آراء

بين الواقع المرير والواقع المنشود الخطير

لماذا يموت أولادنا من أجل حدود رسمت في سايكس بيكو، ولم يكن لنا فيها يد أو رأي؟!!! .. سؤال يتردد في ذهني دائماً، ويجرني لأسئلة أخرى مثل ..

لماذا نجانب الحقيقة والمشاعر التي تتداخل في صدورونا كعراقيين؟!!!

ولماذا نضحك على أنفسنا وعلى عقول السذج من أبناء جلدتنا ؟!!!

أسئلة قد كثيرة تحمل معاني كبيرة، لكنها تبقى دون إجابة، لا لسبب سوى لخشيتنا مواجهة أنفسنا بالحقيقة .

فمتى نعيش ويعيش أولادنا وأحفادنا بدون ان يبقى الموت والدم مرافق لأحلامنا ومستقبلنا؟

فبعيداً عن المزايدات الوطنية والسياسية من هذا الطرف او ذاك، فنحن نرى على مر التاريخ القديم والحديث .. أن هناك دولاً تختفي من الخريطة الجغرافية، وإن هناك دولاً جديدة تظهر، وإن هناك دولاً تتوحّد وأخرى تتقسّم، ولأسباب عديدة، لكن عموما نرى ان الخارطة تتغير بين الحقب الزمنية، وما الدولة الإسلامية والعثمانية والإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وألمانيا والولايات المتحدة ودولة الإمارات والسودان وغيرها، ماهي إلا شواهد على ذلك .

ومن هنا نستنتج أن الحدود الدولية بين البلدان والمدن ليست منزّلة من السماء ولا تحمل صفة القدسية، التي تجعلها خط لايمكن تجاوزه او مناقشته، لأنها واقعاً من صنع البشر، تم رسمها لخدمة المصالح والشعوب، او لخدمة أجندات وأفكار وأيدلوجيات تمر بحقب زمنية لتنتهي بعدها بشكل جديد .

وقد أثبتت الجغرافية البشرية، بأنها هي السلطة التي تحكم الإنسان على كرتنا الأرضية، فالمكوّن الذي يسود الرقعة الجغرافية من العالم .. هنا وهناك، يبقى هو العامل الديموغرافي المؤثر في حياة المجتمعات في مناطقه .. كأن يكون قومياً، أو عرقياً، أو طائفياً، أو دينياً . إذ أكدت الحروب الإنسانية الطويلة عبر التاريخ البشري القديم والحديث هذا المعنى، فلم تجد الأمم من حروبها ومعاركها مع الأمم غير الإنشطارات والخيبات المتلاحقة عاجلاً أم آجلاً .

فبالتاريخ البشري الحديث مثلاً، لم تفلح معارك الحكومات العراقية مع الإخوة الكرد في شمال العراق في وئد حلم الأكراد في إنشاء دولتهم، فالعراقيون العرب والاكراد، قدّموا مواليد الثلاثينات والأربعينات والخمسينات لأجل حسم المسألة الكردية بالقوّة والمعارك، ولم يجنوا إلا المزيد من القتل والدم والمزيد من العداوات المتجددة، دون جدوى .

ومن خلال هذا المفهوم نرى العراق (اليوم) وهو يعاني من أزمة (سيسيولوجية)، حيث لن يتخلص من كوارثها وويلاتها، مالم يذعن إلى الواقع الديمغرافي والتاريخي فيه .. ويأخذ منه الدروس العبر .

فقد تربينا وآمنّا أن العراق للعراقيين، رغم كل متناقضاته .. واليوم وبرغم كل التناقضات والتراهات والتباينات والمشاعر المبيتة والمعلنة في واقعه السياسي والجغرافي والطائفي والقومي بين اطياف وتشكيلات الوطن، لازال البعض يُراهن على وحدة العراق من خلال سياسات وآيدولوجيات أصبح من الصعب تطبيقها على أرض الواقع بسبب الإنقسام المجتمعي الخطير الذي يعانيه الوطن .

فالسياسات وحدها واللآيدلوجيات لم يثبت التاريخ أنها قد وحّدت الأمم، مالم تكن معززة بالسيف والدكتاتورية، ولم تثبت حقائق التاريخ أن القبضة الحديدية قادرة على أن تطويع المجتمعات، إن كانت في حدود الوطن أو على مستوة العالم، مالم تكن هنالك قناعات مبدئية في عقل المجتمع بالايمان بهذه السياسات والايدولوجيات، فبرغم ان العقيدة النازية سقطت على أرض الواقع، والعقيدة الماركسية سقطت على أرض الواقع، والعقيدة الإسلامية سقطت على أرض الواقع، تماماً مثلما سقطت سلطة الكنيسة على أرض الواقع التاريخي .. لكن بقى الفكر النازي والماركسي والاسلامي يحكم بعض المجتمعات التي رفضت الفكر والسياسة أعلاه .

فلم يستطع الإسلام في زمن الفتوحات أن يوحد المسلمين في عموم رقعته الجغرافية ويجعلهم دولة واحدة إلا عندما كانت تفتح الدول بقوة السيف، لهذا ظهرت المذاهب والفرق والملل والمؤامرات في التاريخ الإسلامي، وإختلف تواجدها بين دول الفتوحات وحسب مفاهيم مجتمعات هذه الدول .لهذا آثر الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) أن يتوجه إلى محاربة الباطل واجتثاث الفساد في المجتمعات الإسلامية ومحاولة ترسيخ الإصلاح كشعار وتطبيق لدولته على الفتوحات الإسلامية بالسيف، عندما لم يرَ ما ينفع فيها .

فما الفائدة من مسلمين غير صالحين، وما الفائدة من أراض شاسعة في خلافة لا تنضوي أمّتها تحت لواء عقائدي واحد ومصير مشترك بقناعة راسخة ؟! فلم يجد في المدينة المنورة بعد مقتل الخليفة الثالث (رض) ما يستدعي تواجده فيها، لهذا آثر أن يرتحل إلى الكوفة العاصمة الإسلامية الجديدة، لعله يفلح بنهجه الاسلامي الجديد، وهو نهج الانسان وعقيدته والمجتمع الفاضل المؤمن والموحّد بعيداً عن التناقضات المجتمعية التي كانت تعيشها الجزيرة العربية آنذاك .

والحالة اليوم بالعراق تنطبق على ماإستشهدنا به من تناقضات مجتمعية خطيرة، حيث نعيش في مفهوم العراق العربي .. الكردي .. السني .. الشيعي . التركماني . الآيزيدي . المسيحي . الصابئي وغيره، تناقضات يصعب ألإتفاق بينها والتفاهم حتى على أصغر وأتفه الأمور ..

لقد مات من أولادنا في معارك الأربعينات والستينات والسبعينات بشمال العراق الكثير، حتى أصبح الشهيد القادم من أبناء العراقيات وأزواجهن عادة مألوفة في جنوب العراق، وما أكثر الجنود الشهداء المطوّعون (الجنود فقط) من أبناء الجنوب، إذ كانت الكلية العسكرية والقوة الجوية حكراً على أهل الموصل والرمادي وسامراء وتكريت .. من قبلُ ومن بعدُ !!!

وصار أبناء الجنوب وقوداً دائماً لإرادات الحكومات وقياداتها العسكرية، في معارك الشرق والشمال والتحرير بفلسطين، التي أرسلت لنا أكثر من 1400إنتحارياً من غزه ليفجّر نفسه بين أسواق ومآرب وبيوت العراقيين ..

العراقيون الذين مازالت أسماؤهم محفورة على مقابر الشهداء العراقيين بفلسطين منذ عام 1948، والعراقيون الذين  مازالت أسماؤهم محفورة على مقبرة الغرباء في الشام منذ حرب تشرين1973، يأتوهم الداعشيون السفيانيون اليوم ليحطموهم بإسم الدول الإسلامية والإسلام والفكر الوهابي، فيهجّرون ويذبّحون أبناءهم بجمال الدم البارد والحار، ولا نعرف لماذا يقتلونهم ويسبونهم ويخرجونهم من ديارهم دون وجه حق، حتى صار الغازي ربَّ المنزل، وأمسى ربُّ المنزل على قارعة الطرقات، في المدارس والقفار ومخيمات النازحين، بلا سكن أو دار، يتصدّق عليه المتصدّقون من هذا البلد او ذاك .

 فبرغم قساوة الفكرة التي اكتب عنها اليوم على بعض العقول، ورغم بشاعة الكلمة على بعض العيون، إلا أن الحقيقة والواقع يقول أننا أصبحنا نعيش في مجتمع تحكمه الطائفة والقومية والمناطقية والدين حتى النخاع، وأصبحنا بعيدين جداً عن الإنتماء الوطني  .. وهنا خرج البعض بمفاهيم الإتحادات .. والفدراليات .. والكونفدراليات، على أساس الجغرافية البشرية والطائفية والقومية .. للكرد .. وللسنة .. وللشيعة على أمل تخفيف المصيبة، وشعار ليعمل كل منا حسب قدرته، ويبني كل منا منطقته بالطريقة التي يريدها، وليتبع كل منا ملته وطائفته وقوميته علنا وبكل شجاعة دون خوف او مجاملة او نفاق .. وليحترقْ من شاء أنْ يحترق في أتون غيّه وانتماءاته !

ومهما يكن من أمر، فالواقع المأساوي المرير والاختلاف الكببر الذي بتنا فيه، والخطورة في المفاهيم التي باتت تحكم مجتمعنا، يحتم على الجميع الوقوف للتفكير وإعادة الحسابات، أو الخضوع إلى إرادات هذه الفكرة والاستمرار والعمل فيها وعليها، وتقسيم الوطن لكانتونات يحكمها امراء الحرب والسياسة والدين .

ورغم ان البعض لازال يُعلن او يخفي ما يعتقد  .. ويعمل بمفهوم ماذا سنجني من تحرير وعتق بقرة لا تُعطي ضرعها إلا لعدوّي بالوطن الذي ترعاه طهران وأمريكا او عمّان وأنقرة والرياض ؟!!

لكن صورة العراقيون الشيعة والسنة والكرد المستبسلون اليوم لأجل إخراج داعش من نينوى والأنبار وديالى وصلاح الدين، وهي كلها مناطق سنية او كردية على الأغلب، يمكن ان تكون حافز حقيقي للوقوف وإعادة الحسابات ونسيان الفروع والإلتحام بالعراق الأصل؟؟؟

وللموضوع بقية ..

والله من وراء القصد .

 

 

 

في المثقف اليوم