آراء

تونس:ما اشبه الليلة بالبارحة او الشجرة التي تغطي الغابة

alarabi benhamadiلا شك ان الكثيرين يتذكرون انتفاضة الخبز لسنة 1984 التي عمت البلاد التونسية من أقصاها الى أقصاها واسفرت عن عشرات القتلى والجرحى بالرصاص العشوائي للجيش او البوليس. انطلقت شرارتها الاولى من مدينة دوز، بوابة الصحراء التونسية، على خلفية الزيادة المشطة في اسعار العجين ومشتقاته، ولقد صاحبت تلك الانتفاضة العارمة عمليات نهب وتخريب عقبتها حملة اعتقالات واسعة في صفوف السياسيين واوساط المجتمع المدني، فضلا عن مجموعات كبيرة من الشباب المهمش بتهمة السرقة والعنف، لكن بورقيبة ورغم شيخوخته استطاع امتصاص انتفاضة الكسكسي كما سماها الصحافي الفرنسي الشهير بول بالتا (الكسكسي اكلة متداولة بكثرة بالجنوب التونسي)، وذلك بالرجوع في اسعار الدقيق و مشتقاته وعلى رأسها الخبز الى ما كانت عليه قبل الترفيع المشط في اثمانها (من منا لا يتذكر قولة بورقيبة الشهيرة <نرجعو وين كنا>!)، كما قام بورقيبة، في مرحلة ثانية، باطلاق سراح السياسيين ونشطاء المجتمع المدني رغم الصراع المحتدم على السلطة بين اجنحة النظام وخاصة بين الوزير الاول المرحوم محمد مزالي ووزير داخليته المتشدد ادريس قيقة المتهم، في ذلك الوقت، حسب شهادات محمد مزالي ذاته، بخلق فراع امني والدفع بمليشيات ومساجين حق عام، تم اطلاق سراحهم مؤقتا، قصد النهب والتخريب لتحميل مزالي المسؤولية ليتم ابعاده من طرف بورقيبة ثم محاكمته . اما مجموعات الشباب المتهمة بالسرقة فلقد وقع الاحتفاظ بها وتمت محاكمتهم وسلطت عليهم احكام متفاوتة من السجن حتى الاعدام بتهم السرقة والسطو والقتل، وكان القصد من تلك المحاكمات المسيسة هو تحويل صبغة انتفاضة الخبز التي هزت اركان النظام من انتفاضة اجتماعية الى مجرد قضايا حق عام . لكن بفضل يقظة ونجاعة المجتمع المدني التونسي ومعاضدة المجتمع الدولي، تم في الاخير العفو عن مجموعات الشباب المنحدرين في غالبياتهم من اوساط شعبية، وهكذا سجل التاريخ ان انتفاضة الخبز الكبرى هي انتفاضة شعبية تقف وراءها الجهات والاحياء المهمشة المطالبة بالعدالة الاجتماعية والجهوية، وما الترفيع في الدقيق ومشتقاته الا القطرة التي افاضت الكاس.

واليوم وبعد مرور ما يزيد عن ثلاث عقود كاملة وبعد مضي خمس سنوات على ثورات الربيع العربي، انطلقت هذه المرة من مدينة القصرين، بالوسط التونسي، الفقيرة والمهمشة انتفاضة كاسحة زعزعت حكومة الكارتي التونسية، المحكومة بالمال والاسلام السياسي والدولة العميقة العائدة لتوها للساحة التونسية مكشوفة الوجه عبر حزب نداء تونس الذي تأسس على عجل كرد فعل على حكم الترويكا المثير للجدل بقيادة حركة النهضة الاسلامية. اما دوافع انتفاضة جانفي 2016 فهي البطالة المزمنة لاصحاب الشهادات العليا بالخصوص، فهي صرخة المعطلين وانين الجهات التي اهملها نظامي بورقيبة وبن علي ولم تنصفها الثورة التي مثلت مهدها، فهي صرخة ربع سكان البلاد التونسية الذين يعيشون تحت سقف الفقر وقد مرت على ثورة الكرامة ام الثروات العربية ما يزيد على خمس سنوات.

فبرغم ان الرباعي الحاكم بتونس اليوم قد اتت به رياح الديمقراطية، لكن معالجته لانتفاضة المعطلين المنطلقة من الجهات والاحياء المهمشة لا تختلف في جوهرها كثيرا عن منهج نظام ما قبل الثورة المتشدد،

حيث تم اختزال انتفاضة المعطلين انطلاقا من مدينة القصرين الفقيرة والمهمشة على انها عمليات نهب وسرقة تحركها احزاب واياد خفية يعرفها رئيس الجمهورية بالاسم على ظهر قلب حسب تصريحه، و ذهبت جريدة الضمير التونسية القريبة من النهضة الى اكثر من ذلك حيث اعتبرت تحرك المعطلين المسحوقين محاولة انقلابية فاشلة لم تحدد بالدقة المطلوبة من يقف وراءها. اما الاعلام الذي يتمتع بحرية غير مسبوقة نتيجة ثورة الكرامة التي كان وقودها المهمشين، فلم يكن في الموعود، ففضلا على انه اعلام غير حرفي، لم يتخلص من ماضيه كبوق دعاية للنظام الدكتاتوري السابق، لذا فهو في مجمله تحت رحمة المنظومة القديمة الذي بقي وفيا لها ويتمعش منها .. فلقد تفنن في التشهير بانتفاضة المعطلين خاصة من اصحاب الشهادات العليا الذين اضناهم التطواف والبؤس، فلقد نسج روايات عن عمليات سطو وسرقة كما تحدث في الافلام السينمائية كما اوهم الرأي العام، ونجح في ذلك، ان داعش تقف على اهبة الاستعداد بالحدود الليبية على متن سيارات رباعية الدفع للانقضاض على تونس وان الارهابيين بجبل الشعانبي يستعدون للنزول للالتحام بالمحتجين. لكن التاريخ ينصف مرة اخرى انتفاضة الشعوب، فهاهو مجلس الشعب والحكومة يلهثون لايحاد حلول للمعطلين، وهو اعتراف صريح بلب المشكل المتمثل في البطالة والتهميش، وما السرقة والنهب الا احداث جانبية تحدث شرقا وغربا.

والطريف ان خلال انتفاضة الخبز منذ ثلاث عقود كانت الحرب على خلافة بورقيبة على اشدها واليوم فثورة المعطلين تشهد تفكك حزب تونس الحاكم نظريا الى اشلاء.  

رغم مرور الزمان و اندلاع ثورات الربيع العربي فان المعالجة الامنية لقضايانا بقيت راسخة في اذهاننا نحن العرب. فما اشبه الليلة بالبارحة او الشجرة التي تغطي الغابة.

 

العربي بنحمادي - تونس

في المثقف اليوم