آراء

حدث (30 نيسان) ثورة جياع ام فوضى رعاع؟

qassim salihy تعددت تحليلات السياسيين والمراقبين بشأن اقتحام المتظاهرين أسوار المنطقة الخضراء واحتلالهم مبنى البرلمان العراقي ودخولهم مقر مجلس الوزراء والعبث فيه.فمنهم من وصف الحدث بأنه انعطافة تاريخية في العملية السياسية العراقية، ومنهم من وصفه بثورة جياع، فيما قال آخرون أن ما يجرى في (30نيسان) مشابه لما جرى في (9نيسان 2003) حيث نهب الرعاع ممتلكات الدولة.وفي ليلتها وصفت ممثلة الاتحاد الأوربي ان ما يجرى الآن في بغداد هو اعمال شغب وان الدول الأوربية تدعم الحكومة العراقية برئاسة السيد العبادي، وقبلها كان التأييد صريحا من امريكا بدعم الرئاسات الثلاث في العراق.

 ما جرى في (30 نيسان) يدخل ضمن مفهوم الاحتجاج الجمعي، وهو ظاهرة عالمية انشغل علماء النفس والاجتماع السياسي في تحليل اسبابها وغاياتها وصنفوها الى نوعين:تمرّد غوغائي (بمفهوم لوبون) لمحرومين يقعون في اسفل الهرم الاقتصادي للمجتمع، واحتجاج سياسي لأفراد من طبقات وفئات اجتماعية متنوعة تشعر بالمظلومية وعدم العدالة الاجتماعية، وتوصلوا الى ان السبب الرئيس لقيام الناس بالاحتجاج السياسي ناجم عن الشعور بالحيف والحرمان والمظلومية وهدر لكرامة الانسان والآحساس باللامعنى والاغتراب، والشعور باليأس من اصلاح الحال.

 في العراق..كان الحال أسوأ بكثير، فقد بدأت التظاهرات اولا في اكثر احياء بغداد تضررا بالامطار وذلك في شباط 2011، حيث شهدت ساحة التحرير تظاهرة للمطالبة بتحسين الخدمات والاصلاح السياسي..امتدت لاحقا الى عدد من المحافظات..نجم عنها امران:قيام الحكومة باجراءات امنية ادت الى قمع تلك التظاهرات، واعطاء السيد نوري المالكي رئيس الوزراء في حكومته الثانية وعدا بتحسين الخدمات خلال مئة يوم..لم ينفذه.وفي كانون 2012 شهدت المحافظات الغربية تظاهرات واعتصامات وصفها رئيس الحكومة (نوري المالكي) بأنها (فقاعات). وفوجيء رئيس الحكومة هذا بأن فقاعات (الشتاء السني) قد جاوبتها (فقاعات) الصيف الشيعي في تموز 2013 بدءا بتظاهرات البصرة ثم ذي قار،  المطالبة بتوفير الكهرباء في قيظ صار الحمار فيه يبول دما بتعبير العراقيين، اللتين جرى قمعهما، الى تظاهرات عمال السكك المطالبة بصرف رواتبهم، الى امتداتها لتعم التظاهرات قرى ومدن محافظات الوسط والجنوب.

 كان العراقيون وقتها انقسموا بين محرومين يقولون:صبرنا على حكامنا فاستضعفونا واذلونا، واضطرونا الى ان نثور على واقع صرنا فيه نزداد بؤسا ومعاناة وهم يزدادون ترفا وفسادا، وبين محايدين موزعين بين متعاطفين ومنتقدين وشامتين (وحيل وياهم لأن همّه الجابوهم). أما الحكومة..فكان بينهم من هو سفيه، كوزير الكهرباء الذي عزا اسباب انقطاعها الى ان العراقيين يشعلون السخانات مع ان ماءها يحتاج الى تبريد من شدة حرارة الشمس، وبينهم من وصف تظاهراتهم بأنه (أمر دبّر بليل)..ما يعني ان القائمين بها (متهمون.. متآمرون..) ينوون تنفيذ جريمتهم في الصباح ضد سلطة شرعية.

وتوقفت التظاهرات في العام 2014 بعد سقوط الموصل في ليلة (9 على 10 حزيران) في ساعات بيد مسلحي الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)، وقد سفكت فيه دماء 5500 عراقي في الاشهر الستة الاولى منه فقط!.وفي العام ذاته، تعهد رئيس الوزراء الجديد السيد حيدر العبادي بأنه سيقضي على الفساد والفاسدين بمن فيهم (الحيتان)، وصرح في كربلاء بانه ماض في تحقيق ذلك حتى لو كلفه الأمر حياته(يريدون يقتلوني..ما يهمني). وحظي حينها بتأيد المرجعية والشعب، وخرجت تظاهرات تحمل لافتات (تفويض) الشعب للسيد العبادي، وكانت فرصة له لو انه تخلى عن حزبه وانحاز الى الشعب والمرجعية ليدخل التاريخ بوصفه بطلا وطنيا منقذا، غير انه تراجع تحت ضغط حزبه (الدعوة) ورؤساء الكتل السياسية..وخذل الشعب والمرجعية التي اضطرت ان تنأى بنفسها (بعد ان بح صوتها).

 في آب (2015) عادت التظاهرات في العاصمة بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية لترفع سقف مطالبها هذه المرّة الى انهاء المحاصصة الطائفية ومحاسبة الفاسدين وتشكيل حكومة تكنوقراط واستعادة الاموال المسروقة والمهرّبة الى الخارج التي قدرتها بعض المصادر باكثر من مئتي مليار دولارا.وكانت تلك التظاهرات قد بدأت بعلمانيين ومدنيين ثم انظم اليها الصدريون باعداد وصفت بأنها مليونية.وكنت عشت نهارا كاملا (جمعة آذار 2016) في اكبر تظاهرة شهدتها بغداد،  وشاركت مع المتظاهرين الشيوعيين والمدنيين في ساحة التحرير،  وعبرت مع الصدريين جسر السنك الى المنطقة الخضراء ضمن جموع حاشدة لها اول وليس لها آخر..تبعتها اعتصامات كان حدثها الأجرأ دخول السيد مقتدى الصدر المنطقة الخضراء واعتصامه فيها.وكان المطلب الرئيس هو تشكيل حكومة تكنوقراط والقضاء على المحاصصة الطائفية وهيمنة رؤساء الكتل السياسية (7 أشخاص بيدهم أمور البلد!)..وجرى التسويف والمماطلة متصورين صبر العراقيين ضعفا.وادرك الشعب ان سلطة السبعة قد (استفلكتهم)، وان الرئاسات الثلاث تضحك عليهم مستقوية بقواها الأمنية وباتفاق امريكي ايراني لبقاء الوضع السياسي كما هو عليه.

 واعتباريا، وجد السيد مقتدى الصدر ان هذا التسويف والمماطلة يعني عدم اكتراث به وانه (سخرية) سياسية منه.ولأنه اعلن انه ممثل الشعب وخادمه، فانه نفذ تهديداته باحتلال المنطقة الخضراء التي كان يتصورها (السبعة الكبار) انها ضربا من الوهم في عقل شاب غير ناضج سياسيا..دون ان يدركوا ان اتباعه ناقمون نفد صبرهم، وأن هناك قوى مدنية وعلمانية تمثل شعبا مقهورا تتظاهر من خمس سنين والسلطة تستخف بهم..ما يعني انه ليس من الصحيح ان ينسب حدث (30 نيسان) الى الصدريين لوحدهم،  ولا يصح ان تنسب ما يعد تصرفات (غوغائية) الى المتظاهرين المدنيين لأنهم متحضرون ويهتفون (نعم نعم للعراق)، ولا للصدرين لانهم ملتزمون بتعليمات قائدهم، بل هي تصرفات تحصل من افراد غير منضبطين وجياع غاضبين، وان من سيكولوجية الانفعال في الاحتجاج الجمعي انه يزداد حدة ويؤدي الى قيام الفرد بتصرفات انتقامية تشفي غليله من الذين اضطهدوه واذلوه واهانوه.

 ومع كل الذي حدث، فان الرئاسات الثلاث ورؤساء الكتل السياسية اجتمعوا في اليوم التالي (1 أيار) لا ليتفقوا على حل للأزمة، بل ليدينوا ما قام به المتظاهرون والمطالبة بمقاضاة من دخل مبنى البرلمان الى العدالة.وصلافة هولاء تنطبق عليهم مقولة جبران خليل جبران ( الوقاحة هي ان تنسى فعلك..وتحاسبني على ردة فعلي)، فهم يطالبون بمقاضاة من كسر كرسيا في مجلس النواب، وما طالبوا بمقاضاة فاسدين سرقوا مليارات الدولارات..هم من بينهم!.

 ان اهم ما تحقق، حتى الآن،  في حدث (30 نيسان )هو مكاسب اعتبارية وسيكولوجية نوجزها بالآتي:

• هروب نواب الشعب من الشعب!..في مشاهد مخجلة ومفارقة غاية في السخرية تستعيد فيها ذاكرة العراقي هروب (أقرانهم) مسؤولي النظام الدكتاتوري..في نيسان ايضا!

• اعادة الشعب لاعتباره، باذلال من أذلّه، واهانة من أهانه وأهدر كرامته.

• سقوط هيبة الحكومة عمليا بعد ان كانت ساقطة اعتباريا.

• تراجع المد الجماهيري لأحزاب الاسلام السياسي.

• جسرة الناس على الدولة وكسر حاجز الخوف واشاعة روح التحدي لدى المتفرجين او المراقبين لما يجري.

وتبقى المطالب السياسية، بدءا بتشكيل حكومة تكنوقراط ومحاسبة الفاسدين وانتهاءا بتأميين الخدمات وضمان حياة كريمة..مرهون تحقيقها بثلاث قوى:ثبات المتظاهرين من الصدريين والقوى المدنية على موقفهم والعمل على جذب المزيد من الجماهير المحرومة والمثقفة، والتصرف بمسؤولية والهتاف بشعار موحّد (نعم نعم للعراق)، والموقفان: الدولي (امريكا وايران وبريطانيا بشكل خاص) الساندة للوضع السياسي الهش والمأزوم،  واستجابة رؤساء الكتل السياسية لمطلب المتظاهرين بانهاء المحاصصة ونجاحهم او فشلهم على تمرير بديل جديد خبيث هو (توافق مصالح) عابر للطائفية!.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

في المثقف اليوم