جميعها ليس له، وقد أصبحت تشكّل مراكز قوى داخل الدولة، وسيكون من الصعب نزع سلاحها وامتيازاتها.

إن حكومة العبادي لا تزال تترنّح وليس هناك مستقر لها بسبب التعارضات الحادة، خصوصاً أن توتّر الوضع بين الحكومة والبرلمان، هو أشبه بحكاية القط والفأر، فكلّما حضر العبادي بقوة، تراجع البرلمان، وكلّما ظهرت قوة البرلمان توارى العبادي، لكن مثل هذا الأمر لن يدوم، فإما أن يلجأ العبادي إلى عملية قيصرية بإعلان حالة الطوارئ وحل البرلمان وتعطيل الدستور والإعلان على انتخابات خلال عام أو عامين بعد تشكيل حكومة إنقاذ وطني، أو أنه يُقال ويأخذ مسار الأحداث بُعداً درامياً جديداً ليس بين الكتل المتصارعة فحسب، بل داخل الائتلاف الشيعي، حيث المنافسات على أشدّها لاحتلال المواقع، فضلاً عن مستقبل الدولة العراقية الآخذة بالتآكل والتفكّك.

 

د. عبد الحسين شعبان

في المثقف اليوم