آراء

الأقاليم غير المرئية

saleh alrazukبدأت الدعوة لتقسيم سوريا تتراجع لمصلحة كيان فيدرالي يضم كل الفرقاء. وأود أن أضيف الغرماء. فالخلافات غير المعلن عنها قبل هذه الفوضى العسكرية كانت تدخل في عداد المسكوت عنه. يعني هي موجودة و لكن الجميع يخجل من التصريح بها.

كانت الوحدة الوطنية أكبر كذبة اخترعناها كي نبدو أسوياء. جزءا من المجتمع الدولي. ولكن الحقيقة أن الفراغ كان يتوسع لدرجة أصبح معها الكلام عن بنية تحتية نوعا من الوهم. كيف يمكن لاقتصاد قوي ومركزي أن يدخل في هذه المتاهة إن لم تكن حدوده افتراضية؟.

الواقع أن الفيدرالية حل ناجع. إنها ترفد الكيان السياسي القائم بأدوات فعالة.

لا يوجد عيب في أن يتألف الوطن الواحد من تجميع الأجزاء المكسورة. فأجزاء مجتمعاتنا مشوهة بما فيه الكفاية. وتعاني من العقد والأمراض. ولا يمكن استثمار طاقاتها إلا ضمن حدود حالة الطوارئ التي تشل تفكيرنا. أصلا أكثر من نصف عقل الكفاءات عاجز عن العمل إما بسبب الخوف أو الحاجة.

ما المشكلة في أن يتطور العمل الاجتماعي بنفس الاتجاه الذي تعمل فيه الأديان منذ عام 1946 ولحتى هذه اللحظة؟.

فالصلوات في الكنائس بالسريانية أو اللاتينية. وحتى اليهود ينعمون رسميا بمطلق الحرية في أداء طقوسهم وفي تلقي أصول ديانتهم. ولو هناك تضييقات فهي موجهة ضد اليهودية السياسية على قدم المساواة مع الإسلام السياسي. وخذ مدرسة السموأل في حلب كمثال على ذلك.

لقد عاشت هذه المدرسة في منطقة الغيتو اليهودي داخل المدينة حتى عام 2000. وكان إلغاؤها بسبب هجرة كل الطلبة وذويهم لخارج سوريا بلا عودة.

طبعا لم يحصل ذلك بسبب طفرة أو وعي مفاجئ ولكن بعد السماح لليهود بالسفر. كما فعل الاتحاد السوفياتي في فترة غورباتشوف. لقد منح لليهود حق السفر. وأغرب ما في الموضوع أن يرافقهم جينكيز إيتماتوف مؤلف (جميلة) و(السفينة البيضاء) و(وداعا يا غوليساري).

لم نفهم في حينها تصرف إيتماتوف. ولا تزال شتائم رشاد أبو شاور ترن في رأسي. ولكن تلك المفاجأة كانت جزءا من نتاج عقل الأزمات. واليوم لو تفحصنا نتاجه جيدا سنلاحظ كم هو متشابه بخطوطه الأساسية مع عاموس عوز وإيتجار كيريت. لا سيما في طريقة التصورات عن المؤسسات التعاونية.

وأية قراءة متأنية لـ (وداعا يا غوليساري) تكشف عن التطابق بين الكولخوز والكيبوتز . كلاهما جزء من الحل الإنساني لمسألة هدر اليد العاملة ومشاكل الفقر وعلاقة الإنسان بالأرض. ولماذا لا نقول علاقة الإنسان بالملكية الخاصة؟!.

لقد تأسست دولة إسرئيل على مشكلة حول الأرض كما حصل في الاتحاد السوفياتي السابق الذي حول الملكية الفردية إلى عامة. بمعنى من المعاني غيّر علاقة ذهن الإنسان بأرضه. وبوادر هذه الأفكار تجدها أيضا عند عبدالرحمن الشرقاوي. ولكن التعبئة الإيديولوجية أعمتنا عن كثير من الحقائق. ومهدت لتعمية فلسفية أيضا. وحولت مستقبلنا إلى كتلة من الضباب والوهم.

وكما أرى إن أزمة الربيع العربي جزء من هذه المعضلة.

فحرية المعتقدات ليست أهم من حرية الطقوس الاجتماعية. لا سيما في مجتمع علماني كنا ننادي به. وها هو يسقط ليؤكد أن العلمانية مجرد قشور. وأن البروباغاندا لم تبدل شيئا من قناعات حتى أطفال الحضانة. يبدو لي أن الفيدراليات ستكون جزءا من المنظومة المقبلة. فروسيا وأمريكا، وكلتاهما جزء من الرهان الدولي، لهما شكل الدولة الاتحادية. ولا أعتقد أن هذا يهدد استقرار مواطني البلدين. بل يزيد من شعورهم بالحرية والانتماء.

بينما لا يزال مبدأ المحاصصة الذي يعمل به لبنان مصدرا للمشاكل. والدليل على ذلك أن تناقضات متصرفية عام 1861 عادت للظهور مجددا عام 1920* ثم قبيل اندلاع الأزمة الداخلية في 1975. وهذا ما يدعو الإدارة السياسية حاليا للتخلي عن التمثيل الطائفي وتبني مبدأ النسبية**.

لقد تسببت المحاصصة بدورات من العنف لم تبدل شكل المجتمع فقط، ولكن بدلت علاقة الإنسان بطريقة تفكيره أيضا.

ولو عدنا إلى سوريا.. ماذا يمنع أن تتوسع الهيئات الكنسية لتصبح بلديات. فهذا يوفر فرصة للتحرر من العقد النفسية التي تسبب للإنسان الشلل العصابي وبطء الوعي وتدهور الإدراك،  إلى أن تحوله لإنسان غريب عن نفسه. لكن المسألة تتوقف على التوقيت والترتيبات. فتطور ونضوج العقل لا يكون بقرار أو نتيجة إلهام وحدس يأتي من فوق الإدراك بالتاريخ. بل يكون نتيجة للمعطيات الاجتماعية. ونموذج الحداثة الذي فرضته حرب عام 1915 ، بفلسفته عن الكتلة البشرية وضرورة ارتباط الأجزاء بالكل، بدأ بالانحسار وحلت محله فلسفة تنسيق العلاقة بين هذه الأجزاء. لقد أصبح الإنسان يفكر بحرية لامتناهية. بعقل له إسقاطات خارج حدود الإفتراضات المسبقة. وانفصل عن نفسه واندمج بعالم التصورات. ولمحاربة مشاعر الاغتراب، التي تقلل من فرص العمل المثمر، كان لا بد من بلورة تصوراتنا، بحيث تكون ذات مردود مادي ومعنوي أيضا.

إن سياسة الأقاليم، سواء تحققت أم لا، لن تغير من الواقع المتردي والضعيف، إن لم تخفف من شدته. فخطوط العزل بين الطوائف أصبحت موجودة بحكم الأمر الواقع. والنزوح أو الهجرات الداخلية تعمل حسب ميكانيكية تحددها المصلحة والعقل الاجتماعي.

ومع الزمن ستتحول السيولة البشرية إلى جيوب بشرية تشبه الغيتو. وإن عدم اعترافنا بسلطتها على الأرض هو من قبيل التهيئة لمشكلة لاحقة أخطر مما نحن فيه اليوم..

 

*ميثاق 1943. الدكتور باسم الجسر. دار النهار. بيروت.

**محمد زينب. الأخبار اللبنانية. عدد 786. تاريخ 12 آذار 2016.

 

صالح الرزوق

آذار 2016

 

في المثقف اليوم