آراء

التخبط في الوعي الفلسفي العراقي لما بعد السقوط

بعدما اتاح سقوط الدكتاتورية مساحة واسعة للحرية بشكل عام والحرية الشخصية بشكل خاص، تداخلت وتخبطت الموضوعات (السياسیة، الفلسفية، الايديولوجية، العلم والمعرفة) على الناس .

المعروف عن العراق بعمقه كدولة صاحب حضارة وتاريخ (واننا لم نكن بعيدين عن ما نسمعه في جوانب هامة نعتبرها مفخرة لبلاد مابين النهرين عن كونه اقدم حضارة او منبع ولادة اول مدرسة فلسفية كما يدعى الكثيرون ان لم نبالغ، وهو الفلسفة التي برزت واستهلت بناءها و نشاتها وانبثاقها هنا وقبل المدرسة الايونية للحضارة اليونانية وهي الحضارة السومرية وما تتضمن من الاشارت لما كانتعليه عن كونها ساحة براقة للعلوم والمعرفة والفلسفة على الرغم من الاختلافات في الرؤى حول حقيقة هذا الامر في بلاد الغرب وبعيدا عن التعصب الشرقي .

لو درسنا حضارة وادي الرافدين وما كان الوضع الاجتماعي الثقافي السياسي والاقتصادي التي كانت عليه المنطقة هذه بالذات، والمكونات الاساسية للشعوب التي كانت موجودة فيها من الاشور والكلدان والسريان والارمن والكورد والعرب في العراق اليوم او في كوردستان  كجغرافيا والعراق بشكل عام من خلال السومر والاكد والاشور في حينه . وبعد التمحص في كتابات ونتاجات الاخرين وما لقيناه من العلماء والفلاسفة المختلفة الاصول؛ ربما يمكن ان يوضح لدينا ان الفلسفة بمكمنها كفلسفة مضمونا وليس كما عرفت متاخرا او بتعريفها الحالي، يمكن ان نقول انها كانت موجودة على ارض هذه المنطقة بشكل واخر .

لو عرفنا ان بداية الفلسفة اليونانية قد استهلت منذ حوالي 680 سنة قبل الميلاد، ومنذ بروز المدرسة الايونية ومن خلال اهم اعلامها وهو طاليس الملطي وتلميذه اكسيمندرس ومن ثم اكسيمانس الى اخر علماء هذه المرحلة وهو ديموقريطس، فنجد ان هناك ثوابت على ان الفلسفة او مضمونها كان في هذه المنطقة على شكل لم يكن بشكل منظم وعلمي ومدرسي كما هو حال المرحلة الفلسفية اليونانية . ومن ثم استقرت الحال في يونان كمولد ورحم للفلسفة وتطورها بعد المرحلة الفلسفية الثانية التي ابتدات بالسفسطائيين وبرز منها سقراط مرورا بافلاطون واختتمت بارسطو في نهايتها الى ان اخذت الحال وقتا لتبدا المرحلة الثالثة لتطور الفلسفة اليونانية التي سميت بالابيقورية والرواقية واختتمت هذه ايضا بالافلاطون المحدثة . وكانت يونان متصدرة وفي مقدمة كل البلدان في هذا المجال على الرغم من انها لم تكن الامبراطورية التي انبثقت فيها الفلسفة بشكلها البدائي . اي هناك عوامل وظروف كثيرة ما جعلت يونان ان تحوي في تاريخها مراحل التطور الطبيعي للفلسفة ولم  يظهر ويبق لحد اليوم ما اذا لم تكن  قد استفادت من غيرها كما يدعي الكثيرون حتى من القارة الاوربية ايضا والذين يدعون بان اليونان قد اوردت الفلسفة علما من المناطق الاخرى وبالاخص ما تقوله الالمان والانكلترا . غير انه لم نجد احدا من الشرق بان يتهم اليونان على انها التي اخذت ما برزت عليها من الشرق، وعلى الرغم من قدم الحضارات الموجودة في المنطقة وما تتصف بسمات يمكن ان تكون فيها فلسفات او علوم وربما كان يملك ما يفكر ويجرب ويهم بالفلسفة، وان لم تسمى او تعرف باسمها الحالي في حينه .

اننا نتكلم هنا ما مر به العراق تاريخيا وليس باسمه الحالي فقط، اي العراق حضاريا ومنذ ما كان بما يعرف بوادي الرافدين بتركيبته المختلفة تماما عما هو عليه الان ايضا . فانه وان لم يكن  مجذوذا عن ما لا يمكن ان نسميها بالحضارات الاخرى التي لم تتكون بعد كما كانت عليه وادي الرافدين، فانها كانت مجرد بؤر للعلم والمعفة ولم تكتمل الفلسفة فيهم، فاننا يجب ان نعيد اليه، اي الى ارض العراق ما كان فيه  في المرحلة الغابرة لما قبل اكثر من خمسة الاف سنة قبل الميلاد، وكان هو المكان الذي رسخت فيه المعرفة وفق الظروف التي كان عليها من المستوى العلمي والثقافي وما كانت بنيته وتركيبته وارضيته ارقى من غيره .

اي، اننا؛ ان تكلمنا وفق هذا العمق الذي يجب نعرف هذا البلد وفق مالديه من الارث الحضاري الفلسفي دون اية مبالغة، كان لابد ان يسير في جميع المراحل بشكل سوي وليس كما نراه الان من التخلف بمعنى الكلمة ، اي لم تكن هناك مقومات لرفض الشاذ والذي يجب ان يكون صفة متلاصقة بمن انتقل في مرحلة ما نحو الاكثر تقدما من الاخرين والذي كان عليه العراق وكان لم ينافسه احد في الناحية العلمية المعرفية وما مر به . اي، لو طبقنا ما نعرفه عن العراق بكل مكوناته الحالية التي حتى لم تكن بعض منها تابعة للحدود الانية فيه، لو طبقنا ما تكلمنا عنه منما جرى فيه من المخاض الحضاري والانتقال الذي حصل فيه وتغير قلبا وقالبا وكينونة وسار خطوات دون ان يكوّن لديه هناك احتمال للتراجع ، فاننا نتعجب من تقبله للنظام الدكتاتوري لكل هذه المدة من جهة، وان يتراجع بهذا الشكل في كل النواحي ومن ثم يتقبل واقعا بعيدا جدا عن كل ما يمت بالعلم والمعرفة وكانه شجرة مقطوعة من لاشيء، بعد سقوط الدكتاتورية من جهة اخرى .

فهل من المعقول ان يتساوى ما وصل اليه العراق مع بلدان الصحاري القاحلة  وافقر وانكس وما اتمست به هذه المناطق من القحط والتاريخ الفقير والمفلس والمعدوم علميا وفلسفيا . فهل يمكن ان نتوقع كل هذا التراجع ومن كان يتوقع ان يتقدم عليه حتى اصحاب الجمال والمراعي الصحراوية التي لم تعلم بماهية الفلسفة لحد هذا اليوم ولم يقترب في اية مرحلة من تاريخها من ما يمكن ان نسميه خصائص الارضية التي تنبت فيه الفلسفة معرفة وعلما وعقلا، وكل ما نبت فيه هو دين ماخوذ حتى من الاخرى الذي قبله  .

ربما يتساءل احدنا عن الدوافع او الاسباب التي ادت الى انعدام كل ما يمت بالحضارة والمعرفة في العراق اليوم بعد كل تلك التغييرات وما امتلك في تاريخه من المواصفات التي لا يمكن ان نعتقد او نتصور بانه تراجع منه الى هذه الدرجة من الحضيض. اي لو حللنا علميا هذا التواضع من خلال التصور العقلي وما يبرزه لنا ذهنيا القاريء لتاريخ البلد وبما لدينا من سرعة المعرفة اي الذكاء العالي والبروز عالميا لبيان الراي حول هذا المضووع ونصل الى اليقين به وهو ما يطابق المعقول في الواقع الذي كان فيه العراق ووصل الى وضع وحالة لا يمكن ان يتصورها احد، اي كيف يصل الى المربع الصفر وكانه ليس له اي تاريخ حضاري فلسفي علمي طوال وجود الانسان على ارضه، على الرغم من تاكدنا ويقيننا على العكس مما يحيرنا من ما نظنه من اننا قد نتاخر اكثر ايضا . اي، الظن فيما جرى في ثنايا التاريخ بمشاهدة الحاضر، وهذا ربما يضعنا ان نعتقد باننا متوهمون او نعيش في حالة الشك لذلك التاريخ ويمكن ان  نعترف اخيرا باننا ليس لنا تاريخ وماضينا فارغ من اي مفهوم وماندعيه اليوم من المعرفة والفلسفة والحضارة ليس الا خيال وباطل. وعلى الرغم من ذلك اننا نتردد ولم تطمئن انفسنا من الحال ايضا، واننا مترددون بين الاثبات  النو في لما نتكلم عنه في تاريخنا وما اتسم به، فهل نبقى دون اثبات اي حكم على ماضينا ونتحاذى الرايين حول التاريخ الناصع والفاقع لجينا ونبقى مشككين، ونعتقد بان كل ما يقال من الايجابيات عن ماضينا هو مجرد خيال او مبالغة من اجل عزة النفس التي فرضت نفسها في كياننا مما دعانا الى عدم الاعتراف بما كنا عليه من العدم .

انطلاقا من التاريخ الفلسفي العلمي المعرفي الذي تكلمنا عنه في تاريخ العراق، من حقنا ان نتعجب ونستغرب لما وصلنا اليه على الرغم من الانقطاع الذي حصل للشعوب العراقية عن تاريحهم في العصر الحديث ايضا . وربما الاسباب الداخلية او المؤآمرات الخارجية هي السبب والعامل الاول والاخير لتراجعنا بعد ان كنا في الطليعة  في مرحلة ما .

اما لماذا التخبط، فانني اعتقد باننا فكرا وفلسفة ومعرفة لم نستقر على اي واقع او لم يستوضح قليلا هذا الامر لحد الان، فان التاريخ يقول شيئا ولم نلمس من ارثه شيئا سواء كان نظريا او عمليا على ارض الواقع، ومن جانب ثاني نعتقد باننا اولى ان نؤمن بما كنا عليه وان لم يصلنا منه  شيئا يفيدنا، وحدث انقطاع تام بين المراحل المتباعدة في تاريخنا، وعليه اننا نعيش في حالة توهم، لم نفد انفسنا ومن ثم لم نتقبل نتاجات الاخرين ايضا، اضافة الى العالة الكبرى وهي تدخل الدين وما فرض نفسه على عقول الملة .

اذن، التخبط ذاتي تاريخي ومن فعل التاريخ او الانقطاع عنه، ومن ثم بروز الماوراء الطبيعة في فكر الناس، اضافة الى بناء حواجز عالية امام الاستفادة من توريد الاحسن من الحضارات الاخرى سواء القديمة او الحديثة والعصرية التي فعلت ما بوسعها لخدمة الانسانية، وابعدت  الحواجز الدينية التي تتقاطع مع الحضارات والفلسفة العقلانية بشكل عقلاني ومفيد لخدمة الانسان وبناء الحضارات .

 اي تخبطنا تاريخي عقلي وفكري وديني ومذهبي لم يستند على اي شيء سواء كان التاريخ او الفلسفة او الدين، كما يوجد في اجزاء منه من الايجابيات من النواحي الكثيرة وخاصة الاجتماعية والنفسية . اي تخبطنا ليس سياسيا فقط وانما اجتماعي نفسي اقتصادي عقلي ونفسي . وكله في مرحلة ونرى وصل العالم الى قمته في خدمة الانسان . اما الحل، فاننا نعتقد بانه يكمن من التطلع على ما فعله الاخرون اي ندع ما لا نعلمه من التاريخ وسلبياته ونستفيد من نتاج افعال الاخرين في الدول المتقدمة، دون ادعاء اصالة ورصانة العلم  وابنثاقه وولادته في بلداننا دون غيرنا سواء تكبرا او كبريائا او اعتزازا بالتاريخ ومنه غير المعلوم وفي ظل عدم اليقين من ما حدث فيه .

لكي نعود الى رشدنا يجب ان نبدا مرحلة جديدة منقطعة عن كل ما هو سلبي ومتخرف ومتخلف ورجعي من حيث الفكر والفلسفة والعقلية، وعلينا ان نتزاوج بين الايجابيات التي نملكها ونستهل خطوتنا في مضمار الفلسفة والمعرفة من ما وصل اليه العالم ونستفد من قدراتنا الذاتية في هذا الشان، فِمنه يمكن بدء الخطوة الاولى .

 

عماد علي

 

 

في المثقف اليوم