آراء

صادق السامرائي: تركيا والبقية تأتي!!

هذه قراءة سلوكية بحتة للحالة التي حصلت ولاتزال أحداثها تتفاعل في تركيا،  بصورتها الأكمل وليست كما قرأنا وسمعنا عنها، وفقا لآليات وإقترابات العميان والفيل!!

الجمعة 15\7\2016 وبعد الساعة العاشرة مساءً إنشغلت وسائل الإعلام في أرجاء الدنيا بأنباء عن محاولة إنقلابية يقودها العسكر في تركيا، وقرأت المذيعة التركية بيان الإنقلاب من المحطة الرسمية، فوجمت الوجوه وعمّت الدهشة والإستغراب ذوي العقول، وطار من الفرح مَن طار وحزن مًن حزن، وفي عالمنا العربي كانت المواقف متناقضة وغريبة وبعضها بلا حكمة ولا سياسة، وما أثار العجب أن الدول الكبرى عاشت لبضعة ساعات في ترقب حتى أفصحت عن مواقفها بعد أن تبين لها الخيط الأبيض من الأسود، أي أنها كانت تتفاعل مع النتائج وحسب ولا يعنيها أي شيئ آخر، وهذا يثير تساؤلات.

تضاربت المواقف والتصريحات وإيقاعات وسائل الإعلام التي قلبها رأسا على عقب، ظهور أردوغان عبر هاتفه في إحدى المحطات التلفازية، ويبدو في موقف صعب!!

وبدى الموقف وكأن كل شيئ سينتهي بيد العسكر، وكأنها الحالة الباكستانية التي يُراد تطبيقها على تركيا، فالديمقراطية لا تعني شيئا عندما تتعارض مع مصالح القوى العظمى، كما أن تركيا ومنذ الحرب العالمية الأولى، من الممنوع عليها إقامة نظام إسلامي أو حكومة ذات تطلعات إسلامية، وهذه ربما ضمن وثائق الإستسلام بعد هزيمة الدولة العثمانية فيها، وكان المقرر على تركيا أكبر وأدهى، لولا حذاقة أتاتورك الذي حافظ على تركيا موحدة بعد أن رفع رايات العلمانية، التي ما ألغت الإسلام وإنما أرضت الدول المفترسة، التي لا قِبَل له على مقارعتها، فلا بد من الذكاء والدهاء السياسي.

وكلما زرت تركيا اللاإسلامية حسب توصيفاتها على مدى القرن العشرين، أجد التناقض الواضح ما بين الواقع والشائع عنها في تصور الناس خارجها، وأقول أنها دولة إسلامية أصيلة، وخير مَن يعبّر عن الإسلام، وأصدق من غيرها التي تحسب نفسها إسلامية!!

وما أروع الأصوات الشجية المصدحة من مآذنها عند الفجر في إسطنبول، حيث تمنحك جرعة روحية صافية نقية تبعث في أعماقك الأمل والنشاط.

فالشعب التركي مسلم إلى حد النخاع والإسلام هويته وقوته وقدرته الحضارية، ولا يمكن لتركي أن ينفصل عن قيمة الإسلام وضروراته لوجوده المعاصر الراقي، الزاهي بالإنجازات الواضحة.

قبل أسابيع كنت في أوربا، وكانت أسواقها تعج بالبضائع والمصنوعات التركية، فأدركت قوتها الإقتصادية، وهي دولة يقودها حزب إسلامي أسس لنظرية إقتصادية إسلامية، وطرح مفاهيم سلوكية إسلامية معاصرة، فقلت لمن معي: هل يُسعِد الدول التي عاشت رعبا من تركيا على مدى قرون، أن تستعيد تركيا قوتها وقدرتها الحضارية؟!

ضحك الذي معي ومضينا نتبضع في أوربا ونشتري ما هو تركي لأنه الأجود والأوفر والأنسب.

وكنت فيها عام 2007 وتملكني الخوف عليها، وحسبت أن الحزب الإسلامي الذي بدأ نجمه يسطع ويملأ الحياة نورا وإقتدارا لن يدوم طويلا، وكان هناك عدد من الأخوة الأتراك الذين يعارضون، وكان في حينها إنتخابات، وتبين بعد أن غادرتها فوز الحزب الإسلامي وتألقه أكثر.

ومضيت أترقب بخوف وحذر ما يجري في تركيا من تطورات وإنجازات إقتصادية رائعة، حتى تحوّلت تجربتها إلى نموذجا رائدا وقدوة لدول المنطقة، لكن تركيا تجاوزت الخطوط الحمراء وما مسموح به، فلا يجوز أن تكون في المنطقة تجربة ناجحة تمنح أملا وتفاؤلا وإحساسا بالقوة والإقتدار.

فالمنطقة عليها أن تعيش إنكسارات وهزائم وخسائر وإندحارات عنوانها الفشل والضياع، لكي يخيّم على وعي الأجيال بأنها قاصرة وخائرة وعليها أن تتبع وتذعن.

والذي كاد أن يحصل في تركيا يصب في هذا الإتجاه الذي يريد القول بأن الإسلام لا يصلح للقوة والحياة، وإنه مصدر ضعف وخراب ودمار، كما تترجمه أحزاب الإسلام السياسي التي تنفذ هذا المشروع بمهارات فائقة، وتؤكد بسلوكها السلبي التدميري أن الإسلام ضد الإسلام وضد العرب والمسلمين، وأن عليهم أن يَتعوْلموا ويذوبوا ويتخذوا من ثقافات الآخرين لهم نهجا وهدى!!

أي أن الأحزاب الإسلامية والتشكيلات والتجمعات والفئات تترجم إرادة الآخرين، الساعين لتقديم الحقائق العملية على أن الإسلام لا يصلح كمنهج لحياة متقدمة آمنة، وأدلتهم على ذلك، ما يحصل في العراق وليبيا واليمن وسوريا وغيرها من الدول العربية والإسلامية، ووسائل إعلامها تقدم الإسلام على أنه عدو الحضارة المعاصرة، وعليه أن يُحارب.

ويشذ عن هذا ويقاومه ما يقوم به الحزب الإسلامي في تركيا الذي أثبت أن نظرية الآخرين خائبة، وأن القوة بالإسلام الذي يعبّر عن جوهر مبادئه وقيمه وسلوكه الإنساني العالمي.

فالعولمة قيمة إسلامية منذ مبتدأ خطواته، وكان أوائل المسلمين في مكة من أجناس بشرية متنوعة، ولم يكونوا جميعا من العرب!!

ولهذا كله وغيره الكثير، جرى ما جرى في تركيا، وأنه البداية لمعركة شرسة هدفها الواقع التركي المتقدم، ونكران قدراته المبدئية والحياتية الكفيلة بصناعة إقتصاد متطور معاصر، وبناء المجتمع الإنساني القوي المرتقي إلى حيث الإبداع والقوة والإقتدار.

وهكذا فأن الخطة الإنقلابية كانت واسعة وشديدة ومُحكمة، لولا إرادة الشعب التركي الذي هبّ بغيرة وطنية إسلامية غير مسبوقة،  أذهلت القائمين على الإنقلاب بقدراتهم الداخلية والخارجية، وحيّرت القوى المساعدة التي بقيت تترقب بحرج ودهشة، وعجب من قدرة بضعة كلمات عبر هاتف نقال أن توقظ شعبا بأكمله من نومه، وتطلقه في الشوارع متحمسا غيورا مدافعا عن حياته الحرة الكريمة الصالحة التي ينعم بها، ويرفض أي طغيان جديد، فانتصر الشعب وقدم ملحمة وطنية ذات روح إسلامية رائعة، زعزعت الرؤى والتصورات الشائعة عن المجتمعات الإسلامية، ولهذا رأينا الكثير من خطوات التشويه والتشويش التي يتم ترويجها لتقليل قيمة ودور الشعب التركي، ودفعه إلى ممارسات متوافقة مع النمطيات السائدة في الإعلام ووعي الآخرين.

فالشعب التركي أسقط نظريات وثوابت وسلوكيات راجت وتسيّدت، وزعزع أركان الوعي والإدراك العالمي عند الناس في أرجاء الدنيا، وجعلهم يعيدون النظر بالتعميمات السلبية السوداء الكريهة عن الإسلام.

فهل هذا يروق للذين لا يريدون صورة إسلامية إيجابية مشرقة؟!

وبالتأكيد لن يكونَ ما قام به الشعب التركي مقبولا ومتوقعا عندهم، وعليه فأن المرحلة الجديدة التي ستعيشها تركيا هي التصدي لمحاولات شق الشعب التركي وفرض النموذج العراقي واليمني والليبي والسوري عليه، مما يتطلب حذاقة سياسية ودهاءً خارقا، وقدرة على التفاعل الواعي الإيجابي الذي يضع في نظره وحدة الشعب وتفاعله الإيجابي السليم، لأن أية ثغرة سيتم الإستثمار فيها وتوسيعها إلى حد لا يُصدق.

ذلك أن القوى التي رسمت مشروع الإنقلاب تعرف ماذا تريد وإلى أي هدف تسعى، وكيف يمكنها أن تمزق وتدمر وتقضي على إرادة الوجود الوطني في أي بلد، وأنها تستثمر في النتائج بقدرات فائقة، وحتى بعد فشل ما كان مطلوبا، فأن هذه القوى لن تلقي سلاحها وإنما ستواصل الإستفادة من التداعيات، وسيكون موضوع الإعتقالات هو هدفها، وربما ستعمل على توظيفها لشق الشعب التركي والنيل من إرادته، وإضعاف قدرات الحزب الذي يتولى زمام الأمور بديمقراطية وروح إسلامية إنسانية معاصرة، أو دفعه للسقوط في فخ التعادي مع الآخرين.

فالقوى التي خططت ورسمت المشروع لن تتنازل وأن نَفَسها لطويل، وقدراتها على المقارعة كبيرة، ولن تلقي سلاحها وإنما ستتعلم من محاولاتها، وهذا ما يثير القلق ويدفع للترقب والحذر والخوف مما سيأتي.

ومن هنا فالخشية على الشعب التركي أصبحت أكبر من أي وقت مضى، فما أظهره هذا الشعب المسلم المعاصر الواعي غير مسموح به في المنطقة المقبوض على مصيرها، فما شهدناه ظاهرة إنبعاث روح حضارية في قلب الأمة، مما يشكل خطورة قصوى على المصالح والمشاريع المرسومة والتي هي قيد التنفيذ!!

فهل ستتمكن تركيا الخروج من هذه المحنة المروّعة، وتتعامل بحذر وعقلانية وسياسة تُسقط جميع المشاريع المرسومة لها وللمنطقة، والتي تقف عثرة بوجهها؟!

وهل ستسود الحكمة والدهاء السياسي الأتاتوركي، ويكون العقل سيّدا لا الإنفعال، وتنتصر تركيا على أعدائها الذين لا يريدون لها القوة والرفاه، وتقترب من موضوع الإعتقالات بمهنية وقانونية وعدالة وضبط نفس، وآليات معاصرة بمستوى ما يجري في الدول الأوربية التي تضع لحقوق الإنسان قيمة وأهمية، وأملنا أن تبرهن تركيا على قدراتها الحضارية الإنسانية الإسلامية، والعفو عند المقدرة صفة إسلامية حميدة؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم