آراء

الواقع السياسي والواقع الذاتي بين القطيعة والاستمرارية

elmrazik almustafaلعل حجم التحدي الذي تطرحه علينا إشكالية الواقع السياسي بالمغرب يتبدى - على ما يبدو - في عدم قدرة القوى السياسية المغربية على تنفيذ وممارسة الإصلاحات السياسية والدستورية على علتها ونواقصها، مقابل تراجع المد الديمقراطي الحداثي، إلى جانب انتعاش أزمة اجتماعية تذكرنا بثمانينات القرن الماضي.

و أنا أغامر بركوب أمواج هذا التحدي، أعترف منذ البداية أني لست متأكدا من أني سوف أتمكن من الإحاطة بالموضوع بطريقة مختلفة ومتماسكة، ربما لأن الموضوع/ الإشكالية، يحتاج لإبراز التملك النظري الضروري الكافي والعناية المنهجية الفائقة، وذلك في إطار الاجتهاد (المتأني) لفهم عمق التحولات التي تعيشها بلادنا وبلوغ الغرض الجوهري من تحليلها بمعدات نظرية وتقنية.

لكن المهم هو الانفلات من التقاليد المكبلة بالرقابة الذاتية ومحاولة الإسهام في النقاش العمومي حول "الواقع السياسي ما بعد التقليدي" لبلادنا، والذي يمكن وصفه - إن صح التعبير - بأزمة الانتقال من التداول أو التناوب إلى التحول الديمقراطي الشامل من خلال ثاني استحقاقات بعد دستور 2011.

لقد علمنا علماء علم الاجتماع أن " فيزيولوجيا المجتمع" لا تستطيع انتظار الثورات أو الهزات الاجتماعية لكي تسير في طريقها، فلديها إمكانات أخرى لكي تجرب وتعمل من أجل تطورها. وربما يمكن القول أنه في "الحالة المغربية" هناك تجارب سياسية جديدة لا تتطور تلقائيا، وتستحق الانتباه والدراسة.

و لأن الأزمة الاجتماعية ببلادنا باتت مألوفة وعمرت طويلا، ولأنها أزمة مست الحياة الاجتماعية كلها وعلى أكثر من صعيد، وحولت شرائح مجتمعية بكاملها للعيش تحت عتبة الفقر المدقع، والعيش تحت الرعاية والتكافل الاجتماعي نتيجة تعميق الفوارق الاجتماعية؛ فإن أي مشروع ديمقراطي حداثي لن يكتب له النجاح ولن يتجاوز الوضع السياسي القائم، إلا إذا انتقل الشباب المغربي والنساء المغربيات وكافة الشرائح الاجتماعية التي تعيش القهر الاجتماعي، من وضعية "التضامن العائلي" و"التكافل الاجتماعي" و" نظام الخير والإحسان"، إلى وضعية التمتع بالحقوق الاجتماعية، المدنية والسياسية، المدعمة بقيم الحرية والعدالة والتعاقد.

فكيف نتأمل حالتنا التاريخية هذه بكل عناصرها وأبعادها انطلاقا مما يعيشه حزب الأصالة والمعاصرة من نقاش بين مكوناته استعدادا للمؤتمر الوطني الثالث؟

يمكن الإجابة عن هذا السؤال بأشكال مختلفة، ومن بينها الاستناد إلى واقع العديد من الدول التي شهدت تحولات راديكالية وجذرية انتقلت فيها السلطة من نظم تسلطية إلى نظم ديمقراطية. وهو ما يسمى في العلوم السياسية بالموجات الكبرى التي اجتاحت العالم طوال القرن العشرين وما بعده، وتوجت بعملية التحول نحو الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة من خلال الانتخابات. ولنا نماذج كثيرة تذكرنا بتجارب الشعوب التي عانت الأمرين في أوروبا الشرقية وآسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، وصولا إلى ما يحدث حاليا في الشرق الأوسط وبعض دول شمال إفريقيا..

كما يمكن الإجابة عن السؤال من خلال الإقرار بأن الواقع السياسي بالمغرب يجمع اليوم في بيت واحد بعض سمات النظام التسلطي وبعض سمات النظام الديمقراطي، وهو ما لا يمكن معالجته بارتسامات ذاتية حول الواقع السياسي أو بشحنة انفعالية وعاطفية. لأن الصراع بين القطب التسلطي والقطب الديمقراطي الحداثي هو صراع سياسي حول السلطة، وأن الوعي الواقعي لحزب الأصالة والمعاصرة يدعي تأسيس مشروع مجتمعي يدافع عنه ويعمل على تطوير تجاربه من دون أي مس بالحق في الاختلاف أو تعصب إيديولوجي أو تطرف مذهبي. والمهم هنا هو الوعي الاجتماعي وإيمان مناضلات الحزب ومناضليه بالحراك المجتمعي القادر على قلب موازين القوى لصالح المعسكر الديمقراطي الحداثي، وهذا يفرض تجميع الطاقات وتماسكها وانخراطها في نضال القرب.

و انطلاقا مما ذكرناه، لا نعتقد أن المرحلة الحالية في حاجة لآلة الدعاية المجانية أو لارتداء أقنعة الانقسامية. إن التجربة السياسية التي عاشها المغرب كلها دروس وعبر بدءا بالتجارب السياسية التي انطلقت مع الحزب الشيوعي المغربي مرورا بحزب الاستقلال وانشقاق 1959 وولادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وانقسامه وميلاد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وما تلاه من انقسامات استمرت إلى حدود اليوم، وكلها (الدروس والعبر) أعطت شحنة جديدة ومتجددة للعمل السياسي في بلادنا، رغم استمرار منطق الانشقاقات بين النخب السياسية، وهي الشجرة التي تخفي غابة علاقات وصراعات سياسية واجتماعية بالأساس.

و أعتقد أن استحضارنا لما ينتظر حزب الأصالة والمعاصرة من تحديات مستقبلية وعلى رأسها استحقاقات 2016، يتطلب من مناضلاته ومناضليه كسر طوق المسلمات البسيطة التي لازمت لمدة طويلة رؤيتهم للحزب وللصراع الاجتماعي والسياسي ببلادنا. فهناك من جهة تطورات عالمية نتج عنها اختلالات عميقة أشعلت فتيل الحرب ونار الاقتتال، وهناك من جهة أخرى، وتحت ضغط الحراك العربي-المغربي، استجابة الحكم لمطالب الإصلاح الدستوري والسياسي. وهذا يدل على أن التناقض لازال قائما بين استمرارية المنظور التقليداني والمحافظ كعنصر أساسي للحكم في المغرب وفي دول أخرى، وبين المنظور التقدمي الذي يؤسس للقطية مع كل العوامل الضاغطة على دينامية الإصلاح.

إن الربط بين نهوض المغرب وبناء دولة الحق والقانون، وبين ما يحمله المشروع الحداثي الديمقراطي من مضامين، هو وعي وحصيلة ممارسة سياسية، وهو استمرارية تجربة تؤمن بأن الشكل المستقبلي للمجتمع أغنى بكثير مما نتوقعه لمستقبلنا الذاتي.

إن ممارستنا للسياسة يجب أن تكون ممارسة للحياة اليومية، بمنطق وجهد ومحاولة لتفسير معوقات التغيير ببلادنا. كما أن إيماننا في أشكال الاندماج بين المجتمع وعلماء المجتمع، هو ما يمنحنا حجة الدفاع عن أفكارنا ولو كانت خاطئة. وهو نوع من التحدي الذي يفرضه علينا الواقع وليس نزواتنا الذاتية.

نشعر بالظلم، كما نشعر بالسخط الجماهيري على أوضاء البطالة والغلاء وسوء تدبير المرافق العمومية، وحرمان الشباب/طليعة المغرب من الحق في الثروة، وتهميش النساء في الحياة الاقتصادية والسياسية..و دورنا هو المساهمة في التغيير الذي يطبع الواقع السياسي ببلادنا. إن ما هو "كائن بالقوة" والذي "لم يكتمل بعد" – يقول جان دوفينيو- يستطيع أن يفتح للممثل في هذا المشهد أفقا جديدا، لا يراه إلا من خلال تطور الحدث، كتعبير ممكن عن حريته هو نفسه.

 

المريزق المصطفى/ فاعل سياسي

 

في المثقف اليوم