آراء

لعلمانيّون والدينيّون.. هل يلتقون؟! .. الصدريون والشيوعيون انموذجا

qassim salihyقبل ثلاث سنوات.. كتبنا مقالا بالعنوان اعلاه، إثر ندوة  فكرية بعنوان (الحوار العربي الكردي) أقامها اتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف بالتعاون مع مؤسسة كلاويز الثقافية، في أيار 2013. وانتهزت الفرصة لأدعو الى  حوار بين الفريقين، العلمانيين والدينيين. ولقد ضم فريقنا نحن العلمانيين: حيدر سعيد، عزيز خيون، ناظم حسن، ومثقف عراقي مقيم في اميركا، فيما ضم الفريق الثاني رجال دين يمثلون مرجعيات مختلفة. ودار بيننا نقاش صريح برغم وجود مواقف متشددة واخرى متعصبة، واقترحنا على اتحاد الأدباء والكتّاب في النجف، ومؤسسة المدى تبني مشروع التقريب بين الفريقين.

كنا أشرنا في حينه الى انه مرّ حين من الدهر كان فيه الحوار هو سيد الموقف بين العلمانيين والدينيّين، ومرت احيان نشأت فيها كراهية بين الفريقين وتطوّرت الى حقد وانتقام.. في مشاهد بشعة شهدها العراقيون قبل التغيير وبعده. وتساءلنا عن اسباب هذه العداوة والبغضاء، وما اذا كان بالامكان تجسير العلاقة بينهما.

 دارت الأحداث بشكل درامي، فبعد ان تظاهر العلمانيون في شباط 2011 وبعثت الحكومة أحد (مناضليها) ليعطي أوامره من فوق سطح العمارة المطلة على ساحة التحرير بقمع المتظاهرين، انكفأ العلمانيون ليعودوا في آب 2015 بزخم أقوى.. وعندها دخل الصدريون بتظاهرات مليونية.. ثم اعتصامات أمام أبواب (الخضراء).

الحدث الأهم هنا ان السيد مقتدى الصدر طرح نفسه بأنه (ممثل الشعب وخادمه)، وتحوّله بعد نجاحه في تحشيد انصاره بتظاهرات مليونية واعتصامات ودخوله المنطقة الخضراء الى مصلح اجتماعي و بطل وطني في مطالبته باصلاح جذري وبآلية تعتمد السلام في تعاملها مع القوات الأمنية المرتبطة بالقائد العام للقوات المسلحة السيد حيدر العبادي. ولقد أثمر توحّد الصدريين والعلمانيين عن تقديم السيد رئيس مجلس الوزراء (الخميس 31 آذار) الى البرلمان قائمة باسماء وزراء لتشكيل حكومة تكنوقراط حظيت بارتياح شعبي بوصفها الخطوة الاولى نحو انفراج الأزمة.  كان جلوس الصدريين والعلمانيين معا في خيم المعتصمين الرابضة قبالة المنطقة الخضراء مشهدا دراميا جميلا في مسرحية الأحداث وسابقة تاريخية حققت ما كنا دعونا اليه قبل ثلاث سنوات.

المهم هنا ان يكون هذا الاتفاق مبدئيا وستراتيجيا يهدف الى اقامة دولة  مؤسسات مدنية حديثة، لا ظرفيا او مرحليا. نقول هذا لخشيتنا من حقيقتين سيكولوجيتين:

 

 الأولى، ان العراقيين موصوفون بانهم انفعاليين، والثانية، ان الشخصية العراقية تتحكم بها عقدة الخلاف مع الآخر.

واذا اضفنا لهما مكائد الفاسدين والطائفيين،وخشية اميركا من الصدريين والعلمانيين.. فان التوافق لن يدوم ما لم يكن قائما على وضوح فكري نوجز أهم أسسه في الآتي:

على العلمانيين ان يفهموا أن الدينيين يختلفون في الاسباب التي تدفعهم الى الدين، وانه يمكن تصنيفهم على ثلاثة أنواع:

1.التدين "الغرضي". ويعني التوجه نحو الدين بوصفه وسيلة للحصول على اشياء اخرى ذات قيمة. فالذهاب الى اماكن العبادة يوفر فرصة لتكوين صداقات،يمكن ان تفيد في أوقات الازمات، أو حين يكون الشخص بحاجة الى مساعدة أو اسناد اجتماعي،وقد يحقق لصاحبه مكانة اجتماعية أو اعتبارية أو وظيفية.. وبهذا يكون الدافع هنا تحقيق منفعة تهدف الى خدمة المحافظة على احترام الذات، ويكون الوجدان الديني فيه غير ناضج.

 2.التدين الباحث عن الحقيقة. ويعني التوجه نحو الدين بوصفه سفرا دائم من أجل فهم القضايا الاخلاقية والروحية المعقدة، والمصحوب بمعتقد ان الاجابات السريعة والبسيطة، خاطئة تماما".

 3.التدين الحقيقي.ويعني التوجه نحو الدين الذي يحاول الناس عن طريقه أن يعيشوا دينهم ويستدخلوا تعاليمه. .

 ومن هذا المنظور فأن الدين ليس وسائل لتحقيق بعض الاهداف،وليس رحلة من أجل البحث عن حقيقة،انما هو غاية بحد ذاته، يكون فيه الوجدان الديني ناضجا، ويكون الانسان فيه قد سلّم له نفسا طوعا لذاته وليس من أجل استعماله،فيما يشير واقع حال الدينيين في مجتمعنا العراقي  الى شيوع الصنفين الأول ( الغرضي) والثالث (الحقيقي)، بين من يتخذ الدين وسيلة لتحقيق غرض (سياسي يؤمن مكانة اقتصادية واجتماعية في الغالب) وبين من يتخذه غاية بحد ذاته. وما يعنينا هنا هو ان (الغرضيين) يكونون الأكثر تعصبا والأقل نضجا في الوجدان الديني، فيما (الحقيقيون) يكونون الأقل تعصبا والأكثر نضجا في وجدانهم الديني.. وهذا ما نرجو ان يكون الصدريّون عليه. وبالمثل،فان هنالك صنفين من العلمانيين: (الغرضيين) و (الحقيقيين)، تنطبق عليهم نفس مواصفات الصنفين اعلاه من الدينيين،لاسيما ما يخص التعصب الأيديولجي، اذ يفعل هذا النوع من التعصب نفس ما يفعله التعصب الديني،لأن صاحبه يرى ان (ايديولوجيته) هي الأصلح للناس والحياة فيما يرى الديني المتعصب ان تعاليمه الدينية هي (الحل). وبعكس ما يشيعه مغرضون فانه ليس صحيحا القول بان الشيوعيين ملحدون، فحالهم حال الوجوديين، اذ يوجد فريقان من الوجوديين: مؤمنون يرون أن للانسان طبيعة بشرية خلقه الله بمقتضاها،وملحدون يرون ان الانسان خلقته الطبيعة..وكذلك الشيوعيون فاكثرهم بين العراقيين يؤمنون بالدين ويصلّون ويصومون.

 

 لقد قلنا ان الستراتيجية التي توحّد الصدريين والعلمانيين هي اتفاقهم على اقامة دولة مدنية حديثة، وان هذه الدولة لا يمكن ان تقوم دون اعتماد مبدأ (العلمانية). وعلى الصدريين ان  يفهموا  ان فكرة العلمانية هي ان يكون سن القوانين وانتخاب البرلمان وتشكيل الحكومة حقا للشعب ولا يحق لأية سلطة او قوة او  جهة اخرى التدخل في ذلك،وان يقبلوا العلمانية بوصفها الحلّ المجرب لتحقيق التفاهم بين المختلفين في الرأي والفكر والعقيدة.فقد اعتمدته الولايات المتحدة في دستورها بعد الاستقلال،واعتمدته فرنسا في  ثورتها عام 1789، وتجارب أخرى أوصلت الغالبية المطلقة من الشعوب الاوروبية الى قناعة باعتماد  العلمانية بوصفها ضرورة لا غنى عنها في تحقيق الحرية والديمقراطية،وأن الأمور لا تستقيم الا بأن يتم الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع الديني.ومع ان مقتضيات هذا الحق يتضمن فصل الدين عن العملية السياسية، فان على العلمانيين ان يفهموا ان العلمانية ليست ضد الدين،وان عليهم ان يحترموا معتقدات الآخر حتى تلك التي تبدو لبعضهم انها سخيفة من وجهة نظرهم. ان محنة الوطن ووجود حكام فاسدين سرقوا المليارات ويصرون على البقاء في السلطة هي التي وحّدت الصدريين والعلمانيين في نخوة وطنية مقدسة. وبافتراض انهم نجحوا في انقاذ الوطن من محنته ووضعوا (السرّاق) في قفص الاتهام، فان الدولة المدنية لن تتحقق ما لم يكن المنظور الفكري لحاملي راية التغيير، الصدريين والعلمانيين، قد تغير على وفق الصورة التي قدمناها.. وعندها يكون الطريق سالكا أمامهم لتشكيل تيار وطني عراقي عابر للطائفية والعشائرية يضمن للعراقيين تحقيق مطالبهم وتأمين مستقبل اولادهم ويعيد للوطن هيبة الدولة العراقية.

 

أ.د.. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

في المثقف اليوم