آراء

الفلوجة وسريالية السياسة العراقية

abdulhusan shaabanالسياسة في العراق لا تشبه غيرها في أي بلد في العالم. المشهد السائد يكاد يكون سريالياً، أو يمكن عده من مسرح اللا معقول. فهل يُعقل أن تحتل منظمة إرهابية محافظة كاملة (الموصل) يبلغ عدد نفوسها مليوناً و700 ألف نسمة، وتتمدد بكل أريحية إلى نحو ثلث مساحة العراق؟ وكيف تمكنت مجموعة من الإرهابيين لا يتجاوز عددها بضع مئات من هزيمة جيش وشرطة زاد عدد أفرادهما على ال 60 ألفاً، وبسرعة خاطفة، واستطاعت الاستيلاء على أجهزة ومعدات وأسلحة ومصارف وحقول نفط، وفرض نمط حياة وعيش وقوانين تعود إلى عصور غابرة، مستخفة بالعالم أجمع، لاسيما حين قامت بتدمير آثار تاريخية لا تقدر بثمن، علماً بأنه صُرفت عشرات المليارات من الدولارات لإعادة تأهيل الجيش والشرطة؟

الفلوجة التي ترك معظم سكانها البالغ عددهم 400-450 ألف نسمة منازلهم، وبقي فيها ما يقارب 40-50 ألفاً، لا تزال تحت سيطرة «داعش»، في حين بدأ الحصار يفترس المدينة المعزولة عن العالم الخارجي، والجوع يفتك بأهلها، والأمراض تنتشر، ويتردد عن وجود حالات وفاة وانتحار شبه جماعي.

قد يكون حصار الفلوجة أشد من الحصار البريطاني لمدينة النجف الأشرف في العام 1918، وربما أقسى من حصار ستالينغراد من قبل الألمان في الحرب العالمية الثانية. وهو يستمر منذ شهور من دون اكتراث يذكر من جانب الحكومة، بل أحياناً يُلقى اللوم على السكان الذين لم يغادروا بيوتهم، وتبريره بأنه حصار ضد «داعش» لإضعافها تمهيداً لتحرير المدينة.

ولعل حجة مثل هذه أقرب إلى تبرير «تجفيف البحيرة لكي يتم اصطياد السمكة الخبيثة»، أو إسقاط طائرة ركاب مدنية فيها 270 راكباً، بحجة وجود أحد الإرهابيين على متنها. وللأسف، فإن مثل هذه الأطروحات اللاإنسانية كانت موجودة حتى في السابق، فحين كان يتم فرض الحصار الدولي الجائر على العراق، كان هناك من يبرر بأنه حصار على النظام الدكتاتوري، وهل وجدنا حاكماً على مر التاريخ قضى من الجوع، أم أن الذي يتضرر هو الشعب؟ والأمر له علاقة بحقوق الإنسان بغض النظر عن الجهات المتحاربة.

لقد لحق الدمار بالفلوجة على دفعات، وكان ذلك منذ الاحتلال الأمريكي في العام 2003، حين قامت القوات الأمريكية بدخولها، وفي إبريل/نيسان قمعت تظاهرة محدودة وقتلت 17 مواطناً وجرحت نحو 30. ورداً على إسقاط طائرة مروحية أمريكية وقتل 16 جندياً أمريكياً وجرح 26 آخرين، ثم قتل 4 من شركة «بلاك ووتر» الأمنية، قامت القوات الأمريكية بقصف مكثف انتقاماً من أهل المدينة في 31 مارس/آذار 2004.

 

وقد تمت محاصرة المدينة، واستمرت القوات الأمريكية بقصفها لمدة 5 أشهر (منذ مايو/ أيار ولغاية ديسمبر/كانون الأول 2004) فتم تدمير قسم كبير من البنى التحتية، ولكن الاشتباكات تواصلت حتى أواخر العام 2007، حيث انخرط بعض الأهالي في الصحوات التي تم تشكيلها لمقاتلة تنظيم القاعدة في حينه. وفي العام 2014 وضع «داعش» يده على المدينة، التي وجدها لقمة سائغة، خصوصاً في ظل الشعور بالإقصاء والتهميش وعدم الاستجابة إلى مطالب الإصلاح.

هذا هو وضع الفلوجة التي يعيش ما تبقى فيها من السكان في حالة ذعر وهلع لا مثيل لهما، وهم يبحثون عن طرق للنجاة ومغادرة المدينة قبل أن تبدأ المعارك، لكن الاهتمام في بغداد هو باتجاه آخر، حيث تنفلت الأزمة، بعد وصول العملية السياسية إلى طريق مسدود، وسردية الوقائع صادمة: البرلمان رفض اقتراح رئيس الوزراء بطاقم وزاري جديد، لأنه نسخة من الطواقم التي سبقته، حتى إنْ أطلق عليه حكومة تكنوقراط، وأقدم على خطوة غير مسبوقة بإقالة رئيس البرلمان، حيث يحتدم الجدل حول آفاق وقانونية هذا الإجراء، وقد رفضت بعض الكتل مثل هذا الإجراء صراحة، كما هي الكتلة الكردية والكتلة السنية التي ينتمي إليها رئيس البرلمان المرشح من جانب الحزب الإسلامي، وهي مسألة زادت الطين بلة، كما يُقال، وأدخلت العملية السياسية برمتها في متاهة جديدة ستترك تأثيراتها في اصطفافات القوى، والثقة المفقودة أصلاً بينها.

في ظل هذه الأجواء قام جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة بزيارة إلى بغداد لم يتم الإعلان عنها، كأنه يصل إلى ولاية أمريكية، وكان السفير الأمريكي وحده باستقباله، ليعلن عن دعمه لخطة العبادي للإصلاح، كما بررت واشنطن إن أولوياتها هي القضاء على «داعش» وتحرير الموصل، أما موضوع الإصلاح والتغيير الداخلي فهو شأن عراقي، وكان العبادي قام بتقديم وزارة الظرف المغلق إلى رئيس البرلمان، إلا أن خطوة من هذا النوع استفزت أعضاء البرلمان، الذين لم يطلعوا على أسماء الوزراء المقترحين، وسِيرهَم فكيف سيتم التصويت عليهم؟ وكانت مثل هذه الخطوة أصابت الجمهور بالإحباط والحيرة، وهو يراقب اللاعبين الذين يتقافزون مثلما يفعل الممثلون في سيرك كبير.

وأعلنت إيران من جهتها أنها مع الإبقاء على العبادي الذي ارتفعت مطالبات بإقالته هو الآخر طالما يجري الحديث عن وزارة مستقلين من الكفاءات والتكنوقراط، وبررت ذلك بالموقف العسكري من «داعش» وعدم الرغبة في إحداث تصدع في الحكومة العراقية والجماعات الموالية لها، لأنه قد يصبح من الصعب بمكان إعادة لملمة الوضع.

ولكن العبادي المدعوم دولياً وإقليمياً، يقف على أرض عراقية رخوة، فحزبه «الدعوة الإسلامية» ليس معه، بل مع نوري المالكي الذي لا يزال يتمتع بنفوذ كبير في البرلمان، و«التحالف الوطني» الكتلة التي ينتمي إليها، ليست معه، فمقتدى الصدر وكتلة الأحرار يهددونه، وعمار الحكيم دعا لإقالته، وإن كان الاثنان تراجعا بعد زيارة كيري، ومنظمة بدر، بقيادة هادي العامري لها شروطها، وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، يراقبان ويتحفظان على كل ما يجري.

أما الكتلة الكردية فهي الأخرى تعلن صراحة أنها تنتظر حصتها من الوزارة، واتحاد القوى، يشكك في جدوى خطط العبادي ويدعو لخريطة طريق، والكتل السنية لا تثق به وبغموضه ونزعاته، والأهم في كل ذلك أن الشارع الذي عول عليه في البداية، بدأ يفقد صبره وأخذت صيحات الغضب تتصاعد في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وفساد لا يزال يزكم الأنوف، وتدهور في الخدمات، وبطالة متفشية، وفي مثل هذه الأوضاع ماذا تنتظر الفلوجة المدينة المذبوحة لأكثر من مرة؟

لقد صرح أحد جنود المارينز سابقاً: نحن ذاهبون لمحو الفلوجة، ومثل هذه الخطة طبقت في الرمادي خلال «تحريرها» الذي ساهمت فيه بشكل أساسي قوات التحالف، حتى إنْ غادر سكانها،، حيث تم تدمير نحو 80% من بناها التحتية، وفقاً لسياسة الأرض المحروقة، فهل ستكون تلك بروفة جديدة لتدمير الموصل وقد تكون مقدمته الفلوجة، أو فألاً سيئاً «للتحرير» بالتدمير؟

 

عبد الحسين شعبان

 

في المثقف اليوم