آراء

علجية عيش: هل ضياع فلسطين وراء سقوط الزعامة الحسينية؟

eljya ayshالكاريـزماتيون وحدهم يبعثون الحماس في الجماهير ويقضون على الغوغائية

تقول الحكمة القديمة: "أعطني رجال عظماء أقاوم بهم الجبال"

جملة قالها الرئيس جيمي كارتر: إن الاختيار الحقيقي للقائد ليس في إجادته المعركة بل في مواجهته لتحديات المنصب ومسؤولياته، وهذا هو القائد الذي يحقق الثلاثية المشهورة: " دولة ، أمة وسيادة شعبية" وليس ذلك الذي يستعمل فن الخطابة للتأثير على الجماهير بواسطة الكلمات المعسولة والمزيفة، أو يغريهم بالحفلات والمهرجانات للوصول إلى الحكم، بل ذلك القائد الذي يدرك بأن تحقيق الديمقراطية يؤدي الى تحول الشعب الى "حاكم" وقد قيل في القديم: " من كان يرغب أن يكون رئيسا فليكن خادما"، والمتقدم إلى الرئاسة لابد أن يدرب نفسه على التخلي من كثير من مفاهيمه الذاتية، لأن الخدمة مرتبطة بمفهوم العمل والتضحية ولا يتحمل وطأة المسؤولية إلا العظيم

يجيء البطل التاريخي أحيانا في الوقت المناسب ليدرك اتجاهات عصره وآمال شعبه، يتفاءل معه ويحقق له أهدافه"، إنه الزعيم الكاريزماتي كما قال ماكس فيبر هو الذي يلتف حوله الجماهير، وهو الذي يستطيع أن يبعث في الجماهير المؤمنة حماسا يتجاوز السياسة إلى عقيدة لا تتزعزع بقواه الخارقة، والكاريزما charisme  في اليونانية تعني هبة من الله تمكن صاحبها من امتلاك قوة خاصة تصل إلى حد الإيمان بأنه يصنع المعجزات، فالحديث عن القائد المثالي يجرنا بلا شك إلى الحديث عن القيادة وخصائصها، فالقائد هو الذي يمتلك العقلية والشمولية الكلية التي تنظر إلى الأمور من كافة الزوايا،  والذي ينظر إلى مستقبل شعبه مرتكزا على المبادئ والقيم السامية في العمل والعلاقات واتخاذ المواقف المناسبة،  كما تعتبر المغامرة والإقدام والشدة من الصفات التي يشترطها العربيّ في الزعيم المرجو، ولعلها صفة رئيسية في الزعيم السياسي بشكل عام في معظم شعوب الأرض، والنفسية العربية مغرمة بوجه خالص بصفات الرجولة، و" الرجل" في المفهوم العربي أكثر من مجرد أحد جنسين يكونان البشرية، إنه مؤسسة لها أخلاقها ومميزاتها عن سائر الناس، والنجاح والفشل لا يقومان عن النتيجة النهائية للمعركة بقدر ما يقومان على تصرف الرجل وسلوكه في المعركة.

لقد جاء مفهوم الزعامة الناصرية لتصحيح المفهوم اللغوي الخاطئ الذي وضعه اللغويين ، بأن "الزعامة" عبارة عن جاها مطلقا ، ولكنها في حقيقة الأمر تعني الخدمة المطلقة للشعب وتلتزم حقوقه،  تكشف الكتابات أن كثيرا ما كان الزعماء السياسيون يتنكرون للقضايا الوطنية وفي الوقت نفسه كانوا يرددون الهتافات الشعبية ويرفعون الشعارات الشعبية بشكل ظاهري لاستحالة الجماهير وإسكاتها بعدما أدركوا نمو الوعي الشعبي، وهم يقفون في وادي بعيدا عن الوادي الذي يقف فيه الشعب ، وكانت مشاركة الشعب آلامه وآماله أمر صعب عجزت عن تحقيقه الزعامات السياسية التي انسجمت مع نفسها ومصالحها حتى لا يضيع مجدها، والزعامة ومسؤولياتها لم تنهار إلا بعدما انهارت المكونات التقليدية للزعامة في الذهنية العربية، لتحل محلها مفاهيم جديدة متحررة في أصول الزعامة، فلم يمر بلد عربي بالأحداث المصيرية التي مرت بها فلسطين في ربع قرن من الانتداب واجهت البلاد عدوا ذا وجهين، صهيونية تريد سلب الأرض وطرد أصحابها لتقيم كيانان عنصريا مغتصبا حقودًا، واستعمارا يمتص حيوية الشعب ويلهبه ليمكن الصهيونية من التغلغل والتوسع والاستقرار، كان التحدي قويا وثار الشعب عدة ثورات..

احتاج عرب فلسطين إلى زعيم يقود النضال ويحمي البلاد ويدافع عن القضية ويقف أمام الطامعين بالمرصاد، فكان الحاج أمين هذا الرجل الذي قاد تظاهرة ضد الإنجليزيين والصهيونيين عوقب عليها بالسجن لمدة 15 سنة لو لم يهرب إلى شرق الأردن، وجاءت عمامة الزعامة الروحية والسياسية إلى الحاج أمين بفضل تلك الظروف ليصبح في عام 1934 أشهر زعيم عربي خارج القطر الذي ينتمي إليه بعد موت فيصل وبعد موت عميد العائلة الحسينية موسى كاظم باشا، وقد أهله منصبه الديني كرئيس للمجلس الإسلامي الأعلى أن يسيطر على ميزانية ضخمة يستطيع بواسطتها أن يمول الحركة الوطنية وأن يتسلم السلاح الذي ينطلق بالجماهير نحو الهدف الذي يريد، وأهلته سيطرته على عائلة الحسيني أن يسكون الممثل الرسمي لأكبر جماعة في البلاد من قبل تأسيس الأحزاب السياسية، وبعد تشكيل هذه الأخيرة في النصف الأول من 1930 سمحت زعامته للحزب العربي الفلسطيني أن يكون الممثل الرسمي لغالبية الشعب الفلسطيني بل كان هو المسيطر على المؤتمرات القومية التي عقدها عرب فلسطين منذ نهاية الحرب الأولى الى أواخر العشرينيات وعلى مؤتمر "غزة" في 1948 الذي انبثقت عنه حكومة عموم فلسطين.

وكان مؤتمر القدس الإسلامي في 1931 أحد المؤسسات التي بنت للمفتي أمين الحسيني زعامته الفلسطينية والجسر الذي خرج بواسطته من النطاق المحلي ليصبح زعيما عربيا إسلاميا لتزداد شعبيته كلما ازدادت ملاحقاته بين بلد وآخر متنكرا في بعض الأحيان، واضطرته الظروف أن يتنقل تنقلات محفوفة بالمخاطر ، فقد هرب قبل الحرب من فلسطين إلى لبنان وسوريا ، ثم إلى العراق إلى إيران، تركيا، ألمانيا، ايطاليا ثم فرنسا إلى مصر لينتهي به المطاف في فلسطين من جديد، كان الحاج أمين الحسيني يتصف بجرأة المغامرة وهي صفة لا يتصف بها رجال الدين بخلاف فيصل الذي اتسم بالانطوائية وهي عادة لا يتصف بها رجال السياسة، لقد عاش فيصل بعيدا عن الأضواء حتى وهو ملك وكان يجري مباحثاته سرًّا عكس أمين الحاج الذي كان يعشق الأضواء ويقف تحتها سواء دعي إليها أم لم يدع ويركض نحوها من أجل الشهرة السياسية والحديث الشائع مع الناس في حركاته.

تقول الكتابات أن ضياع فلسطين لم يكن بسبب سقوط الزعامة الحسينية، فقد سقط الحاج أمين كزعيم عربي وليس كزعيم إسلامي بسبب التحول الذي حصل في العقلية العربية التي أصبحت لا تتستر عن أخطائها وكان المفتي ضحية تغيير هذه الذهنية التي جعلت الشعب ينزع عنه صفة القداسة حول عمامته، وتكشف الكتابات أن الزعماء السياسيون يتنكرون للقضايا الوطنية وفي الوقت نفسه كانوا يرفعون الشعارات الشعبية بشكل ظاهري لاستحالة الجماهير وإسكاتها بعدما أدركوا نمو الوعي الشعبي، وكثيرا ما كان الزعماء السياسيون يرددون الهتافات الشعبية وهم يقفون في وادي بعيدا عن الوادي الذي يقف فيه الشعب، وكانت مشاركة الشعب آلامه وآماله أمر صعب عجزت عن تحقيقه الزعامات السياسية التي انسجمت مع نفسها ومصالحها حتى لا يضيع مجدها" من هنا حرص الحاج أمين على توجيه المصالح الوطنية والمصلحة الحسينية والدمج بينهما، وحرص الملك فيصل على دمج القضية العراقية بالمصلحة الهاشمية.

يقول الدكتور أنيس صانع في مذكراته التي عالج فيها "مفهوم الزعامة السياسية من فيصل إلى جمال عبد الناصر"  لو قلبنا صفحات التاريخ السياسي المعاصر للعالم العربي في أقطاره المختلفة لوجدنا أن مجموعة من الزعماء الأكثر شهرة تنقسم إلى فئات ثلاث: "عاهلو دول، ورجال ثورات وانقلابات، ورجال أحزاب" وقد لا يوجد بين هؤلاء كلهم رجل فكر واحد، ولعل اختراق العمل السياسي في البلاد العربية يتناسب مع الفكر، يقدم الكاتب مثالا بنوري سعيد كان هذا الأخير يتبنى القضايا العربية كلاميا فقط ويعلن أنها والقضية العراقية من معدن واحد، بحيث أكد فشله في معالجة القضايا العربية العامة أو العراقية كرجل دولة حر، وقد أفقدته هذه السياسة الأمل في أن يكون زعيم العرب خارج العراق عكس سعد الذي عمل جاهدا لإيجاد قاعدة شعبية له وسياسته خارج البلاد ،  لقد  تبنت الزعامة الناصرية خدمة الشعب ومبررا لوجودها واستمرارها، وقد مهدت التغيرات العربية لإسقاط الزعامات التقليدية ومفاهيمها والتمهيد لقيام مفاهيم صحيحة للزعامة، مفاهيم تنسجم مع الواقع العربي المتطور، إنها الزعامة الناصرية الشاملة، التي لعبت دورا كبيرا في القضاء على مفاهيم الزعامات القديمة ، وفي إسقاط ما كان قد بقي من زعامات أو أشباه زعامات، بحيث اشتد الوعي السياسي ونموه وذلك بفضل عوامل عديدة أبرزها حصول بعض الأقطاب العربية على استقلالها وانضمام معظمها إلى الأمم المتحدة، وساعدت هذه الزعامة الجديدة المتمثلة في الزعامة الناصرية في إخراج "الإنجليز"، في هذه الفترة لم تجد التطورات صعوبة في فضح الأحزاب أساليبها الحزبية، لاسيما وقد فضحت هذه الأخيرة نفسها بتناقضاتها وتنازلاتها ومساوماتها حتى أصبحت الحزبية وهي أسلوب طبيعي في الديمقراطية السليم في أذهان الناس أسلوبا رخيصا وملتويا لكسب الغير مشروع معنويا وماديا على حساب المجموع، وقد نجحت التطورات في شل النشاطات الحزبية شللا كاملا ماعدا بعض الأحزاب التي بقيت تنشط بحرية كحزب البعث وألإخوان العاملون في سوريا.

 

في علاقة جمال عبد الناصر بـالجماهير والنخبة

كيف كسب جمال عبد الناصر ثقة الشعب؟، سؤال طرحه أحد الباحثين، وكان الجواب هو أن ذلك لم يكن بتثقيف الجماهير بالكتب المجانية والصحف والإذاعة والتلفزيون وتوسيع الجمعيات والنوادي فحسب، بل بفتح " أبواب مجلس الأمة" و" الإتحاد الاشتراكي" لجميع طبقات الشعب وإشراكه في إدارة مؤسسات العمل والإنتاج وبهذا الوعي استطاع جمال عبد الناصر القضاء على " الغوغائية" والغوغائيين التي كانت قاعدة أساسية من قواعد الزعامات السابقة وقاعدة لبعض الأحزاب التي اشتغلت عواطف الشعب خاصة الطائفية منها، كما استطاع جمال عبد الناصر تحقيق أول وحدة عربية قومية في التاريخ الحديث بتبنيه القضية الفلسطينية والعمل لتحقيق رغبات الشعب الفلسطيني ومؤازرة الحركات التحررية والتقدمية في الأقطار العربية وإعلان "عروبة" مصر، التي كانت قاعدة التحرر العربي والعمل القومي منذ أيام العثمانيين، ثم ترسخ دورها العربي السياسي بعد تأسيس الجامعة العربية وخروج وادي النيل من عزلته، هناك من حاول تفسير التفاف الجماهير حول جمال عبد الناصر على أساس نظرية الزعيم " الكاريزمي" ، رغم الحق الدفين الذي يكنه وولتر لاكير لجمال عبد الناصر، إلا أن وولتر اعترف بأن الرجل هو الزعيم الكاريزمي الوحيد الذي لم تتزعزع مكانته بالهزيمة، فعبد الناصر حسب ما أكدته الكتابات التاريخية والسياسية كان يتمتع بقدرات تنظيمية وإحساس عميق بمشكلات العصر وآمال الأمة وأحلام الشعوب في الحرية جعلت شعبيته تتزايد خاصة أثناء محاولة اغتياله في المنشية عام 1954 حيث وجهت إليه ست رصاصات وهو يخطب في الإسكندرية ، فرغم هذه الحادثة ظل عبد الناصر واقفا في مكانه يتحدى الموت وراح يخطب في الجماهير قائلا: "إني لم أمت ولو متُّ فإن كل واحد منكم هو جمال عبد الناصر، ولن تسقط الرّاية".

تشير بعض الكتابات أن الإخوان المسلمين كانوا من ألذ أعداء القومية العربية وكانوا يتنكرون لها إلى درجة التطرف بحيث اعتبرها الإخوان " كفرًا"  مستوردا من الخارج يراد منه استبدال الإسلام بأفكار علمانية غربية، واعتبرها القوميون السوريون (الحزب السوري القومي) خيانة بحق الوطن السوري، وشن كلاهما حربا شعواء ضد الفكرة العربية زو دعاتها ولا تزال الجماعتين تقف موقف نفسه تجاه الحركة القومية العربية باستثناء حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب، في حين يصرح الكثير من المثقفين الماركسيين بأنهم لم يكونوا ضد جمال عبد الناصر، ولم يهاجموه ولم يهتفوا برحيله ولم يطالبوا بسقوطه، فالقرارات الناصرية تؤكد على توثيق العلاقة بين عبد الناصر و" النخبة" كقيامه بمنح أعلى الأوسمة لنجيب محفوظ، ووسام الأداب والفنون ليوسف إدريس رغم انتقاداتهما له، كما يبرئ العديد من المثقفين الماركسيين عبد الناصر من عمليات التعذيب والقمع لأن المتهجمين على عبد الناصر تقول الروايات كانوا اشد المنتفعين من المؤسسات الناصرية تقابلهم في ذلك مثقفي الإخوان المسلمين وجمعية مصر الفتاة الذين رفض كُتابُها تبرئة عبد الناصر من الجرائم التي ارتكبت خاصة في قضية تعذيب زينب الغزالي وإعدام سيد قطب وغيره من زعماء الإخوان.

 

......................

المراجع

كتاب رؤية جديدة للناصرية للدكتور مصطفى طيبة،  كتاب "المثقف العربي والسلطة" بحث في روايات التجربة الناصرية للدكتور سماح إدريس، وكتاب بعنوان " في مفهوم الزعامة السياسية من فيصل الى جمال عبد الناصر" للدكتور  أنيس الصايغ،  كتاب "الحكومة المثالية" تأليف الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر" ثم كتاب " فن القيادة" للدكتور : ج. كورتو تعريب النقيب الهيثم الأيوبي

علجية عيش

 

في المثقف اليوم