آراء

سؤال المركزية الديمقراطية

almustafa abduldaemأتيحت لي مؤخرا فرصة للنقاش الهادئ مع أحد إطارات جبهة البوليساريو، الذي اعتبر أنني في كاتاباتي النقدية للتجربة السياسية للبوليساريو، لا أستحضر "عن خطأ" اعتماد جبهة البوليساريو مبدأ المركزية الديمقراطية، مقدرا (أي إطار البوليساريو هذا) أن قيام جبهة البوليساريوكتنظيم سياسي قوي، كان رهينا بنجاحها في إرصاء مركزية ديمقراطية تكون هي الأساس لبناء الوحدة التنظيمية بدعامة وحدة فكرية طبعا. ولكن المثير في دفاع هذا الإطارفي البوليساريو عن مبدأ المركزية الديمقراطية، هو تعمده " الفطن" بتر مبدأ المركزية الديمقراطية على الأقل عن جذوره التاريخية، فلم يأت مثلا في أي لحظة من لحظات حديثنا عن ميلاد هذا المبدأ (مبدأ المركزية الديمقراطية) الذي ارتبط بالضبط بلينين و بالحزب الشيوعي، وعرف هذا المبدأ المشار إليه في تطوره مرحلتين أساسيتين : المرحلة الأولى وهي مرحلة المركزية المطلقة، والتي اعتبرها لينين ضرورية والوحيدة لتأمين الحزب . لكنه (أي لينين) سيضطر بفعل الأوضاع الداخلية للحزب الشيوعي من جهة، ومن جهة أخرى بسبب تداعيات نجاحات الديمقراطيات الليبرالية إلى تطعيم المركزية بالديمقراطية، أول لنقل محاولة للتوفيق بين المركزية التي ترتكز (على وضع القيادة العليا للسياسة العامة للحزب، وتشرف على تنفيذ تلك السياسة، وتسهر على وحدة الحزب التنظيمية والفكرية والسياسية، كما تحرص وبقوة على ضمان الإلتزام والإنضباط على جميع المستويات )، وبين الديمقراطية التي تكفل (إطلاق المبادرات الثورية)، كما أنها (تعطي للعضو حق مناقشة سياسة الحزب، ويوضح مايراه صوابا في هذه السياسة كما يوضح ما يراه خطأ فيها). صحيح أن مبدأ المركزية الديمقراطية اعتمدته كل الأحزاب اليسارية (كنظام) لإدارة تنظيماته داخليا،واعتمدته كل حركات التحرر عبرالعالم، بل ولا زالت إلى يومنا هذا تعتمده معظم الأحزاب في العالم الثالث . الإطار في جبهة البوليساريو أصر في هذا النقاش الهادئ على "إتهامي" بالتسرع في إطلاق "الأحكام "، و"ردود أفعال " في الوقت الذي كان يفترض في – حسب هذا الإطار في البوليساريو – فهم أن إختيار المركزية الديمقراطية ( ضرورة من أجل ليس فقط صون الأداة التنظيمية والتي أسماها – مركوبنا الإجباري والحتمي – لحين تحقيق كل أهدافنا الوطنية)، ولكن وهذا هو الأهم (لأن ممارسة هذا المبدأ تمكننا من إختبار مدى توافر الملكات القيادية في أعضاء التنظيم، ودرجات الالتزام والانضباط لديهم بما يتيح دوما منع كل مظاهر الانحراف عن السياسة العامة لجبهة البوليساريو). وعند توقفي المستفهم حول (توافر الملكات القيادية)؟، صرح الإطار في البوليساريو أن بقاء محمد عبدالعزيز المثير للجدل كل هذه المدة الزمنية الطويلة ناتج عن عدم توافر هذه (الملكات القيادية ) لحد الساعة في أي عضو من أعضاء القيادة، وعن سؤالي ما إذا كان (انعدام توافر هذه الملكات القيادية) سببه خلل في المبدأ نفسه (مبدأ المركزية الديمقراطية)؟ أجاب الإطار في البوليساريو : أن هذا المبدأ وجد أساسا ليضمن "استحواذ" رأس التنظيم على هذه الملكات القيادية، وفي أحيان كثيرة تنتهي هذه الملكات القيادية مع نهاية صاحبنا، وقدم لي أمثلة مثل نيلسون مانديلا وياسر عرفات وبريجنيف وغيرهم ...

من الواضح أن احترامي لهذا الإطار في البوليساريو بسعيه لنقاش هادئ، والبعيد عن أي تحصن بالوطنية المزايدة، أو أستاذية مهيمنة .. جعلني أجتهد في نقل أفكاره بكل أمانة وبكل إمتنان أيضا ..إمتنان لأنني شعرت فعلا أن هم الرجل كان محاولة الإقناع الفكري، وهي في نظري ومهما كان إختلافنا تعكس مستويات تحضرنا، وقدرتنا على القبول بالآخر، وبالإختلاف . .. الأكيد أنني عكس صاحبنا المحترم أعتبر أن مبدأ المركزية الديمقراطية ليس لا بهذا الصفاء ولا الطهر اللذين صوره بهما، وللأسباب التي سأذكرلابد من الإشارة إلى تغير على مستوى التسمية من المركزية الديمقراطية، والذي أصبح الديمقراطية المركزية .. أقول المركزية الديمقراطية، أو الديمقراطية المركزية أولا : هما مفهومان متناقضان ومتعارضان، فالديمقراطية تعني حرية التعبير، وحرية الرأي، والمناقشة الصريحة، وقوة الإقتراح والدفاع المستميت عنه، والنقد والنقد الذاتي و...، بينما المركزية والتي يجب أن نعترف وحتى من خلال مرجعيتها تعني وجود وسيلة ممكنة لفرض ديكتاتورية بمواصفات معينة تتخذ في الغالب شعارات أن الديمقراطية قد تؤدي إلى (الفوضى والتسيب والسماح بالدعوة للآراء والأفكار المعادية .. أو السماح بوجود تكتلات داخل التنظيم، همها التعريض بسياسته وممارسة النقد بصورة غير مشروعة، أو ممارسة أعمال التخريب ونشر الفوضى أو البلبلة والتفكك في صفوفه). وثانيا فالحديث عن هذا المبدأ المركزية الديمقراطية أو الديمقراطية المركزية، يتم بدرجة كبيرة من عدم التكافؤ فيما بينهما (أي بين المركزية والديمقراطية)، فالمعتمد طيلة سنوات هو المركزية بما تعنيه من تطبيق صارم لضوابطها، ونزوع تام لنوع من الديكتاتورية في التنفيذ، وأما الديمقراطية فلا يلجأ إليها إلا كل أربع سنوات في حالة البوليساريو، وبالتالي لا تستدعى الديمقراطية إلا في المؤتمر الذي ينعقد عادة بعد سنوات من المركزية، وغالبا ما تكون هذه الديمقراطية المستدعاة للمؤتمر العام شكلية، لأنها تخضع للتخطيط والتوجيه المسبق، والذي تتحكم فيه القيادة المتمركز فيها كل السلط والصلاحيات، والتي تسمح له بإتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتمرير كل مشاريعه أيا كانت حتى تلك التي تتنافى والمبادئ العامة للديمقراطية، ومن بين هذه الإجراءات المنافية للديمقراطية مثلا الحرمان من صفة مؤتمر بوضع شروط على مقاس المؤتمرين الموالين للقيادة، وطرد " العناصر المزعجة "، وكلها عناوين تعريف لينين للمركزية باعتبارها (حالة طوارئ ضد المصادر الكثيرة للتذبذبات السياسية) . وبمعنى أوضح فالمركزية هي السلطة التي تطبق الديمقراطية وفق ما تسعى إلى تحقيقه من نتائج معدة سلفا .

وما لا شك فيه، أن كل ديكتاتورية مهما كانت طبيعتها إلى زوال، وإذا ما أخذنا التحولات التي أعقبت سقوط جدار برلين، والإنفتاح الذي تعيشه العديد من التنظيمات السياسية على ما يعتمل في داخل من تيارات وأجنحة باعتبارها تعكس الطبيعة البشرية الخلاقة شريطة إخضاعها في تطورها الطبيعي لآليات ديمقراطية تمتحن قدراتها وكفاءاتها، ودرجات التزامها وانضباطها في مواجهة كل القضايا وكل المواضيع، وبالخصوص في مواجهة تحديات معينة، والقدرة على إتخاذ القرارات. وهكذا نحفز الجميع على المشاركة السياسية الفعالة بما يسهم في إنقاذ القرار السياسي من الإحتكار، ونفسح المجال أمام ضبط حقيقي للعمل التنظيمي والسياسي يقطع الطريق وبوسائل ديمقراطية عن كل من لا يمتلك الوعي والنضج الضروريين لتحمل أي مسؤولية . إن الديمقراطية المركزية نظريا قد تعني احترام حق العضو في المشاركة، وفي التعبير، وفي الانتخاب الواعي للقيادة المسؤولة أمام المؤتمر، دون إقصاء لرأي الأقلية . لكن التجربة أثبتت أن مبدأ المركزية الديمقراطية عرف دوما تغليب المركزية على الديمقراطية،وأعطت الأهمية القصوى للإنضباط الصارم .. والذي يعني الخضوع التام للبند (الذي ينص على إلزامية قرارات القيادة)، وهذه الإلزامية هي ما يجعل أخذ القيادة برأي القواعد صوريا فقط . والخطر كما اشار إلى ذلك الإطار في البوليساريو هو تحويل مبدأ المركزية الديمقراطية إلى آلية توفر كل ملكات القيادة وتختزلها في رأس التنظيم، أو ما يعني أن ملكات القيادة لا تنتقل لغيره إلا بوفاته، ولكن يبقى الأخطر كما أكد نفس المصدر أن هذه الملكات القيادية قد لا تنتقل لمن يحكم بعد الزعيم ./.

في المثقف اليوم