آراء

إِشْكَالِيَة التَّمْثِيلِيَة النَّقَابِيَة فِي ظِلِّ تَحَدِّياتِ العَوْلَمَة وَسَطْوَة رَأْس المَال

khalid  altajكتأثير طبيعي لدينامية التاريخ ومنطق التدافع بين الإيديولوجيات والمذاهب الفكرية، وعلى إثر الانتكاسة التي عرفتها إيديولوجيا اليسار بشكل عام بعد نهاية الحرب الباردة، والتي لطالما استمدت مشروعيتها من الدفاع عن الطبقات المسحوقة والكادحين وصغار الفلاحين و"البروليتاريا" في مقابل هيمنة الفكر الرأسمالي واقتصاد السوق والمبادرة الفردية,,,. أمام هذا الواقع المعقد الذي أصبح يطبع سوق الشغل، تجد التنظيمات العمالية نفسها أمام تحد وجودي قد يهدد مستقبلها، وقد ينذر بالإجهاز على الكثير من المكتسبات التي راكمتها هذه التنظيمات على امتداد عقود من الزمن.

ففي العديد من الدول بما فيها تلك المنتمية إلى اقتصاديات متقدمة حيث معدل الدخل الفردي مرتفع وحيث فرص النجاح الاقتصادي متاحة على نطاق واسع، تجد الحركة العمالية الممثلة في النقابات المهنية نفسها أمام تحديات وإشكالات أفرزتها العولمة والتغيرات الاقتصادية المتسارعة، وتتجلى بوضوح في سطوة منطق " النيوليبرالية " -Néolibéralisme - باعتبارها كنسخة مطورة ل الليبرالية الكلاسيكية التي أخذت شكلها الإيديولوجي الاقتصادي المتكامل بحسب مقاربة دافيد هيوم - David Hume1711/1776- و-آدم سميث Adam Smith 1723/1790 - والتي أتت كتأييد لفكرة الرأسمالية المطلقة في بعدها الكلاسيكي والحد من تدخل الدولة في الاقتصاد وحرية انتقال وتدفق رؤوس الأموال والاستثمارات وإلغاء الحواجز الجمركية واتفاقيات التبادل الحر والمنافسة الشرسة بين الشركات والماركات العالمية والبحث عن آفاق وفرص للربح الكبير وتكاليف أقل للإنتاج بما فيها الأعباء المالية الناتجة عن تكاليف الإنتاج والنفقات الاجتماعية، ونخص بالذكر هنا البحث عن اليد العاملة "الرخيصة" والمؤهلة وذات المردودية الإنتاجية الكبيرة كما هو حاصل بالنسبة لليد العاملة الصينية أو الجنوب شرق أسيوية عموما، الشيء الذي أفرز في المقابل سلع ومنتجات وخدمات ذات قدرة تنافسية عالية ، وهو ما أدى في نفس الوقت إلى إفلاس العديد من المصانع واختفاء العديد من العلامات التجارية الكبرى وتسريح للألاف من العمال في أكثر من بلد.

هذه العوامل ينضاف إليها توجيهات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في ضرورة تبني الحكومات ومنها (المغرب) لسياسات تقشفية عبر التحكم في النفقات، والحفاظ على التوازنات الماكرو-اقتصادية وتقليص الاستثمارات ورفع يدها تدريجيا عن الاقتصاد وتقليص معدلات الولوج إلى الوظيفة العمومية إلى حدودها الدنيا بحجة إصلاحها أو عقلنتها وتبني سياسة التوظيف عبر شركات المناولة -Intérim- ،أو تفويت قطاعات حيوية للتدبير المفوض (كالماء والكهرباء) بالإضافة إلى اعتماد سياسة الخصخصة على نطاق واسع، وتشجيع مبدأ العقود المحددة الآجال، وهو ما أدخل فئات واسعة من العمال والأجراء في مرحلة من عدم الاستقرار الوظيفي، وأدخل معه العديد من المجتمعات بما فيها دول بترولية غنية في مرحلة من الاضطرابات والحركات الاحتجاجية ذات الطابع المعيشي/الاجتماعي الصرف والتي قد تتطور في وقت لاحق (لا قدر الله) في حالة عدم التعاطي مع مطالبها بشكل إيجابي عبر تبني سياسات تنموية مندمجة إلى المطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية أكثر عمقا وراديكالية من قبيل المطالبة "بإلغاء الريع السياسي" أو "التقسيم العادل للثروات " أو "المطالبة بإرجاع الأموال والثروات الوطنية المهربة إلى البنوك الخارجية" أو" فرض ضريبة على الثروة" أو "محاربة الفساد والتهرب الضريبي" أو معالجة إشكالية الفوارق المهولة التي تطبع منظومة الأجور...الخ.

السؤال الذي سيبقى مطروحا في هذا الصدد هو هل التنظيمات العمالية والمهنية ببنياتها الهيكلية التقليدية وشكلها الحالي قادرة على مواجهة هذه التحديات الجديدة التي أضحت تواجه المستقبل المهني والمعيشي لفئات واسعة من العمال والموظفين والأجراء وأصبحت تنذر بتقويض السلم الاجتماعي عبر حركات احتجاجية فئوية لامتناهية مجاليا وزمانيا؟

قد نجد جزءا من الإجابة عن هذا السؤال المحوري في نسبة المنخرطين ذاتها في النقابات المهنية في المغرب على سبيل المثال لا الحصر والتي لا تتجاوز حدود 3% على الرغم من وجود حوالي 30 تنظيم نقابي وعلى الرغم من وجود رصيد تاريخي مهم من النضال وهامش معتبر من الحريات النقابية ضمنته الوثيقة الدستورية لسنة 2011، وهو رقم يبقى جد متدني بالقياس مع مشهد نقابي مماثل كتونس حيث يضم الاتحاد التونسي العام للشغل لوحده حوالي 750 ألف منخرط أي ما يقارب 17% من الساكنة النشيطة بحسب تقديرات سنة 2012، أما بالنسبة لدول أخرى متقدمة فلا يبدو هناك أي مجال للمقارنة حيث تصل نسبة الانتماء النقابي في السويد 67.5% أو إيسلندا 82.6% أما النرويج فتصل النسبة إلى %53.5 من حجم الطبقة العاملة.

وتعزى هذه الأسباب في مجملها وعلى غرار المشهد الحزبي إلى إشكالية "البلقنة" والانشقاقات الداخلية والتناقضات الكبيرة بين الخطاب والممارسة، وعدم تجديد الهياكل التنظيمية، أو تسييس العمل النقابي على اعتبار أن العديد من الهياكل النقابية قد أضحت بمثابة أدرع لأحزاب سياسية وتدافع في كثير من الأحيان عن وجهة نظر وسياسات أحزابها وأضحت بعيدة كل البعد عن هموم منخرطيها، ينضاف إلى ذلك النزعة البراغماتية إن لم نقل الانتهازية لدى بعض قيادييها في كثير من الأحيان فضلا عن التضييق على الحريات النقابية في العديد من الأوساط المهنية .

هذا الواقع الذي أدى إلى إحداث فراغ وضعف على مستوى التأطير النقابي من شأنه دون أدنى شك أن يجعل شرائح واسعة من الطبقة الشغيلة والغير مؤطرة نقابيا وذات المطالب الاجتماعية الصرفة المتمثلة أساسا في تحسين الوضعية المادية أو تحسين ظروف العمل أو الحفاظ على الكرامة الإنسانية في الأوساط المهنية أن يجعلها وجها لوجه أمام المد الليبرالي الممثل في سطوة " الباطرونا" وعدم الاستقرار الوظيفي وشبح البطالة وتدني الأجور في مقابل ارتفاع لمستوى المعيشة أو غلاء فاحش للحاجيات والسلع الأساسية، الشيء الذي من الممكن أن يجعل المجال مفتوحا لحركات احتجاجية "غير متحكم فيها" وقد تخرج في كثير من الأحيان عن نطاق السيطرة، مما قد يصبح عاملا من عوامل عدم الاستقرار وهي أعراض بدأت فعليا بالظهور في كثير من البلدان بما فيها الأوربية ولا أدل على ذلك الاحتجاجات التي تعرفها فرنسا هذه الأيام على خلفية قانون العمل الجديد.

أمام هذا الوضع ، وبالتزامن مع الاحتفاء "البارد" بعيد العمال العالمي الذي تم تخليده في فاتح مايو/أيار المنصرم، وهي إذ تعد بمثابة فرصة بالنسبة للتنظيمات النقابية والحركات العمالية أينما كانت بأن تعمل بشكل جدي على إجراء تقييم شامل لأدائها النضالي وتجديد هياكلها التنظيمية وتحيين خطابها وفلسفتها باعتبارها كقوة اقتراحية وشريك مؤسساتي فعال في تحقيق التنمية المنشودة، وبما ينسجم مع متطلبات المرحلة المنفتحة على جميع السيناريوهات والمقبلة على مزيد من التعقيد والضبابية (في سوق الشغل) بغية مواجهة التحديات الراهنة التي أملتها إكراهات العولمة، وبما يسمح بإعادة الثقة "المهتزة" بمنخرطيها وبعموم الأجراء خدمة لمصالحهم المهنية من جهة، ومساهمة في الاستقرار والأمن والسلم الاجتماعي من جهة أخرى.

 

خالد التاج

 

في المثقف اليوم