آراء

صالح الرزوق: هزيمة المسلحين وما بعدها

saleh alrazukبعد إخلاء حلب من المسلحين ستبدأ مشكلة إعادة إعمار المناطق الشرقية الأكثر تضررا، وقبل ذلك إعادة تأهيل سكانها النازحين، بالواقع بقاياهم، لأن جزءا كبيرا تسرب عبر الحدود إلى تركيا، أو ركب في قطار الموت السريع باتجاه الدول الغربية.

ولا ضرورة للتفصيل في معنى  الظاهرة، ركوب المخاطر ليس هربا من الموت ولكن لاستغلال هذه الفرصة وتحقيق الحلم المكبوت، أن تعيش في بلد متحضر. وبرأيي هذه عقدة نقص ناجمة عن نظام المعرفة في بلد متخلف.

وطبعا لا يعرف النازحون الثمن الذي يجب تسديده. ولا أشير هنا لمبدأ الكرامة، فهي أصلا غير موجودة، في ظل الفساد والروتين. وإنما لظروف الحياة في معسكرات اللجوء والخضوع لاختبار الاندماج. فالبلاد المضيفة ليست دائما هي المهد الجاهز لحضانة هذه الشريحة من الانتهازيين، ولكنها مغسلة تعمل على إعادة انتاج التخلف الاجتماعي بشروط حضارية.

لقد انتشر سكان شرق حلب في أرجاء المعمورة ودخلوا في دورة  إتلاف وإعادة تدوير خاصة بهم، أما النذر اليسير الذي استمر في حلب، فقد تأقلم مع حالة التشرد الداخلي وطور توليفة من الأخلاق الجديدة، ولا ضرورة لتقديم كشف حساب، فالأرقام ستكون مرعبة.

وأترك المهمة لسعر صرف الدولار وأسعار المواد الأساسية لتتكلم، ناهيك عن ارتفاع أجور الخدمات من مأوى وإنارة ووسائط نقل. مع ازدهار غير مسبوق للأمية بين صفوف اليافعين.

لقد أثقلت حالة التشرد على غرب حلب. ودفع سكان المنطقة الآمنة الثمن مضاعفا. فقد زادت الحمولة السكانية وارتفعت التكاليف. وربما هذا يذكرنا بنتائج هجرة أبناء الريف إلى المدينة استجابة لتبدل النظام عام ١٩٦٣.

لقد تعرضت حلب وعموم سوريا لهجرة طوعية هربا من التأميم ونجم عن ذلك تفريغ اجتماعي. وترتب عليه توزيع سكان الأرياف على المدينة وعلى وظائف الدولة والجيش. وأسفر كل ذلك عن خلل اقتصادي. ولا سيما أن الأرض لم تعد تجد من يؤمن بها. وانتقل الاهتمام من إنتاج الحياة إلى الاهتمام بامتلاكها. والأسوأ من ذلك أن دروس التحويل الاشتراكي لم تجد أذنا مصغية. فقد شغل المهاجرون الوظائف بالعطالة المقنعة وبمن ليس لديهم تصور واضح عن معنى الوظيفة. واختنقت المدينة بشريحة لا تنتمي إليها عضويا. وكانت النتيجة ضياع أخلاق الانتاج الزراعي وتذويب أخلاق وعادات ابن المدينة.

بتعبير آخر نشأ فراغ روحي يمكن وصف طريقة عمله بنفس آلية انتشار السوائل. يكون اتجاه الحركة من الأكثر تركيزا إلى الأدنى. لقد شجع اختلال التوازن على البحث عن المعرفة المفقودة والتي لم يكن جاهزا لعلاجها غير الدين. وكانت النتيجة بناء مجتمع هجين لا يتطور وفق صيغ أو معايير مدروسة بل بمبادرات تتاجر بالأزمات ولا يمكن أن تقدم لها العلاج الشافي. أو كما قال عواد علي في رثائه لجلال صادق العظم: أوصلتنا رعونة السياسيين إلى علمانية إسلامية ورطت البسطاء في أكبر عملية تزوير للعقل و التاريخ*.

إن محنة حلب في فترة ١٩٦٣-١٩٦٦ هي جزء من تجهيز المجتمع والبلاد لأقسى هزيمة عسكرية عام ١٩٦٧. فماذا تحضر المحنة الحالية التي بدأت عام ٢٠١٢؟.

أعتقد أن السيناريو ينطوي على مزيد من خيبات الأمل على كل المستويات.

ستكون الخدمات عاجزة عن استعادة الثقة بها. ولن تتمكن الحكومة من استيعاب احتياجات النازحين لا في فترة الحرب ولا ما بعدها. وسيجد المضارب والمقاول ثغرة جديدة  لاستنزاف الإنسان البسيط ولتكبيله مرة أخرى بالديون الباهظة.

وعبارة مرة أخرى تشير لما حصل في اضطرابات عام ١٩٨٠.

إن تدفق رؤوس الأموال الوطنية (بين قوسين) وتخصيصها بالاستثمارات الاستهلاكية يسبق دائما الاضطرابات. ليس في سوريا فقط بل على المستوى العالمي. حتى أن صعود الفاشية والصورة الأشرس منها ، النازية، سبقه تورم اقتصادي لا يدل على عافية ولكن يدل على احتقان. وهذا لا يعني أن سوريا تسير على خطوات هذه النماذج ، فاقتصادنا الوطني لا يزال يحبو على الأرض ويأكل من فتات الأسواق .فهو غير انتاجي. ويستورد كل شيء، ابتداء من المواد الخام وحتى أدوات الانتاج. ولنضرب مثالا بقطاع النسيج.

حتى في أوج ازدهار الانتاج كانت المعامل مستوردة ابتداء من المسمار والبرغي وانتهاء بالشرائح الحساسة التي تعمل بالطاقة الكهرومغناطيسية. ناهيك عن حبيبات البلاستيك التي تستعمل في صناعة الخيوط الذكية.

أعتقد أن المطبخ السياسي يجهز الآن على نار هادئة الخطة باء من هذه الحرب .وتفكيك المجتمع لن يكون هو خاتمة المطاف. وإذا خرج المسلحون من حلب فالحرب الباردة ربما تكون أقسى وأمر.

وليس بمقدوري أن أتنبأ بالتفاصيل بالضبط.

ولكن أستطيع أن أتخيل مقدار الخيبة والسقوط، وأن أتذكر نتيجة حرب النجوم والتي أسدلت الستار على خمسين عاما من الحرب الباردة بين الغرب والشرق.

من كان يتنبأ بسقوط دراما الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو بتلك السهولة؟..

لم يكن ذلك صداما بين الحضارات بل هو تصفية حساب بين المشاركين في هزيمة الرايخ.

والصراع على سوريا ليس ببعيد عن هذا الجو. فتصفية الحساب بين البيروقراطية التي أمسكت بزمام الأمور منذ منتصف الستينات والإسلاميين الذين ساندوها في إنهاء حكومة الإنفصال كان عنيفا وداميا. ولا تزال ذيوله تغذي كل أنواع الحركات الانقلابية واغتيال صورة وروح المجتمع. فالعطب في الداخل، ولولاه ما وجد أحد طريقه للتآمر. وبالأخص في ظل  التطورات الدولية التي وضعت الخليج العربي على فوهة البركان..

إما أن يصعد أو أن يتعرض لنفس مخاطر التفكيك والفوضى والتآكل.

 

.............................

*نقد العقل المسحور. صحيفة العالم. عدد 1624.

 

في المثقف اليوم