آراء

"الأصالة والمعاصرة": الأسباب الفلسفية والإضاءة الرمزية

1elmrazik almustafa. تمهيد: في البداية، أود لفت النظر إلى أن حزب الأصالة والمعاصرة لا زال يشكل إحدى الظواهر البارزة في الحياة السياسية المغربية، نظرا لما يلعبه من أدوار طلائعية تجسيدا لمبدأ المشاركة والتنمية السياسية والتعبير عن إرادة المجتمع بمختلف مكوناته والدفاع عن دولة المؤسسات، لغرض التنافس على السلطة بشكل سلمي. وهو ما يجعل أي محاولة لنقاش فلسفته تخضع إلى تفسيرات سياسية وثقافية مرتبطة بمراحل تاريخية معينة، شهدت العديد من التغيرات على مستوى الأفراد والجماعات والتشكيلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. والهدف من هذا المقال ليس هو تقييم حزب الأصالة والمعاصرة على ضوء تجربته ومواقفه، بل الهدف هو إضاءة نوع الإشكالية الناتجة عن الإحالة إلى مشروعه الديمقراطي الحداثي الذي يتبناه ذات الحزب.

 

2. الديمقراطية والاستقلال لا ينفصمان

لقد شكل موضوع "الحكم والديمقراطية والعدل والمساواة" محورا مركزيا لدى العديد من الأدباء والفلاسفة والانثروبولوجيون وعلماء الاجتماع والقانون. ولم تكن مساجلات الرواد الكلاسكيين والنيو- كلاسيكيين والماركسيين وما بعدهم حول الموضوع ترفا فكريا أو نزوات ذاتية، بل مساجلات بين "العقلانية الاقتصادية" و"العقلانية الإجتماعية" أو الجمع بينهما، وإلا لما كانت الشعوب والمجتمعات قد وصلت إلى ما وصلت إليه منذ أن بلور الفيلسوف الانجليزي تواماس هوبز أطروحاته الشهيرة في المجال السياسي والحقوقي، وأهمها نظرية "الحق الطبيعي" و"العقد الاجتماعي" (المصطلح الذي تردد في تاريخ أدبيات الفكر الإنساني منذ القدم) والذي من خلاصاته النظرية هو أن وجود الدولة/السلطة يرجع إلى الإرادة المشتركة لأفراد الجماعة. وهي النظرية التي شكلت نموذجا صارخا للإجتهاد العلمي والمعرفي بين العديد من الفلاسفة أبرزهم جون جاك روسو وجون لوك، وهؤلاء جميع من بين من غيروا مجرى تاريخ الشعوب والأمم.

إن استحضار هذا التراث الإنساني، ليس اختيارا اعتباطيا، إنه اختيار نريد منه استحضار ميزة الإنسان العاقل، المؤثر والمتقدم، والوقوف عند أسراره وسياقات صيرورته. ويقودنا الحديث هنا عن أوغست كونت الذي أراد أن تدخل الفلسفة في صميم حياة المجتمع، لتنظيمه وفق القواعد التي يقررها العقل الإنساني، مشددا على تلازم الحركة الفكرية والاضطرابات الاجتماعية. وهو ما أدى إلى خلق تراكمات فكرية وإبداعات متنورة ساعدت مدارس جديدة أخرى على تفسير وتطوير كثير من القضايا والظواهر الاجتماعية المطروحة داخل المجتمعات.

إن القراءة المتأنية لجانب من هذا التراث الإنساني، تجعلنا نتفاعل أكثر مع واقعنا المغربي انطلاقا من كل الأسئلة التي أعادت طرحها فلسفة القرن العشرين والتي أظهرت معها إيديولوجيات متصارعة فيما بينها، وصلت إلى حد الاهتمام بما هو محلي.

و إذا كان ألتوسير يوكل إلى الفلسفة مهمة القبض على كل السلطات التي تدير شؤون الإنسان الاجتماعي، كالدين والأخلاق والسياسة والجمال والاقتصاد، فإن العروي يعترف (في مفهوم الدولة) بأن العلم الذي يبحث في اجتماعيات الدولة، علم السياسات، مهجور في مجموع البلاد العربية وأن ما أنجز من دراسات في هذا المجال تم في إطار معاهد أجنبية. ويختم قوله ب"أن الحصار المضروب على السياسات الموضوعية يشكل في حد ذاته مؤشرا على ضعف حرية المواطن". والسؤال الذي يطرحه العروي هو "هل يدل ضعف مؤشر الحرية الفردية على أن الدولة قوية؟".

فهل نريد الديمقراطية أم نريد الاستقلال، أم هما معا؟

إن حزب الأصالة والمعاصرة، نشأ أولا في المغرب ولم ينشأ خارجه. ومن أسسوا لوجوده هم مغاربة بغض النظر عن انتماءاتهم السوسيو- مهنية أو الجغرافية أو حتى الطبقية. ثم أن هذا الحزب جاء في زمن احتدام الصراع الناجم عن عدم تطبيق مبدئي الحرية والعدالة. إنه جواب موضوعي على طموحات سياسية وثقافية وايديولوجية مشروعة، مادامت سلمية، منظمة، مؤطرة، ومسؤولة أمام المؤسسات. وإذا كانت هناك نواقص قد شابت هذا الحزب، فإن ما يجري على حزب الأصالة والمعاصرة جرى في الماضي ويجري في الحاضر وقد يجري في المستقبل على كل تجارب الأحزاب السياسية عبر العالم. فكل الأحزاب السياسية التي توجد داخلها حياة مدنية فهي ليست كتلة متجانسة، قابلة للتحول في أي زمان ومكان، ومعرضة للنقد والصراع، وقادرة على الاستمرارية مهما كلفها ذلك من تضحيات أو تنازلات حسب موازين القوى المتحكمة في الصراع.

و لهذا، إن الديمقراطية (في نظر العديد من الفلاسفة) - لا من حيث تعريفها الحقوقي والفلسفي وإنما من حيث تفعيلها التاريخي- لا تخلو من ملامح نزعة القوة والغلبة والسلطات التي قد تقوضها من الداخل، لذلك وجب على المشروع الذي يطمح إلى تحقيقه حزب الأصالة والمعاصرة أن يثبت الشكل القانوني والسياسي ب "أخلاق التنشئة المدنية"، التي هي بمثابة "العلم المدني" الذي يجب أن ينتج المساواة والإنصاف.

نعم، المغاربة يريدون مغربا مستقلا وديمقراطيا. لكن من دون مشروع لتكوين "المواطن الصالح" ومن دون إرجاع التعليم الأساسي والثانوي لحظيرة التعليم العمومي (على غرار تجارب أمريكا، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، لأن ما تنتجه المدرسة العمومية من "فضائل مدنية" تمنع الديمقراطية من أن تكون ذات بعد واحد، ألا وهو البعد الاقتصادي المحض الذي لا يمكن إشباعه إلا عن طريق التوسع والهيمنة وتفقير الملايين من أبناء الشعب)، فإن أي مشروع سياسي لن يكتب له النجاح، لأن الديمقراطية والاستقلال لا ينفصمان، ولا مقايضة بينهما، ولأن قيمتهما تظل مقصدا في التاريخ تصنعه إرادة البشر لتوسيع دائرة الحريات وتأمين الاستقلال الأصلي.

 

3. "الأصالة والمعاصرة" إضاءة في الحياة السياسية

لم يرث جيل ما بعد الاستقلال الذي ولد ما بين الستينات والسبعيانات من القرن الماضي إلا طموحات وأحلام جيل الأربعينات والخمسينات الذي صاغ وبلور شعارات وأهداف حركة التحرر الوطني، غير أن الدولة فضلت منذ نهاية السبعينات النخب الإدارية والتقنية وحولتها إلى أجراء منفذين لوظيفة السلطة، وهمشت المثقفين والمفكرين وقطعت الطريق على المعرفة التي ينتجونها.

و من خلال تتبع المسار التاريخي لهذا الجيل، يمكن القول أن ما يمكن استخلاصه من تلك المرحلة أنها شهدت بداية الوعي بالدولة المغربية اللاعقلانية، العنيفة والعصبية التي تديرها بنية مخزنية عتيقة قائمة على العلاقات التقليدية والعشائرية، أساسها الاحتقار وقلة التقدير للنخبة المغربية التي كان قد تبلور لديها وعي بالوحدة المغربية وشعور بالمجموعة العربية الواحدة، أو بالقومية العربية، ضد التبعية الكولونيالية.

تلك المرحلة، كانت أيضا مرحلة النضال ضد حكم الإقطاع في العديد من مناطق المغرب وضد الكلونيالية ونواة تطورها الرأسمالي الامبريالي في المدن الكبرى. غير أن البرجوازية التي ورثها جيل ما بعد الاستقلال، استبدت هويتها الشوفينية بدل انصهارها في التقدم والتطور وتحديث بنيات المجتمع.

وغني عن القول أن اتساع الهوة بين هذه الموضوعات في زمانها ومكانها، وبين تطلعات أبناء جيل الثورات التكنولوجية الكبرى والتحولات السياسية العميقة، تجعلنا نؤكد على الطابع الشمولي في رؤيتنا للأشياء لدراسة أية تطور تاريخي لهذه المرحلة، وتجنب الأحكام النهائية عن القضايا السياسية والاجتماعية التي طبعت تلك المرحلة.

يقول أرسطو "المواطن المساهم في إقرار القوانين. ومن مجموع هؤلاء المساهمين تتكون المدينة أي الهيئة السياسية". وحسب العروي، فإن روسو، الذي يفتخر بأنه مواطن بجنيف يقول، أن جان بودان، مؤسس نظرية السيادة، وهو فرنسي، لم يعرف الفرق بين المواطن والمساكن وأن دولامبير وحده أدرك الفرق بين المقال الذي خصصه لمدينة جنيف، والذي قسم فيه سكان المدينة الى أربع طبقات، قليلون منهم فقط يساهمون في الحياة السياسية، ويعتبرون اذن مواطنين.

إن حزب الأصالة والمعاصرة يستحضر بشكل جدي تراث الإنسانية وينهل منه، كما يضع في نفس الوقت التحولات التي عاشتها (الإنسانية) في سياقاتها التاريخية، وخاصة كل ما يتعلق بالمواطنة وبالحرية والمساواة وو العالة الاجتماعية وحقوق الطبقة العمالية والمرأة والحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، وصولا إلى حقوق الأطفال والعجزة والمهاجرين، ثم الحقوق الثقافية والبيئية وذوي الاحتياجات الخاصة.

إن حزب الأصالة والمعاصرة، يؤكد على شرعية كل هذه الحقوق والمكتسبات التي ضحت من أجلها الشعوب والمجتمعات بالغلي والنفيس، ولا يتجاهل أي حق من حقوق المواطنة. ويعتبر مساهمته السياسية في نفس الوقت جزء لا يتجزء من "تمغربيته" التي تؤرخ لجذور حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار والنضال ضد الامبريالية والصهيونية، وكل ما راكمته الحركة الوطنية وأجيال حركة اليسار العالمي، العربي والمغربي من ايجابيات وفرص للتحرر الوطني والتحرر الاجتماعي.

و لأن نشأة حزب الأصالة والمعاصرة، تزامنت مع بداية القطيعة مع مغرب الجمر والرصاص وبناء مغرب المصالحة والتعايش السلمي، وبداية انتصار الثورة الحقوقية الأولى في المغرب، والشروع في المرحلة الانتقالية من "المغرب ما بعد التقليدي" إلى مغرب الإنصاف والمصالحة، كمقدمة من مقدمات التحول نحو النضال المشترك المعادي للعزوف السياسي وللمساومة على مكتسبات الشعب؛ فإن إضاءته مرتبطة بمدى انخراط مناضلات ومناضليه في معركة الديمقراطية الاجتماعية للإجابة على أسئلة التنمية والدمقرطة والتحديث بالمغرب.

و بالارتباط مع عوامل أخرى، شكل ظهور الأصالة والمعاصرة خلخلة سياسية، تمخض عنها حراك سياسي بين الفاعلين الأساسيين في الحقل السياسي، وإضاءة سياسية مغربية-مغربية، في ساحة لازالت تعاني من مخلفات جراح الماضي التي لم تندمل بعد. ناهيك عن ضعف المشاركة السياسية وتوسيع الهوة بين الأحزاب السياسية والمواطنين، واستمرار الأمية والشعوذة والإيمان بالخرافة بدل العلم، الخ. وكلها عوامل ساهمت في لجم توسع المد الحداثي الديمقراطي في زمن ما بعد الحداثة..

 

خاتمة

إن المرحلة التي أعقبت الأزمة السياسية الثالثة، كادت أن تنتهي بسكتة قلبية، لو لا ما شكلته تجربة التناوب من ايجابيات على مستوى فتح العديد من الأوراش السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما معركة اليوم، فهي معركة التربية والحرية والعدل والمساواة، ومعركة من أجل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية كركيزة أساسية للمشاركة السياسية.

 

المريزق المصطفى/ فاعل سياسي

 
 

في المثقف اليوم