آراء

الْعَدَالَةُ وَالتّنْمِيَة وَاخْتِبَارُ صَنَادِيقِ التّقَاعُد

khalid  altajعلى بعد أقل من سنة على نهاية ولاية الحكومة الائتلافية التي يقودها حزب العدالة والتنمية بزعامة السيد ابن كيران، فقد وجدت الحكومة نفسها أمام ملفات ومطبّات صعبة على مستوى التدبير وليس أكثرها وأهمها صندوق المقاصة وما يكتسيه من أهمية استراتيجية على مستوى التوازنات الماكرو اقتصادية أو دعم وحماية القدرة الشرائية للفئات الهشة والمعوزة.

وإن جاز لنا القول بأن اختبار التدبير الحكومي لملف صندوق المقاصة ولاسيما تحرير أسعار المحروقات قد تم اجتيازه بنجاح نسبي مستفيدا بذلك من انخفاض كبير في أسعار المحروقات في الأسواق الدولية بفعل وفرة المعروض وانكماش الطلب، وهو الملف الذي لطالما أرقّ حكومات متعاقبة وارتأت تأجيله وعدم الخوض فيه بالنظر لحساسيته وتعقيداته، لكن تجد التجربة الحكومية الحالية نفسها أمام اختبار لا يقل صعوبة وتعقيدا عن سابقه، إذ يتعلق الأمر هذه المرة بملف صناديق التقاعد المهددة بالإفلاس بغض النظر عن حيثيات وأسباب ذلك سواء بفعل سوء التدبير أو اختلالات بنيوية أخرى، في غضون أقل من ست سنوات من الآن كما أقر بذلك تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي ورئيس الحكومة وغيرها من التقارير والدراسات التقنية ذات الصلة.

فنحن إذن أمام حتمية الإصلاح مع ضرورة الاستعداد لدفع ثمنه والامتثال لمتطلباته! ،،حفاظا على استمرارية نظام التقاعد,,,, لكن يحق لنا التساؤل عمّن سيدفع الثمن... هل هم فقط النصف مليون موظف الذين تحدث عنهم السيد ابن كيران في معرض حديثه عمّا اعتبره "وصفة الدواء المُرّ" حول إصلاح صناديق التقاعد أمام البرلمان يوم الثلاثاء 23 دجنبر الماضي 2015 والذي سيتجرعونه وهم في غالبيتهم من الطبقات الاجتماعية الهشة والذين سيجدون أنفسهم رغمًا عنهم أمام اقتطاعات تتراوح بين 500 درهم و1500 درهم وما قد ينجم عن ذلك من تداعيات على القدرة الشرائية والسلم الاجتماعي بالنظر إلى ارتفاع أسعار المواد الأساسية بالإضافة إلى تمديد سنوات الخدمة إلى 63 سنة...

أمام السجال الحالي والذي لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهله أو تبني الصمت المطبق عنه حول معاشات البرلمانيين والوزراء والتعويضات الكبيرة التي يتقاضونها في ظل الظرفية الاقتصادية الراهنة، والتي بدأت تُسيل الكثير من المداد سواء عبر المنابر الإعلامية الوطنية أو الدولية، المقروءة منها والمرئية، مقابل واجباتهم الوطنية التي تعهدوا بها أمام ناخبيهم، ربما كان من الأولى للسيد ابن كيران أن يضع خطة متكاملة لإصلاح منظومة الأجور برمتها في الوظيفة العمومية وكافة أسلاك الدولة والتي تعرف اختلالات هيكلية وفوارق كبيرة بين أدنى الأجور وأعلاها وبين قطاع حكومي وآخر وبين درجة وأخرى ،بالإضافة إلى علامات الاستفهام العديدة عن الجدوى والمردودية المبتغاة منها على المجتمع والصالح العام في ظل الحديث عن مفهوم "الحكامة الجيدة" و"محاربة اقتصاد الريع".

ربما كان من باب الضروري، تبني حزمة من الإصلاحات والتدابير الهادفة إلى حماية القدرة الشرائية لصغار الموظفين والطبقات المتوسطة ،والحفاظ على مقومات السلم الاجتماعي بالتزامن مع إطلاق خطة الإصلاح الحتمية والضرورية، كما أنه يبدو من الضروري كذلك التحلي بروح المواطنة وانخراط جميع الفاعلين السياسيين في ورشة الإصلاح الاستراتيجية بما في ذلك الوزراء والبرلمانيين، لأنهم ليسوا أقل وطنية وحرصا على المصلحة العليا للوطن والتوازنات الماكرو اقتصادية واستمرارية صناديق التقاعد من صغار الموظفين والطبقات المتوسطة على ما يبدو، إسوة برئيس الوزراء البريطاني David Cameron الذي قام بتجميد راتبه ورواتب وزراءه كمساهمة منهم في تأدية الدين العام وتقليص عجز الموازنة، أو حكومة Alexis Tsipras في اليونان أو حكومة الأردن.

وحدها تدابير مماثلة لحكومات دول عريقة في الديمقراطية، سواء أكانت أحادية الجانب أو بالتوافق مع أحزاب المعارضة التي التزمت بدورها الصمت المطبق والمريب ولم تنبس ببنت شفة عمّا يُطلق عليه في فضاءات العالم الافتراضي والأروقة الإعلامية "بامتيازات الريع" ،ولم تقدم لحدود الساعة ولو مشروعا واحدا أمام البرلمان يقضي بتقليص أو حذف تلك الامتيازات والانسياق وراء تلك المطالب، التي تبدو في نظر الكثير من المتتبعين ظاهرة صحية في مجتمع يطمح إلى تبوء مكانته بين الديمقراطيات الناشئة وترسيخ مساره الديمقراطي وليست ضربا من "الشعبوية" أو" نقاشات عديمة الجدوى" كما يتبادر إلى ذهن البعض.

إذن فتلك التدابير التي تكتسي في عمومها بُعدا رمزيا ستكون كفيلة بدون شك بامتصاص الغضب والاحتقان الذي قد ينجم عن خطة الإصلاح التي تعهد بإطلاقها رئيس الحكومة عمّا قريب، والتي ستمس العديد من الموظفين في قوتهم ومعيشهم اليومي، كما قد تحافظ على الحد الأدنى من مستوى الثقة بين الفاعلين السياسيين وعموم المواطنين مُساهِمة بذلك في تجسيد الثقة في الوثيقة الدستورية لسنة 2011 والتي تنص في ديباجتها على مبادئ أساسية كالمساواة بين المغاربة والحكامة الجيدة والشفافية والعدالة الاجتماعية، في أفق الاستعداد للاستحقاقات البرلمانية المقبلة، كما قد تنقذ على الأرجح حزب العدالة والتنمية من السقوط في مهاوي الأحزاب اليسارية التي ابتعدت كثيرا عن أدبيات وفلسفة اليسار ومرجعياته الفكرية الرامية إلى الدفاع عن مصالح وهموم الطبقات الاجتماعية المسحوقة، ووسعت من الهوة بين قيادييها وتلك الطبقات، وأصبحت أكثر ليبرالية من الليبراليين بفعل قيادتها لعمليات خوصصة واسعة النطاق وتفويت لأهم المرافق الإنتاجية بالبلاد، كما فقدت الكثير من شعبيتها ورصيدها النضالي وإرثها التاريخي بمجرد تقلدها لمسؤولية التدبير الحكومي، وجسدت بذلك الممارسة السياسية الميكيافيلية بأبهى تجلياتها، وهو ما أضر كثيرا بصورتها ومصداقيتها لدى عموم المغاربة.

العدالة والتنمية إذن، ومن وراءها التجربة الحكومية بعد ما عُرف بالربيع العربي وما أطلق عليه بالاستثناء المغربي، تجد نفسها الآن في مفترق طرق وأمام تحدٍّ كبير فرضته الظرفية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراهنة، فهل سينجح الحزب في تدبير المرحلة بذكاء وحنكة سياسية منسجما بذلك مع مبادئه وشعاراته، ومستفيدا من التجارب القاسية لسابقيه، وينساق وراء مطالب شبيبته وفئات واسعة من المواطنين، ويجتاز بذلك اختبار صناديق التقاعد بنجاح، أم أنه سيمارس سياسة غض الطرف والآذان الصّمّاء إلى أن تخفت الأصوات المطالبة بمحاربة "الريع" وتعميم المساهمة في تكاليف الإصلاح حفاظا على توازنات ومصالح معينة؟؟

 

خـالد التـاج

في المثقف اليوم