آراء

العراق التجريبي بين تموز ونيسان

raheem alsaidiأتصور ان حرب الشهور والجغرافيا لن تنتهي وهي جزء لا يتجزأ من فلسفة تاريخ العراق، ففي تاريخ العراق دخل شهر نيسان بمنافسة سياسية وشهر تموز لإثبات وجوده التاريخي، فتموز شهر تشتد فيه القوى السياسة في العالم اجمع وليس في العراق فقط، وقد اخذ مساحته الكبيرة من استعراض للقوة الثائرة في العراق طوال الفترة المعاصرة، فعمد الى تغيير الأوضاع السياسية بطريقة دموية، ومع اني اتهم هذا الشهر بتأثير حرارته على المكونات المتناحرة، اذ لا يعقل ان يكون مزاج الإنسان معتدلا في تموز القائض القاسي ليخطط لثورة ما !!! ولهذا فانني اشهد له بأنه شهر نرى ضجيجه ولم نرَ دقيقه، وكان بائسا مثل كثير من الأحداث التموزية التي مرت على كثير من البلدان .

وإذ تعلق أمر تغيير بلد ما بشيء فانه يرتهن بمحرك قواه وهو الإنسان بشكل ظاهر، اما الشهور فهي تميمة ومكان للحدث (بالرغم من زمانيتها) و(هو او هي) لحظة يحددها الإنسان بفعل عوامل مختلفة و لست ادري كيف استثمرت آلية ذلك الشهر ووفق أي مقياس (اقصد من زاوية فعل الإنسان)، اهو الله ام الإنسان ام من كلا الفعلين.

وفي نيسان الذي شهد التحول الكبير في العراق، ذلك البلد الذي حكمه المفرد الطاغي بالقسوة والدم والذي يدعي (جزافا) امتلاكه لمشروع البناء او للسياسة، هذا البلد ابتلي بالتجريب والمغامرة فمن مغامرة الحكم الواحد والسيف والدم الى مغامرة التجريبيين الجدد من الذين أرادوا تجريب القدرة السياسية، وفي حقيقة الأمر فان السياسة ليست بالصعبة، فهي مقدرة عقلية يمكن لمن امتلك بعض الفهم التعايش والمشاركة السياسية وتقديم الأفضل، ولكن المشكلة التي حدثت هي في اختبار الانزلاق المادي والفساد والانجرار وراء الأشياء البراقة (السلطة، الكرسي، الاعلام، وهم الإدارة الناجحة،الصفقات، العقود، العلاقات المتداخلة ...الخ ) وقد وقع الجميع في مأزق مشاهدة قريبة لسوابق ومثيلات هذه الأشياء البراقة والتي سرعان ما تبخرت،لكن شيطان الأشياء البراقة يخضع للتجريب وكثير من الرجال أصحاب المطامح،يتحولون فيما بعد الى صورة المطامع، فالذي ملك العراق بطابو الخوف امتلك الناس والموارد والأرض والأشجار، تركه مرعوبا خائفا مثله مثل كل الطغاة .

فكان السقوط المدوي لبغداد التي وقعت بين الطاغي والغازي، تلك المدينة التي الفت الحزن والغزو والدمار على مر التاريخ، وقد اشر ذلك السقوط الى حقيقة انها تعرضت الى عملية تجريبية باستبدال الطاغية الذي استباح العراق باحتلال سكت عنه مرغما بفعل الخوف أو ضعف المقدرة أو الاعتزال أو الترقب كل من عارض الطاغية سواء أكان في الداخل أم الخارج، والطريقة التي تعامل بها الغرب مع الشعب العراقي إنما هي عملية ترويض لذلك الشعب (اقصد مع الذين يعارضون الطاغية والتي يقابلها ثنائي المدافعين عنه بالسر أو العلن) وهي حيلة نفسية تطبق على الإفراد بتخييرهم بين سيئين لا يريدونهما فان اختار احدهما فهو ضمن منهج المخطط الغازي الذي يلعب لعبة عالمية مستمرة باليات وأهداف مستقبلية، وقد استفاق اغلب الذين دخلوا مرضا هستيريا من الطاغية ليمجدوا القوة الغازية، ويصعب حقيقة ان نشاهد تماسك الذين يحتفظون بوعيهم وسط هذا الهذيان فالغرب يمنع عنك الماء (الحرية) ثم يدعي انه استمات لإرجاع الماء لك، وهي ذات اللعبة التي تلعب اليوم في المصارعة الغربية، بطريقة التمثيل الواقعي (رسم الأحداث أو تصميم الفيلم لكي يمثل واقعيا وبشكل مباشر) وهي تقليعة ليست سياسية فحسب بل وفنية واجتماعية تبرز باسم تلفزيون الواقع في أمريكا.

ان التجريب ومحاولة الوعي أو الفهم لا يشمل الذين خدعوا بالفتح الأمريكي الكاذب الجديد فحسب، بل يشمل أيضا الذين انخدعوا بتجريب كل من : الكوادر السياسية – تجريب الحكم المؤقت وشبه الدائم- ووهم الحرية - تجريب دول الجوار وزيف مكاييل الدول العظمى – تجريب وعود الإصلاح – تجريب تحرك النخبة النائم – تجريب المحاصصة – تجريب الخطابات والمبادئ والشعارات – تجريب كل أنواع الساسة والمغمورين وتكوين الأحزاب وتجريبها، ولهذا التجريب ثمنه الذي نعيشه اليوم فهو صراع ثنائي أيضا بين التجريب التموزي والنيساني وبين تخطيط الدول العظمى وشبه العظمى وبين تجريب المبتدئين في السياسة والذين لا ثقافة لديهم لترك مناصبهم (علوا، أو استحياءا من الفشل، أو منهج للمقامرة وتعويض الفشل) والثنائية أيضا تتعلق بتجريب الشعب للسلطة والساسة ولبعضه البعض بالوقوف ضد الفساد وأيضا تجريب الشعب للجيش والجيش لقوته في محاربة الإرهاب .

ان كل الأحداث التي تمر على العراق أتصورها تسير وفق تسلسل وانسيابية الشهور وتفاعلها، وأيضا تأثير البيئة والمحيط واثر زمانية التاريخ، وهي مقيدة وفق المرويات التاريخية الدينية بالمستقبل أو بالجانب نصف الحتمي (ان أجيز لنا قول هذا) وهي قضية تحتاج الى تأمل وتركيز وتحليل لا الى إهمال، فلعل هذه بعض المفاتيح التي توضح كل شائك يمر على العراق الكبير .

 

د. رحيم الساعدي

 

 

في المثقف اليوم