آراء

صالح الرزوق: معركة حلب

saleh alrazukلا أعتقد أن لما يقال عن معركة حلب أية أهمية، حتى الآن التكهنات تدور حول مكاسب على الأرض الفارغة من البشر. إنهم يقيسون الانتصار بعدد الأمتار التي يحتلها كل فريق. ولكن كما نعلم جميعا العامل الحاسم في هذا النزاع هو الغطاء الجوي. فقد أعاق الطيران الحربي تقدم فصائل المعارضة بواسطة القاذفات العسكرية. ولكن هذا أيضا ليس ذا جدوى على المدى البعيد. فالأرض ليست شيئا جامدا، وتوجد علاقة تكافلية مع السكان.

إن الحرب لا تخوضها روبوتات ولكن بشر لديهم أجندا، وبرأيي هذا هو العنصر المحدد.

إن الذي سيحدد مصير حلب هو سلوك الناس ومعتقداتهم. وربما تشتري ميول شخص لفترة لكن لا تضمن ولاءه لمراحل طويلة الأجل.

وأعتقد أنه توجد هنا ثلاثة معطيات تاريخية.

الأول من التاريخ الوسيط.

دعونا نتفق أن تاريخ الشمال السوري مجزأ، وهو من صناعة المدونة التي أملاها انتصار الحلفاء على دول المحور.

لقد غيرت المدونة كثيرا من الحقائق، والتهجير القسري جعل لحلب حالة خاصة. لقد تحولت إلى حاضنة لبقايا العرق القوقازي وجحافل الأرمن الفارين من مذابح الأتراك، ولكنها لم تتحول إلى مضيفة لأبناء ما يسمى بمنطقة اللواء (المنطقة التي اقتطعها الفرنسيون عام ١٩٢١ وألحقوها بتركيا، وهي ما يعرف باسم ولاية هاتاي).

هذه المنطقة هي التي أنجبت واحدا من أعلام الفكر القومي الرومنسي وهو زكي الأرسوزي، ناهيك عن صدقي اسماعيل المولود في اسطنبول والذي ترأس أول اتحاد للأدباء في دمشق عام ١٩٧٠. فقد كان مبشرا بالإحياء العربي وبالاشتراكية الحديثة وبالعقل الحامل لإيديولوجيا ما بعد الحداثة من خلال شروحه لنتاج ألان تورين وأمثاله.

لا يمكن أن تتكلم عن حركة أدبية في سوريا بمعزل عن الدور المفصلي لصدقي اسماعيل وما ترتب عليه. فقد فتح الباب لموجة النهضة والتنوير الثانية، وأقصد بذلك الطليعة المجددة التي نادت بهدم الفكر الكلاسيكي الجديد وبناء مجموعة أفكار راديكالية فوقه تصحح الثوابت التي انتهى وقتها. ومنها عمود الشعر العربي والقيم والأخلاق النبيلة التي تنحاز طبقيا لمفهوم الأسرة العريقة على أساس القرابة والعصب وليس على أساس نظافة المعتقدات والأفكار.

وهنا يجب أن لا ننسى دوره في إتاحة الفرصة للقوة الصامتة ومن أهم ممثليها الشاعر الرائد أورخان ميسر مؤلف (سريال).

لقد كان أيضا يحمل نفس المشكلة، الازدواجية في الانتماء. إنه من  هاتاي ولكن ذهنه من نتاج العقل العربي المتأثر بشعارات الثورة الفرنسية ولا سيما المبدأ التروتسكي المعروف: الثورة المستمرة.

كان صدقي إسماعيل منتجا للفكرة وليس موظفا يتعهد تنفيذ التعليمات التي قد لا يكون مؤمنا بها.

إن هذه الحقيقة: أن حلب لم تحتضن هذه النخبة من اليسار العربي واختارت إيواء الأقليات، لأسباب عرقية، يضع إشارة استفهام.

الناحية الثانية تعود للفترة التاريخية اللاحقة.

لقد عملت حلب جهدها لتبدو بشكل عاصمة اقتصادية وصناعية. ولم تتكل على السياسة. لقد كانت رؤوس الأموال التي يتداولها السوق وحركة الانتاج من غير ولاء سياسي، ولا تفكر إلا بالمكاسب. والبضائع التي كانت تغرق السوق المحلية أصبحت تأتينا من خلف الحدود، للتوضيح لقد هاجر رجال الأعمال إلى هاتاي وشرعوا بتصدير انتاجهم إلى حلب بشكل بضائع مستوردة ندفع لقاءها بالعملة الصعبة. ومثل هذا اللاإنتماء السياسي ستكون له عواقب أخلاقية بعد استقرار الأوضاع.

سيعود رجل الأعمال إلى الأراضي السورية ومعه ما حققه من مكاسب بالحرب ليفرض سلم معايير أجنبية على المجتمع المدني.

إن عودة دورة الحياة لطبيعتها لا يعني عودة دورة الأخلاق لنفس مكانها السابق. وما كسبه العسكري على الأرض سيفرط به المنتجون.

بمعنى أوضح لن يجني المنتصر من الحرب الثمار المرجوة لأن رؤوس الأموال العائدة ستكون لديها أولويات وسلوكيات مضادة ستفرض نفسها على السوق والمجتمع.

ويمكن ضرب مثال ملموس من فترة الثمانينات. فقد انفجرت الأوضاع الأمنية في حلب و حماه (على وجه التخصيص) بعد عشرة سنوات من عودة رؤوس الأموال المهاجرة.

إن عشرة سنوات كانت كافية لتراكم فضل القيمة، في الاقتصاد والأخلاق، ولا يمكنني أن أقول الإيديولوجيا.

فالانفجار كان بفعل فاعل. وخلفه ارتباطات اضطرارية بين المستثمر والتربية التي تلقاها في سنوات الاغتراب.

وللتوضيح كان الاقتصاد العائد من المنفى بعاطفة خليجية.

ومثلما تؤثر أمريكا على الاقتصاد الخليجي بسبب طرق الإيداع والاستثمار فإن الخليج أثر على المنتج السوري ولا سيما إذا كان بحجم مانيفاكتورة أو له طبيعة استثمار ربوية (تسمى جدلا الأرباح الثابتة- لتمميزها عن الفائدة المحرمة دينيا).

النقطة الثالثة والأخيرة أن الحاضنة الشعبية في حلب تفتقر للتنظيم العقلي. وهي تتحرك بوحي من المصالح الآنية، ولا شك أنها متأثرة بنوعين من البروباغاندا:

الدعاية الخليجية التي تغذيها معارضة باسم الدين.

والدعاية الأمريكية التي تغذيها معارضة سئمت من الفقر واشتراكية الفساد والتجاوزات والخوف.

وفي أغلب تقديراتي بعد أن تضع الحرب أوزارها سيترتب على ذلك عودة الرقابة العسكرية إلى الثكنات وانتشار أدوات المجتمع المدني. ويمكن قراءة ذلك كما يلي: سيملأ الفراغ العسكري رجال الأعمال والزعامات المحلية. ولا أحد يضمن اتجاهاتهم. بالعكس إنهم سيدخلون في دورة تطور جديدة. وسينتقلون من طور السبات والراحة وضخ العملة الصعبة في السوق السوداء إلى طور إعادة بناء المجتمع وفق معايير الهجرة وفرق القيمة. وهذا وحده سيلغي المكاسب العسكرية على الأرض وسيضع البلاد أمام احتمال انفجار اقتصادي وسلعي قد ينهي الشخصية الحضارية لسوريا .

لا يوجد في هذه الحرب رابح أو خاسر (فكرة الحروب كلها خسارة بتعبير لويجي بيرانديلة). ولمعركة حلب خصوصياتها.. من يسيطر على الأرض ليس بالضرورة هو الذي سيفرض قوانينه على المجتمع. لأنه بمجرد عودة العسكري إلى ثكناته ستكون الساحة جاهزة لسياسة إيزنهاور التي بشرت بنهاية التاريخ قبل فوكوياما.

ومن المنطقي أن المجتمعات الضعيفة لها أنا أعلى تسعى لتعويمه، والسؤال  من هو الأنا الأعلى في الشارع السوري، وبالأخص شمال سوريا المحاذية لحدود طبيعية وبشرية مع الأتراك.

أترك الإجابة لكم.

 

د. صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم