آراء

المصالحة الوطنية في الجزائر قد كانت ولا زالت خيارا وطنيا استراتيجيا (1)

في هذا المقال لن نتطرق لمواد وبنود مبادرة المصالحة الوطنية لأن هذا الأمر ليس من اختصاصنا كما وأنه متروك لفقهاء القانون ولمن يتشاركون معهم الأرضية في الاختصاصات الأخرى وهذا لكي يحددوا هم محتوى ومضمون البنية الهيكلية لها. كما وأننا هنا لسنا للمزايدة على أحد لكون كل الجزائريين على مستوى واحد من الوطنية وهذا بغض النظر عن المشارب العقائدية والأيديولوجية التي ينهلون منها ولذلك فلن ننصب من أنفسنا أساتذة نقدم المواعظ والدروس من برج متعالي لأن من يفعل هذا فهو شخصية مصابة بداء تضخم الأنا القاتل له ولمن حوله. وإنما سنحاول الحديث عن المصالحة الوطنية من حيث كونها خيارا استراتيجيا لنا في الجزائر لا يمكن بأي حال من الأحوال التخلي عنه أو التراجع عليه ولو خطوة واحدة إلى الوراء . وإن لم يكن هذا من مبدأ أخلاقي فليكن هذا من منطلق براغماتي ذلك أنه من المحال أن يجتمع كل الناس تحت سقف مظلة واحدة . وأيضا للاختلاف في زوايا رؤيتنا للظاهرة الواحدة نفسها .

ولأجل صالح الجميع وللمصلحة العامة فإنه يتوجب علينا أن نتعالى عن المصالح الذاتية الضيقة ولو بتنازلنا عن جزء أو عن جل مصالحنا الخاصة وهذا حسب ما تستدعيه الظروف وهذا لصالح مبادرة المصالحة الوطنية . ذلك أننا سنخسر جميعا كل شيء في حال ضياع الأمن والسلم الاجتماعيين . وهذا لكون الدولة ستنهار وهنا لن تستطيع أية فئة من فئات المجتمع أن تحافظ على ذاتها وعلى وجودها لأن الكل يعادي الكل ويسعى جاهدا لاستئصاله . لا لشيء إلا لأنه ومن دون مصالحة وطنية شاملة فإنه وكما يقول أرنولد توينبي Arnold Toynbee سوف تتهدم شبكة العلاقات الاجتماعية والنتيجة تهدم كيان الدولة كدولة ماديا كان هذا التهدم أو معنويا . ومع هذا التهدم ستختفي هيبة القانون وهنا تحل محل هذا الأخير شريعة الغاب وهذا الوضع هو قمة الفوضى والتي تهدد وجودنا ككل . كما أنه وبتهدم شبكة العلاقات الاجتماعية فإننا سنختفي كشعب وكأمة وهذا نتيجة لحالة التطاحن والانقسام والتشرذم الذي ندخل فيها والنتيجة هي أندلس جديدة ونحن هنا نتحدث عن الجزائر وطننا والتي يجب أن تكون أيدينا ممدودة إليها لا موضوعة عليها وتتربص بها الدوائر .

فالذي يقرأ التاريخ يجد بأن أهم العوامل التي أدت إلى ضياع الأندلس وأدت إلى إنهاء وجودها كأمة وكدولة معا وبصورة مفجعة هي حالة اللأمن والاحتراب الداخلي وتفكك شبكة العلاقات الاجتماعية . وما أوصل إلى سقوط غرناطة 1492 إلا تلك الحرب الأهلية المدمرة والتي استمرت لمدة 10 سنوات خربت المملكة وهيأت الظروف المناسبة لسقوطها في يد قشتالة وما تبعها من مصير بائس لأهلها . وهي نفس الوضعية التي كان عليها الشعب الجزائري وهذا عندما نجحت فرنسا في تفكيك شبكة العلاقات الاجتماعية بين الجزائريين وهذا عبر سياسة فرق تسد، ولو أن نجاحها كان محدودا في الزمان وأنقذتنا منها ثورة التحرير المجيدة . وهذه هي الخطيئة الكبرى والتي جاءت المصالحة الوطنية في الجزائر لتقضي عليها أي حالة التشرذم وانقسام الجزائريين إلى معسكرات يعادي بعضهم البعض . ولم يكن للجزائريين من خيار هنا وللحفاظ على ذاتهم وعلى دولتهم إلا عبر المصالحة الوطنية، ولذلك فهي لم تكن ترفا وإنما كانت ضرورة وخيارا استراتيجيا علينا أن نشكر جميعا كل من نظّـر وهندس لها وعمل على إنجاحها .

وهنا يجب الإشارة إلى أن هناك من لا يتفق مع خيار المصالحة الوطنية لأنها ربما لم تحقق له ما كان يأمل فيه هو من مصالح ومن منافع، وهنا يمكن القول بأن المصالحة الوطنية لم تأت لتحقيق مصالحك أنت أو مصالحنا نحن . وإنما جاءت لتحافظ على مصالحنا جميعا بحيث تؤسس لدولة مدنية تكفل العيش الكريم لكل المواطنين بغض النظر عن عقائدهم وعن مشاربهم وخلفياتهم العقائدية والأيديولوجية، وهذا لكون المجتمع الجزائري ليس أنت ولا نحن فهو كغيره من مجتمعات العالم ليس بالمنسجم عقائديا وفكريا ففيه اليساري واليميني والمؤمن والملحد والإسلامي، ولذلك كل طيف من أطياف المجتمع الجزائري يريد أن يلون المصالحة الوطنية بلونه الخاص وهذا ربما لكونه يرى بأن رأيه هو الأصوب . وربما هناك قسم آخر يرى بأنه قد ظلم وبالتالي على المصالحة الوطنية أن تعيد له الاعتبار، وعليه فالكل يريد أن تكون المصالحة الوطنية ضمانا له وردا على مظالم قد وقعت في حقه وهنا قد نختلف أو نتفق معه في جل أو بعض آرائه هذه . ولكن ومهما قال وقلنا فعلينا هنا أن نتعلم شيئا ألا وهو أن نغفر وأن نسامح وبصدق فبدونهما لا يمكن أن يكون هناك تعايش مشترك بينا أبدا .

وعليه يمكن القول بأن المصالحة الوطنية لم تأت للمحاسبة لأن خطيئة الإرهاب وخطيئة قتل الجزائري لأخيه الجزائري، وجريمة تخريب البنية التحتية عبر التفجيرات وهذا خلال العشرية السوداء نتحمل مسؤوليتها جميعا بما فينا الفئات التي التزمت الحياد والصمت في تلك الفترة وذلك لكونها رأت في العشرية السوداء فتنة والواجب حسبها اجتناب الفتنة . وهذا الموقف مدان والأولى هو الوقوف في وجه الإرهاب . لأن الذي قتل جيلالي اليابس وأمثاله مما لا يمكن عدهم قد أضر بنا جميعا . وكم من الوقت يلزم الجزائر لتكوين وإعداد جيلا مثلهم وبنفس جودتهم وكم خسرت الجزائر باغتيالاتهم تلك ؟؟؟ وماذا عن الضريبة التي دفعتها – الجزائر - في عملية إعادة الإعمار وقتا وجهدا ومالا ورجالا . وليت الموت غيبنا تحت الأرض ولم نر العشرية السوداء فهذا أرحم لنا من أن نرى جزائري يقتل أخيه الجزائري، ويسل الخنجر ويطعن به أمه الجزائر . فيا لها من جريمة يصاب الفرد بالجنوب عندما يتذكر بأن ذلك حدث في يوم مشئوم لا رجع ولا عاد .

نعود ونقول بأن المصالحة الوطنية لم تأت لخدمة هذا الطرف أو ذاك وإنما جاءت لتوجد أرضية مشتركة تضمن التعايش المشترك لنا جميعا في المستقبل . وتضمن عدم العودة إلى خطيئة الإرهاب مرة أخرى . نعم الكل نتفهم حالة الغضب والحزن وربما الحقد التي يشعر بها البعض منا . ذلك أنه ليس من الهين أن يقتل الإرهاب عزيز عليك . وإنه لمن الصعب على البعض منا أن يغفر لقاتل أبيه أو أخيه أو زوجه أو ابنه . وعلينا أن ندرك بأن ما حدث في العشرية السوداء لهو جريمة وبكل المقاييس ودفعنا ثمنها جميعا وعلينا أن نتجاوزها ومهما كان الثمن . ولا حل لنا هنا سوى التسامح ولا شيء آخر غير التسامح كأرضية صلبة ننطلق منها صوب غد أفضل بنا ولنا جميعا .

ولا يجب هنا أن نزايد على بعضنا البعض ونرفض أو ننتقد خيار المصالحة الوطنية فقط لأنه لم يأت على مقاسنا نحن أو لأننا كنا نريد أن نكون نحن فقط مهندسيه لكوننا نحب الظهور الأجوف والفارغ . وبالتالي كنا نريد نحن فقط أن نؤسس لخيار المصالحة الوطنية فلما جاء من غيرنا رفضناه لمجرد الرفض ولا لشيء آخر . هذه عقلية مريضة والواجب على صاحبها أن يداوي نفسه منها لأن المنطق السليم هو أن نقول للمخطأ أخطأت وللمصيب أصبت . وهنا وككلمة حق لا بد من القول بأن من هندسوا للمصالحة الوطنية في الجزائر قد كانوا على صواب وعلى حق وأن رؤيتهم قد كانت هي الأمثل ولا شيء غير هذا . ذلك أننا كلنا نحتاج إلى الأمن والسلم الاجتماعي والذي يبدأ من أنفسنا ثم في بيتنا ثم في حينا ثم في مدينتنا ثم في الجزائر ثم مع جيراننا ثم مع باقي دول العالم وكيف كانت حياتنا ستستمر وذاتنا وأسرتنا وبيتنا وقريتنا الكل منقسم على ذاته . وكيف كنا سنواصل السعي لأجل تحقيق مصالحنا ودفع الأضرار عنا ونحن في مجتمع دولي يرتاب فينا ويعادينا ويغلق أبوابه في وجوهنا . ومن ينكر بأن المصالحة الوطنية قد أعادت لنا الأمل في الحياة بعد أن كنا قد فقدناه خلال العشرية السوداء؟ . وبما أن ظروف الجزائر قد تحسنت عما كانت عليه خلال تلك العشرية ولهذا فإنه يتوجب علينا جميعا أن نلتف حول خيار المصالحة الوطنية الشاملة لكونها قد أثبتت بأنها هي كنزنا الثمين وقدس أقداسنا الواجب المحافظة عليه .

ومن منا ينكر بأن المصالحة الوطنية في الجزائر قد غيرت من أحوال الجزائر والجزائريين وبصورة جذرية عمّا كانت عليه قبل العشرية السوداء ولذا فمن كان يرفضها لعلة ما فنحن نرى بأن إخراجها للجزائر من النفق المظلم، نفق العشرية السوداء لهو أكبر شافع لها عند الجزائريين . ويجعلهم يتغاضون عن كل عيوبها ونقائصها . وإن لم يقبلها البعض منا بدافع أخلاقي فليكن معها براغماتي وهنا نسوق قصة دخول البوذية إلى اليابان فالأمر وكما يقول المؤرخون . فإنه وعندما دخلت هذه الديانة هناك لأول مرة فإنه قد ساور الحكومة اليابانية الكثير من الشك فيها . ولهذا فقد أمرت أحد موظفيها باعتناقها على أساس التجريب فلئن تحسنت أوضاعه فهي مرحب بها وإلا فما عليها سوى العودة من حيث أتت والنتيجة كانت لصالح البوذية التي كسبت الرهان، فاعتنقها اليابان بدء من القرن السادس الميلادي . وهنا نقول ومن ينكر منا إيجابيات المصالحة الوطنية في الجزائر وكسبها لرهان الأمن والسلام في الجزائر ولذا فما لا نكون حكماء في التعامل معها كما كان اليابان حكيما في التعامل مع البوذية .

وهنا لا بد من التنويه بأن الديانات السماوية والوضعية والأيديولوجيات الكبرى كلها قد جاءت لأجل تحقيق الأمن والسلم للفرد وللمجتمع على حد سواء فالمسيحية مثلا تمجد السلام وهذا ما نجده في قول السيد المسيح: " طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون " مت 5 / 9 . أما في الإسلام فيكفينا بأن أحد أسماء الله الحسنى هي السلام، وتحية المسلمين هي السلام والإسلام: " يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام " سورة المائدة الآية 16 والسلام لا يتحقق إلا عبر المصالحة بين جميع الأطراف المتخاصمة . ولهذا فنصوص الدين الإسلامي التأسيسية تحث على المصالحة بين الإخوة: " أصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ " سورة الحجرات الآية 10 . وهنا قد يقول البعض منا وما دخل القرآن الكريم في المصالحة الوطنية ؟ نقول له بأننا بحاجة إلى كل ما من شأنه أن يعيد الأمن والسلم الاجتماعيين إلى الجزائر . خاصة وأن الجزائريين وفي معظمهم مسلمين، ولهذا فهم سوف ينصاعون للمقدس والذي يحث على المصالحة بين الإخوة الأشقاء وهذا متى اختلفوا . ولهذا توجب علينا الاستنجاد بالمقدس والاتكاء عليه لتدعيم وإنجاح المصالحة الوطنية لما يضفي عليها من مصداقية ومن قدسية أكبر في أعيننا وعبره تصبح مقدسة ولا يمكن تجاوزها أو التراجع عنها .

 

خلف الله سمير بن امهيدي / الطارف / الجزائر

 

في المثقف اليوم