آراء

فاجعة الكرادة والفشل السياسي الكبير في العراق

ahmad alkhozaiمرة أخرى مثل عشرات المرات السابقة تدفع الكرادة ثمن انتمائها الوطني كغيرها من مدن العراق، وتحترق بلهيب الطائفية العمياء، في بلد أصبحت سمة الموت عنوانه العريض، الكرادة الرافضية مازالت تسدد فاتورة رفضها لصناع الموت إرهابيون كانوا أم سياسيون أتقنوا فن العيش على رفات الأبرياء، لكن السؤالان الكبيران هنا والذي يبحثان لهما عن إجابة من ثلاثة عشر عام .. متى يتوقف نزيف الدم العراق؟ وماذا جنا الشيعة من حكمهم للعراق منذ عام 2003 ولغاية الآن؟ سؤالان كبيران بحجم الفاجعة التي حلت بنا، لابد من إجابة عليهما.

وصل الشيعة العرب إلى الحكم في العراق بعد الغزو الأمريكي له عام 2003، كنتيجة حتمية لعدة معطيات ..منها أنهم يشكلون الأغلبية من وجهة نظر ديمقراطية، وكحالة تعويض عن حالة إقصاء عانتها هذه الطائفة لقرون طويلة تجلت بشكل واضح عند تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 بعد ثورة العشرين التي قاموا بها ودفعوا ثمنها عقود من التهميش والإقصاء السياسي والاجتماعي، كما أشار المفكر حسن العلوي في كتابه الشيعة والدولة القومية (لقد اخذ جعفر العسكري الوطن واخذ جعفر أبو التمن الوطنية)، هذه هي ملامح الدولة العراقية الحديثة التي تشكلت على ركام تاريخ اسود ملؤه الظلم والقتل والحرمان، لكن هل كان للشيعة القدرة على حكم العراق؟ سؤال آخر للإجابة عليه يجب علينا سبر أغوار التاريخ لمعرفة المعطيات الواقعية التي سلبت الشيعة العرب في العراق هذه القدرة، مارست الدولة العثمانية التي استعمرت العراق لخمسة قرون عملية ممنهجة في إقصاء الشيعة العرب عبر سلسلة من الإجراءات ساهمت في عدم نشوء طبقة متعلمة قادرة على أنتاج قادة بالمعنى الحقيقي لهم القدرة على سد أي فراغ سياسي يحصل إذا ما تغيرت موازين القوى في العالم والمنطقة، ومنها ما أشار إليه السياسي العراقي الراحل كامل الجادرجي في كتابه..من أوراق كامل الجادرجي (إن الطائفة الشيعية تعد في زمن الدولة العثمانية أقلية ينظر إليها بعين العداء فلم تكن يقبل لهم تلميذ في مدارسها الحربية ولا أي وظيفة حكومية وحتى المدارس الإعدادية كانت يمنع أبناء هذه الطائفة من دخولها)، ويروري المرحوم عبد الكريم الازري في كتابه مشكلة الحكم في العراق ..(أن فتاح باشا قد تحول من المذهب الشيعي إلى المذهب السني لأنه أراد إدخال ابنه المدرسة الرشدية ومن ثم إدخاله للمدرسة الحربية العثمانية والتي كانت محرمة على الشيعة)، هذه الممارسات الطائفية وغيرها كانت سببا واضحا ومنطقيا دفعت احد رجال الدين الشيعة أن يعتذر للمندوب السامي البريطاني عن احتلالهم للعراق عام 1918، حين طلب منه ترشيح أسماء لتشكيل حكومة عراقية آنذاك بقوله .. نحن الشيعة لا نمتلك كوادر قادرة على قيادة العراق اختاروا رجل سني بشرط أن يكون منصفا.

يبدو إن الرد كان براغماتيا إلى ابعد الحدود فالشيعة في تلك الفترة كانوا يعانون الجهل والتهميش والحرمان، ولم تخلف الدولة العثمانية ورائها سوى طبقة برجوازية لموظفين صغار وضباط جيش وشرطة من الطائفة السنية، استطاع البريطانيون فيما بعد احتوائهم وجعلهم قادة العراق الجدد عن تأسيس أول حكومة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب، وبعد ثورة العشرين ازدادت الهوة بين العرب الشيعة وبين المحتل البريطاني بعدما تبنوا مشروع مقاومة الاحتلال في ثورة العشرين، ويذكر الدكتور علي الوردي في لمحاته إن حوار دار بين مزاحم الباججي والبيرسي كوكس عند مغادرة الأخير للعراق راجعا إلى بريطانيا بعد فشله في إخماد ثورة العشرين، ( انقل سلامي إلى ملك بريطانيا واخبره أن من قاتلوكم في العراق ليسوا عراقيين ولا عرب بل عجم)، هذه النظرة الاقصائية هي التي تأسست عليها كل هذه التراكمات التي أنتجت لنا بعد 2003 منظومة سياسية شيعية فاشلة، افتقدت إلى ابسط مقومات الخبرة السياسية، وحولت العراق إلى إقطاعيات حزبية واثنية وعرقية متناحرة فيما بينها على الثروة والسلطة والنفوذ، متجاهلة الهدف الأسمى والأعظم ألا وهو بناء وطن قوي موحد يسوده العدل والرخاء، هذه المنظومة التي لم تستطع مغادرة عقلية المعارضة وظلت تدور في فلكها، وفشلت في التحول إلى مشروع وطني كبير يستطيع احتواء العراق بكل مكوناته وطوائفه، وتخندقت خلف انتماءتها الضيقة لنيل المكاسب والامتيازات في هذا البلد الغني بثرواته، بل واستثمرت مظلومية الشيعة عبر العصور لتجيرها لصالحها، عبر تكريسها لهذه المظلومية بطريقة تمكنها من الاستحواذ على الشارع الشيعي العراقي، من خلال التركيز على إشاعة الوعي الطائفي وتكريسه وإنزاله إلى الشارع ليتلقفه البسطاء من الناس، لتصنع لها قاعدة جماهيرية واسعة تمكنها من الاستمرار بحكم العراق، بدلا من إشاعة الوعي الوطني، إن هذا الإرث الاقصائي الطويل الذي عانته الطائفة الشيعية في العراق هو المسئول الأول عما يحصل اليوم، وهو حجر الأساس في هذا الإخفاق الحكومي الذي طال جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية، وما يجري اليوم من تردي الخدمات وغياب دولة المؤسسات ولانتهاك السافر والصريح للإنسان العراقي من قبل الإرهاب دليل واضح على هذا الفشل، ودليل آخر على سعة الهوة التي تفصل شيعة السلطة عن قواعدهم الجماهيرية التي أوصلتهم إلى سدة الحكم، نحن اليوم أمام جدلية غاية في التعقيد والمواطن العراقي يجد نفسه فريسة سهلة للازمات والإرهاب بغياب واضح لحضور الدولة بالمصطلح الإداري ولسياسي القائم في عالمنا المعاصر، الشيعة العرب لم يجنوا من حكم العراق سوى الموت والفقر فمدنهم ما زالت عبارة عن قرى كبيرة وصدورهم تتلقف الموت المجاني في الشوارع والأسواق، والمنظومة الحاكمة تتنعم بالأمن وخيرات العراق، وأقصى ما تستطيع فعله قرارات انفعالية ترقيعية لا تجد لها طريق للتنفيذ على ارض الواقع، فاجعة الكرادة التي حصدت مئات الأرواح الطاهرة البريئة هي جزء من مسلسل قتل طويل يعيشه العراقيون وأصبح جزء من يومياتهم، لكن لابد من الوقوف عندها طويلا ونعيد حساباتنا كعراقيين سنة وشيعة وكرد وأقليات، وان نتخلى عن جميع رواسبنا وعقدنا القومية والطائفية، لننقذ ما تبقى من العراق وأهله، بعيدا عن السلطة الحاكمة وانتهازيتها، من ينظر إلى خارطة العراق اليوم يجد ان الجميع خاسر ولا يوجد رابح سوى من اغتنى على حساب الدم العراقي، سنة العراق مدنهم مدمرة وأهلها مشردون في مخيمات النازحين بفعل الإرهاب الذين اعتقد البعض منهم في غفلة من العقلانية أن شذاذ الآفاق من قاعدة وداعش سيعيدون إليهم مجدهم الآفل في حكم العراق، والشيعة دمائهم مستباحة بفتاوى التكفير وأسواقهم وشوارعهم ومنتدياتهم هدف سهل للأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، والكرد كسبوا عداء الشيعة العرب وتوسعوا على حساب المدن السنية أملا منهم في إنشاء وطنهم القومي المنشود، وهذا أمل بعيد المال في ظل المعطيات الدولية والإقليمية القائمة اليوم، هاهو الرئيس التركي اوروغان يعي متأخرا نتائج تخبطه السياسي في المنطقة ويعيد حساباته مرة أخرى، ويدرك أن من مصلحة تركيا بقاء العراق وسوريا موحدين، إذن نحن كعراقيين يجب أن نعيد حساباتنا أيضا، وندرك أن لا خلاص لنا إلا بوحدتنا وتكاتفنا وتخلينا عن كل المسميات الفرعية عدى انتمائنا للعراق، وان نلملم جراحنا ونحدد عدونا، فإذا حلت الكارثة فلا يوجد رابح بيننا، ودماء الأبرياء التي سالت في الكرادة ومدن العراق الأخرى طيلة السنوات الماضية يجب أن تفضي إلى نهاية يخرج الجميع فيها منتصر، لان أصعب انتصار هو الانتصار على الذات كما يقول أرسطو.

 

احمد عواد الخزاعي

 

في المثقف اليوم