آراء

الهمجية والمدنية!!

قطعت البشرية مرحلة طويلة وقاسية في مسيرتها ما بين الهمجية والمدنية، وربما قد تكررت هذه المراحل في العصور الخوالي، إذ يبدو أن البشرية تغادر همجيتها لكنها تصل إلى حالة من السأم الشديد من مدنيتها، فتطلق العنان لهمجيتها لكي تتسيد وتدمر مدنيتها فتعيد الكرة من جديد.

وما نعيشه في هذا القرن يبدو أنه تعبيرات شرسة عن السأم من المدنية، ذلك أن التطورات التقنية والتكنولوجية إنطلقت بسرعة فائقة خصوصا في العقود القليلة الماضية، مما تسبب في صراعات نفسية سلوكية فكرية معتقدية ما بين البشر بذاته وموضوعه، وما توصل إليه وصار عليه من تفاعلات وتطورات قد لا تستوعبها النسبة العظمى من أذهان البشرية.

أي أن البشرية تطلق العنان لهمجيتها لكي تتخلص من مدنيتها التي توصلت إليها، أو ألقت نفسها في لججها!!

فالمدنية أصبحت عبئا وعبثا لما تحمله من مخاطر ووسائل مباغتة ومدمرة، وقدرات إمحاقية وتفاعلات عدوانية ذات تأثيرات عظيمة، فالمدنية منحت العدوانية الوسائل والقدرات الكفيلة بتجسيدها إلى أقصى ما يمكن التجسيد، وهذا الحال أترع الأعماق بالمخاوف والقلق والتوجس الشديد،  الذي ربما سيدفع بالبشر للقيام بما لا يخطر على بال من السلوكيات العدوانية.

فالسأم من المدنية من أخطر ما تواجهه البشرية في هذا القرن، ويبدو أنه سلوك يتنامى ويسعى لإطلاق عنان الهمجية وتسيّدها ونجاحها في محق ما أنجزته الأجيال من الإبتكارات والإختراعات، وهو سلوك يدفع  بالحياة إلى مبتدءاتها التي تعود إليها بين حين وحين، فالأرض الدوارة تفرض قوانينها على أحيائها ولا يمكن لأي نوع منها أن يفلت من قبضتها، وهذا يعني أن إرادة الأرض تساهم في تعزيز الهمجية للإطاحة بالمدينة وأخذ البشرية إلى حيث إعادة التكوين.

فالأرض موجود كوني حي لا يقبل ولا يسمح بالخروج عن إرادة قوانينه، وإن عجزت الهمجية من تحقيق رغبات الأرض البقائية، فأنها ستعلن الإضراب عن الدوران لوقت ما حتى تتجلد وتقضي على موجوداتها، إلا في بقاع قليلة جدا تبقى فيها بعض الأحياء التي ستتواصل بعد أن تستعيد الأرض دورانها، وهذا الإحتمال ليس خياليا، فالتأريخ يشير إلى العصور الجليدية التي مرت بها الأرض، والتي تعني أنها توقفت عن الدوران أو تباطأت بدورانها، فالدوران لا بد له أن يمر بمراحل تغيير التعجيل، فأما أن يتباطأ أو يتسارع وفي الحالتين ستتحقق تغيرات جيولوجية وجغرافية لا تسمح لحياةٍ كالتي نتنعم بها في عصرنا، وما مضى من العصور التي تمكنا من وعيها.

ولا يمكن تفسير التنامي الهمجي في الأرض إلا وفقا لذلك، وأي تفسير آخر يبدو مقنعا بعض الشيئ لكنه ليس صائبا، فيمكننا أن نرى ونحلل ونفسر، لكن الأحوال وما تؤول إليه لا يمكن تقديرها بصوابية مقبولة بمعزل عن مسيرتها السابقة، وما تحقق في ماضيها، وهذا ينطبق على جميع المستويات السلوكية لكافة المخلوقات الأرضية والكونية.

وهكذا يبدو أن المخلوقات الأرضية أخذت تنحدر إلى وديان الهمجية، وربما لا يمكنها أن تحافظ على بقائها على قمة الإقتدار الحضاري والمعرفي، فقانون الصعود والهبوط ينطبق عليها بقوة وحتمية حاسمة!!

الهَمَج: الرعاع الحمقى

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم