تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

آراء

عندما يتصــارع الأنداد

ahmad mohamadjawadalhakimالأنداد جمع نـدّ، والند هو المِثل والنظير، لذلك فالأنداد،سواء أكانوا أفراداً أو جماعات، فإنهم غالباً ما يكونوا متقاربين في الوزن والكتلة  والعدد، وأيضاً في الممارسات، ولكن ليس بالضرورة في الأفكار. غير أن الصفة المميزة التي تلازمهم في جميع الأوقات هي التصارع والتنازع والمجادلة وتبادل الاتهامات والتنافس والحقد والحسد والبغض والكراهية والتناحر . لكن مـَن هم الأنداد ؟ إنهم،بصفة عامة، الأقوياء ! لأنهم يمتلكون مصادر القوة، من ثروة وسلطة وزعامة ونفوذ وأعوان. أما موقع الضعفاء هنا فإن أقساماً عديدة منهم تتوزع  بين هؤلاء الأنداد، ليصبحوا جيوشاً بشرية تابعة وموالية لهم،بسبب فقدان القدرة لدى هؤلاء الضعفاء على مجابهة الأقوياء من ناحية، ومن ناحية أخرى  حاجتهم وعوزهم، وولاءاتهم الاجتماعية .أما لماذا يتصارع الأنداد ويتنازعون، فيعود لعوامل عديدة : أولاً، التمسك الشديد لكل من هؤلاء الأنداد بأهدافه ومصالحه، دون الاكتراث لمطالب الآخرين. ثانياً، إن نجاح أحد الأنداد في تحقيق أهدافه، غالباً ما يؤدي إلى إعاقة الآخرين عن تحقيق أهدافهم، الأمر الذي يعزز روح التصارع والبغضاء والحسد بينهم. ثالثاً، النزعة المتأصلة عند هؤلاء الأنداد في حب الزعامة والتهالك في سبيلها، والسعي الحثيث للسيطرة على الآخرين من أجل تأمين حياته .رابعاً، لا يتحمل كل من هؤلاء الأنداد أسلوب الخضوع للغير، ولا يطيق أن يرى آخرون يتولون مسؤولية التأثير في حياته. خامساً، معتقدات كل منهم مترسخة  جداً بأحقية أهدافه وصواب أفعاله،ومواقفه أحسن المواقف،وأن الباطل والخطأ ليس عنده،إنما عند غيره، بخاصة عندما يدعي أنه يعمل باسم شخص أعلى من ذاته،وهو يمكن أن يعمل باسم الله أو الماضي أو الواجب، ولكن ليس باسمه، كما يقول أريك فروم في كتابه " الإنسان من أجل ذاته". وعلى أساس هذه الحالة يقوم بإصدار أحكام الإدانة والتبرئة على الغير. والشيء الغريب هنا أن كل من هؤلاء الأنداد ليس لديه أي استعداد لمناقشة معتقداته،ناهيك عن تغييرها. فضلاً عن ذلك أنه يرفض إدراك الحقيقة حتى وأن كانت بينة واضحة. لذلك هم يسيرون كأنما على المبدأ القائل: القوة تخلق الحق.سادساً، إن الذي يشجع هؤلاء الأنداد على التصارع هو مقدرة كل منهم على تجميع عدداً كبيراً من الأعوان والأنصار تحت شعارات جذابة وتبريرات جاهزة، ليتكون لديه، من ذلك، إحساس كبير بالقوة يستطيع من خلالها مجابهة الآخرين. 

ومع كل الذي ذكرناه فإن تصارع الأنداد له جانبان متداخلان: إيجابي وسلبي، كما يبن ذلك علماء الفلسفة والاجتماع.

الجانب الإيجابي، هو أن التصارع والتنازع يؤدي إلى تحريك المجتمع، وبالنتيجة تقدمه وتطويره، لكن العلماء يضعون شروطاً لذلك، وهو أن يقوم هذا الصراع على أساس مبدأي لا شخصي، وهو شرط صعب المنال بخاصة في البلدان المتخلفة، هذا أولاً. ثانياً، أن العيش مع هؤلاء الأنداد تدفع بالإنسان أن يكون أكثر نشاطاً وفاعلية، كما يقول راسل جاكوبي في كتابه " نهاية اليوتيبيا" التي جاءت بصيغة تساؤل بقوله: هل يمكن لأحد أن ينكر أن العيش في مجتمع من الأنداد المتساويين يميل بالإنسان – على وجه العموم – لأن ترتفع معنوياته، وأن تعمل إمكاناته بيسر وفاعلية؟ ثالثاً أن هذا الصراع يساعد في كشف كل فئة ما للفئة الأخرى من أخطاء وسلبيات وسرقات وفساد، مما قد ييسر عملية المسائلة والمحاسبة .

أما الجانب السلبي للصراع فهو الأكثر،يتلخص بالآتي: (1) خلق مراكز قوى داخل المجتمع، مما يُضعف سلطة الدولة. (2) انشغال كل من هذه القوى طوال الوقت بالتفكير بكيفية التغلب على الآخر، ومن ثم الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب والامتيازات. (3) غياب التفكير والبحث في تطوير المجتمع، بخاصة في الابتعاد عن شريحة المبدعين من العلماء والمفكرين وتحجيم دورهم في التنمية والتقدم. (4) يتولد لدى المواطن العادي إحساس دائم بالعجز والشلل وأنه بلا قيمة بسبب ما يتمتع به هؤلاء الأنداد من قوة وامتيازات. (5) استطاعة كل من هؤلاء الأقوياء  توسيع أنصاره والموالين له وجرهم إلى حركة جامحة نحو مصالحه الخاصة، بعد استغفالهم وتظليلهم والاستحواذ عليهم .(6) تتكون لكل من هؤلاء الأنداد شخصية مزدوجة المعايير، فهو من جهة يطالب بحقوقه كاملة، لكنه من جهة أخرى لا يؤدي الواجبات المفروضة عليه.(7) يسعى كل من هؤلاء الأقوياء لحل الخلافات بأسلوب القسر والإكراه.(8) انعدام الحوار القائم على العقل والمنطق بين الأنداد.(9) يتحمس كل من هؤلاء الأقوياء في إدانة أخطاء الآخرين، لكنه يغض النظر عن أخطائه .

وفي الختام نجد أن معادلة الصراع بين الأقوياء كانت في العصور القديمة هي: البقاء للأقوى، ثم تحولت بتطور المجتمعات إلى: البقاء للأصلح، بعد ذلك تغيرت إلى: النجاح للأصلح . لكنها عادت إلى الخلف في المجتمعات التي لازال الصراع دائر فيها، إلى: الصراع من أجل البقاء. لذلك لا توجد خوارزمية مثالية لحل مشكلة سيئة التركيب، لكني أنقل ما ذكره جون برويير في كتابه: "مدارس من أجل التفكير"، بقوله: "التخطيط أمر مهم، عندما يحاول أحدهم حل مشكلة سيئة التركيب. إننا نخطط بأناة وعناية، ومن ثم نبدأ بتنفيذ ذلك المخطط. وعندما نبدأ برؤية النتائج ... غالباً ما نراجع مخططنا. وعندما نراجع مخططنا فأننا أيضاً نغير فهمنا لما يمكن أن يكون عليه الحل الملائم. وهكذا نقع في شرك عملية ارتدادية،فيها تؤثر مخططاتنا في أعمالنا، وفي الوقت نفسه تؤثر أعمالنا في مخططاتنا. وفي عملية كهذه،نعيد باستمرار تحديد مشكلتنا ونعدل أهدافنا ". لكني أكاد أجزم أن هذا الكلام، وغيره مما يكتبه المفكرون، لا أحد يقرأه من أولئك الأقوياء.

 

أحمد محمد جواد الحكيم  

 

في المثقف اليوم