آراء

صالح الرزوق: موت حلب

saleh alrazukتشهد الهدنات المتتالية في حلب نكسة بإثر نكبة. ويبدو أن الأوضاع الإنسانية المتدهورة هي الأرض التي تمهد لمزيد من العنف. فقد اتسعت دائرته إلى درجة تنذر بعواقب يمكن للجميع أن يراها الآن.

بعد خمس سنوات من ربيع الخراب والدمار العربي، وبعد ثلاث سنوات ونصف من اندلاع الأزمة في مدينة حلب، وهي عاصمة الشمال السوري، يبدو الرهان عليها في أشده.

لئن سقطت حلب سوف تسارع المعارضة لإعلان دولتها. كما حصل في الحالة الليبية حينما انفصلت بنغازي عن طرابلس. والانقسامات في عالمنا العربي (وعذرا من القوميين الذين اعتادوا استعمال مفردة الوطن) أصبحت طقسا جاهزا.

ويبدو أن مبدأ الضد النوعي الذي يبشر به الأستاذ الباحث ماجد الغرباوي هو الأقرب للمنطق.

باعتبار أن الأنظمة السابقة، التي هيمنت على الصورة لنصف قرن من الزمان، رفعت شعار الوحدة العربية، كان من البديهي للمعارضة أن تتكلم عن عكسه. وهو فعليا وواقعيا تجزيء المجزأ. يعني التخلص من فكرة الوحدة. وهي فانتازيا لا تفرق بين فلسفة الأمة وفلسفة الدولة (كما تقول وين جين أويان). حتى أننا كنا أحيانا نشهد وجود دولتين في كيان دولة واحدة. كحالة الفلسطينيين في لبنان، أو حتى دويلة سعد حداد في الجنوب. وكلا الدولتين الافتراضيتين شهدتا نهاية تراجيدية.

فقد انسحب الفلسطينيون بأسحلة فردية خفيفة ويمكنك أن تقرأ عن هذه اللحظات في مذكرات سعدي يوسف (أفكار بصوت هادئ، 1987). بينما لجأ أنصار حداد إلى إسرائيل بعد كشف الغطاء الأمريكي عنهم. ولكن هذا لم يتكفل بإنهاء المشكلة، وإنما خلق فراغا نفسيا ومعه توتر إيديولوجي لا زلنا نعاني منهما.

وإسقاط شعار الوحدة في هذا المخاض مهد الطريق لنظريتين.

إحداهما يغذيه العقل الليبرالي، ويحاول أن يكون أكثر تعقلا، ويحذو حذو الأوربيين. بمعنى أنه يطرح فكرة أوطان تحترم حدود سايكس بيكو التي رسمها الحلفاء عام 1921. والثانية وهي ذات طابع راديكالي وتلغي الوحدة العربية بالوحدة الإسلامية. يعني تعمل جاهدة على استبدال الفكر الكلاسيكي بالسلفية المعاصرة.

وتوسيع مساحة الاتحاد المزعوم، إن دل على شيء، يدل على عداء مزدوج لكل الأطراف سواء النظام أو المعارضة. وهذه هي نقطة الضعف التي تعاني منها ثوراتنا. فهذه الرادكالية ما هي إلا تحول من تحولات الإسلام السياسي. ولا داعي للتذكير أنه شارك بكل الثورات مع القوميين في 1952 ثم في 1963 ثم في 1968 وفي 1970. ولكن تعرض لنكسة لا يزال يعاني منها حتى الآن. وربما هذا هو أحد الأسباب لظهور هذه الطفرة المرعبة. الانتقال من وطن عربي بخلفيات إسلامية إلى خلافة إسلامية. مع الاعتراف أن الفرق بين المرحلتين يحتاج لسياسة حرق المراحل حسب المبدأ اللينيني المعروف. وهو ما نتألم منه. وبصريح العبارة هو ما نكتوي بلهيبه المستعر. فالحدود تحترق. والتوزيع الديموغرافي يشهد تبدلات شكلت جيوبا سيكون لها في المستقبل القريب نتائج وخيمة.

ربما هذه العبارة تجرح أو تؤذي المشاعر، لذلك أفضل استبدالها بعبارة أرق، لتكن: نتائج غير مرغوب بها. ولكن ضرورات التهذيب لا تلغي الشعور بالرعب مما يحاك في الخفاء.

لقد تبدلت خريطة بيروت أولا. ورسمت الحرب الداخلية خطوط عزل نشعر بها ولا نراها. والانتقال من شرق إلى غرب بيروت ليس بلا ندوب. عند خطوط العزل بمقدورك أن تشاهد علامات تذكرك بمعنى الفتنة ومعنى الاستهتار وأن لا تحترم العهد غير المكتوب. أصلا السياسة في لبنان تخضع لميثاق عام 1943 وهو غير مكتوب في الدستور، وإنما متعارف عليه. وأنصح بالعودة لأطروحة دكتوراة (باسم الجسر) التي تتكلم بالتفصيل عن هذه المشكلة.

بالنسبة إلى حلب.

الهدنة الأخيرة تأمل بمناطق منزوعة السلاح، وبدخول لقوات الأمم المتحدة لفرض شريط عازل. يعني لرسم خطوط العزل التي سوف نشعر بها طوال الأيام الباقية من أعمارنا ولكن ربما لا نراها.

وعموما يوجد حاليا جدار إسمنتي يعزل شرق حلب عن قسمها الغربي. وهو لا يختلف بمناعته وخطورته عن جدار برلين في أيام الحرب الباردة. إنما هذه الجدران هي أصلا ترجمة للغة الفوضى والشك والعبث. لقد سبق إقامة الجدار تهجير اختياري وآخر قسري. وصورة مدينة حلب اليوم تضم ثلاثة غيتوات.

الأول يعود للجماعات المسلحة التي تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية.

الثاني تحرسه وتحيط به ميليشيا الأكراد. وهو من غير سكان، لأن الأكراد في المدينة متداخلون مع بقية الأعراق، على الأقل لحينه. وسياسة الاكتفاء بالذات لم تطبق إلا في بعض الأرياف، وفي مناطق شمال شرق البلاد، بمحاذاة العراق. وهي ذات غالبية كردية بالأساس، مع القليل من بقايا الآشوريين بديانتهم المسيحية وطقوسهم وثقافاتهم.

الغيتو الثالث لعامة السكان. ويزدحم بالموظفين الذين جاؤوا من الأحياء الشرقية. وهم يبحثون عن قوت يومهم بالعمل في المؤسسات والإدارات. وجزء غير قليل منهم نزح من الريف مع بداية التحول الاجتماعي في النصف الأول من الستينات، وتحولوا بقوة المنطق إلى كتلة من المهاجرين بعادات وأخلاق الريف. لكن بموجبات إقتصاد أهل المدينة. وقد تسبب ذلك بإنشاء طبقة متوسطة غريبة عن قاعها النفسي.

ويمكن أن تفهم أنها الطبقة الوسطى. تؤمن بالقدر والروتين والاتكالية. ولديها مزيج من المعتقدات الموزعة بين الفكر الخرافي والركون لحياة الكسل والدعة وأدوات الثورة الصناعية.

الغيتو الرابع والأخير هو سكان غرب حلب. وقد تعرضوا لنوع غريب من الإزاحة. جزء تعرض لنزوح في الداخل هربا من موجات الأحياء الشعبية. والجزء الآخر غادر البلاد. ولكن الحق بالعودة مشكوك به، فالمفتاح مع النازح لكن الباب والقفل تبدلا بغمضة عين.

وهذا يعني أن التبدل بالحمولة السكانية دائم وليس مؤقتا. وهذا ليس بشيء جديد على تاريخ حلب.

فمنطقة بستان القصر (وهي منطقة مخصصة للوجهاء في الفترات السابقة) حولها عبدالناصر في فترة الوحدة بين 1959-1961 إلى منطقة شعبية خاصة بصغار الموظفين. واليوم معروفة باسم (الكلاسة). و هي أول الأحياء التي سقطت بيد المسلحين. و قل نفس الشيء عن منطقة الميريديان التي يقطنها أبناء الطبقة المتوسطة. فقد كانت قبل 1967 وغزو إسرائيل للجولان، عبارة عن إقطاعات وحقول وفيلات للنخبة التي حكمت سوريا بين الاستقلال في 1947 ودخول البعث إلى السلطة في 1963. لقد ذابت هذه النخبة الأرستقراطية، و لم يبق منها شاهد على يدل على نفوذها السابق.

والشيء نفسه ينسحب على الضواحي التي تحولت إلى مجرد مخيمات لأبناء الريف. ولا تختلف بشيء قليل أو كثير عن مخيمات المهاجرين الفلسطينيين، حيث يتجاور نمط إنتاج السلع الريفي مع نمط استغلال وإنهاك الأرض بالطرق المدينية القديمة.

وبقليل من التفكير تجد أن غرب حلب هو الخاسر في هذه الفتنة. فتغيير بنيته الاجتماعية. وسقوطه بفعل موجات الهجرة أدى لتفريغه من مضمونه السابق.

وهذا يعني أن الحلقة الأضعف في حلب، وهي سكان الأطراف، تجتاح الآن المنطقة الغربية المحصنة. وبالاستطراد إن غرب حلب سيكون نقطة ضعف وخاصرة لينة ومستعدا بضيوفه لحضانة الإشكالات التي تسببت باندلاع الفتنة.

إنه شيء من طبيعة الأمور.

فالأسوار تحمي المعتقدات ولكن لا تصنعها. وأغلب الظن أن إعادة إعمار شرق المدينة بعد توقف الحرب سيعكس الصورة وسيجعل حلب تقف على رأسها.

مثل إسطنبول.

القسم الآسيوي للأغنياء وللإقطاعيين والرأسماليين. والقسم الأوروبي للبورجوازية الصغيرة الناشئة. وهذا يعني أن حلب مدينة ميتة سريريا. وإعادة إعمارها سيقدم صورة بديلة. ربما بيروت أخرى. أو وارسو أخرى.

لا أحد يستطيع استباق المجريات. لكن لن تحتفظ هذه المدينة من الماضي بغير اسمها المكتوب على الورق وفي المخططات.

 

في المثقف اليوم