آراء

دور الحزب الشيوعي العراقي في تدمير العلاقة بين العرب والكرد

saieb khalil"لقد كانوا فيما مضى، يحومون حول النور والحرية كما الفراشات والشعراء. لكنهم ما ان شعروا بوقر الأيام وصقيعها حتى هرعوا إلى الموقد يصطلون كأصحاب القلانس وأدعياء الحكمة" نيتشة – هكذا تكلم زرادشت

دعونا نسأل: ما هي العلاقة "القوية" و"المتينة" بين أي شعبين، بل بين أي كائنين؟ إنها علاقة "المصلحة المتبادلة" و"التعاطف"، الإحساس بأن قوة الآخر، قوة لي، وبأن ضعفه يهددني، وبأني أأنس الى وجوده. وأن تبنى تلك العلاقة على إحساس عميق من العدالة والاحترام والمحبة.

وبالتالي فأن "تقوية" و"تمتين" العلاقة بين شعبين، تأتي من العمل على زيادة هذه العوامل. إنه أيضاً الحرص على ردع العوامل المعاكسة والعمل بصرامة على التنبيه إليها ومنعها من التوغل في العلاقة بين الشعبين وإفسادها. فهل كان هذا هو دور الحزب الشيوعي في الفترة الأخيرة التي تمتد منذ الاحتلال الأمريكي وحتى اليوم؟ لنلق نظرة على هذا. 

لقد لعب الشيوعيون دوراً بارزاً في مساندة الشعب الكردي وقاتلوا معه، وأفادوه واستفادوا منه في هذا النضال المشترك ضد عدو مشترك. وهم وإن لم يكونوا الوحيدون في ذلك، لكنهم بلا شك الجهة الأبرز. وإلى هنا فقد كان كل شيء على ما يرام. فقد اعطى الشيوعيون الشعب الكردي صورة أخرى عن الشعب العربي، غير تلك الصورة الوحشية التي يعطيها لهم افراد الأمن الصدامي والجيش الصدامي، وغرسوا في وعيهم ان العرب شعب صديق مضطهد من قبل صدام الذي يمارس ضد العراقيين جميعا ذات القسوة والوحشية.

لكن هذه الصورة لم تصمد امام الأحداث وتحطمت بعد الاحتلال الامريكي للعراق بطريقة مدروسة لتوجيه الكراهية المعهودة ضد صدام واجهزته الأمنية، الى كل العرب العراقيين. وكان ضمن نفس التوجهات، محاولة تطبيع علاقة غير سوية بين الطرفين، مُنحت كردستان بموجبها أكثر من استحقاقاتها بكثير واعطيت صلاحيات غير مفهومة وغير مبررة في الدستور كالقدرة على وضع فيتو لا يتناسب مع النسبة السكانية في العراق. ونسبة الـ 17% التي اعترفوا بأنفسهم وفي أكثر من مناسبة، بأنها غير صحيحة. وهو مؤشر على نية في تثبيت الاذلال كأمر واقع وتطبيعه: "نعم النسبة غير صحيحة، ونبقى نأخذها غصباً عنكم!".

ورغم احتجاج اغلبية العراقيين على هذه النسبة المزورة الا انها صمدت وبقيت كما هي، بل ازداد الابتزاز بشكل قوي ومنتظم، وظل يقفز إلى الأعلى في كل مناسبة تتيحها الصدفة، إضافة إلى المناسبات الدورية المتمثلة بتشكيل الحكومة الجديدة وإقرار الميزانيات. هذا طبعا ما يحدث في العلن، اما في الجانب الخفي فلا يعلم أحد حجم الابتزاز الذي تم لكردستان على حساب العرب، إلا ان مؤشرات تبرز بين الحين والآخر، تؤشر حجمه. فقد تبين مثلا أن الوزارات العراقية المختلفة قد صرفت لكردستان فوق الـ 17% الظالمة، مبالغ فوق حصتها بلغت 36 مليار دولار ومع وصول العبادي الى السلطة بصفقة دفع فيها العراق رشوة لحكومة كردستان قيمتها مليار دولار، بقيت هذه المبالغ تتزايد الى ان وصلت إلى أكثر من أربعين مليار دولار، تعتبر "دينا" ضائعا على العرب، لا أحد يأمل باستعادته.

وأكثر من ذلك تم التغاضي عن كل اعتداءات كردستان واحتلالها للأراضي العربية وهدمها للقرى العربية وتكريد اية منطقة شاءت، وضمان عدم وجود أي رد فعل عربي لردع ذلك او حتى وقفه، رغم تقارير المنظمات الدولية!

هذه الحقائق المرعبة التي يكفي عادة واحد بالمئة منها لإثارة حرب أهلية في أي بلد كان، لم تحدث أي رد فعل يستحق الذكر في الجانب العربي، ولم تحدث أي شعور بالظلم يتناسب مع حجمها، واي إحساس بتأنيب الضمير في الجانب الكردي، حتى من قبل أكثر مثقفيه امانة وشرفاً. فقد كان الإعلام يلعب دوراً مخيفا في إبقاء شعبي الضحية والجلاد على حد سواء، في حالة تخدير شبه تام. وتصرف الساسة والأحزاب غالباً وكأن شيئا لم يكن، بينما كانت الضحية تنزف نفطها وأرضها وكرامتها، وتفقد بغداد سلطتها على ارض بلادها التي كانت تدفع إلى الهاوية بتسارع كبير، ووسط تظاهرات تهريج وضوضاء ليس لها أي هدف محدد من جهة، واصوات إعلام كردستاني ووجوه سياسية كردية وأخرى من الذيول المأجورة من قبلها، تظهر باستمرار، وتتظاهر بالمظلومية والدفاع عن "حق" الكرد، وتستمر بالمطالبة بالمزيد والمزيد، لتحافظ على تخدير الضحية وضياع بوصلتها وإصابتها بالدوار، تماما كما تضرب الشاة في المسالخ الغربية، بما يفقدها الوعي لتهدأ عند ذبحها.

أين دور الشيوعيون في هذا كله؟ ولماذا كان لهم أهمية خاصة في هذه الأحداث؟ ولماذا نعتبر دورهم سلبياً في العلاقة العربية الكردية؟

أهمية الشيوعيين تتمثل في أنهم بدرجة أو بأخرى، موضع ثقة الشعب العراقي، كما في الكثير من الشعوب، ومن ناحيتين. الأولى هي الأمانة والثانية هي الثقافة والمعرفة. فأما الأمانة فمتأتية من أن تاريخ ذلك الحزب كان عبارة عن "فلتر" (مصفي) ينقي الحزب بشكل مستمر من كل اللصوص والضعفاء ايضاً. فهذا الحزب لم يكن يوما وفي معظم بقاع الأرض، المكان الذي يتوجه إليه الطامعون، فهو لا يعد أصحابه إلا بالفقر والسجن والعذاب وربما الموت، مقابل راحة الضمير.

وأما الثقافة والمعرفة فتأتي من طبيعة هذا الحزب المعاكسة للتيارات في مختلف البلدان، وحاجة الشخص الذي سينتمي إليه إلى اطلاع كاف ومعرفة تتيح له اتخاذ هذا الموقف المستقل، وربما عوامل أخرى.

ولذلك فأن موقف هذا الحزب من اية قضية، يمثل أهمية أدبية كبيرة لتلك القضية، حتى إن لم يكن للحزب سلطة أو قوة عسكرية، وهنا يكمن دوره الخطير، ليس في إعطائه رأيه فقط، وإنما في تحالفاته، بل وفي صمته أيضاً، لأن الصمت يقول: ليست هناك مشكلة. وعندما تكون هناك جريمة فالصمت يكذب! وقد كذب الحزب الشيوعي طويلاً بصمته عن كردستان وجرائهما وابتزازها وتوسعها، ومازال يكذب! ولأن موقفه مهم وذو دلالة كبيرة كما قلنا، فأن كذبته كبيرة بنفس الحجم.

لقد كان صمت الحزب الشيوعي واستمرار تعاونه وتحالفه مع كردستان تغطية لعلاقة الابتزاز المتنامية بين كردستان والعراق، وساهم بتوفير الجو الآمن لاستمرار هذا الابتزاز وتوسعه. ورغم ان العرب، رغم الإعلام الشديد الانحياز ايضاً قد شعروا بحجم الدمار الذي تسببه كردستان للعراق بتلك العلاقة الشديدة العدوانية، ورغم صرخات التنبيه والاحتجاج والألم، ورغم مآسي التهجير والاحتلال والتعاون مع داعش للحصول على كركوك وأسلحة الجيش وسبي سنجار، فأن الحزب الشيوعي باق على كذبه بإصرار عجيب وكأن ذلك الحزب العريق قد أصيب بعاهة قاتلة، فلم يعد يعرف له وجهاً. فالحزب الحالي في تناقض تام مع ماضيه. وإن كان موقفه هذا صحيحاً فلا بد ان مواقف شهدائه كانت حماقة كبرى لا داع لها! ورغم ذلك فأن الحزب يحتفل بشهدائه ويعتز بهم، وهو ما لا أستطيع ان اسميه إلا النفاق بعينه! فقد كان بإمكان أولئك الشهداء، لو قبلوا ان يتعاملوا بنفس طريقة الحزب الحالية، ان يوفروا حياتهم ودماءهم وتشردهم ودموع امهاتهم وتشرد أولادهم وترمل زوجاتهم!

كيف نفسر ذلك التغير المدمر الذي أصاب هذا الحزب ليقف متفرجاً على هذا الظلم الشديد؟ إنه أمر محير تماماً. فتضحيات هذا الحزب في الماضي من الحجم ما لا نجد له ارتباطا بهذا الترهل والانحلال الحاضر. ولا تساعد التبريرات السخيفة مثل المعوقات التي تقف بوجه عمله حتى على إعطاء تبرير جزئي لهذه المأساة في حياته. فمما لا شك فيه ابداً انه قد واجه صعوبات أكبر بمئات المرات في الماضي. كما ان الفساد السياسي الذي يتحجج به أعضاؤه، يفترض ان يكون في صالحهم. فأعداء الحزب على طول التاريخ لم يكونوا يخشون الحزب إلا حيث يعم الفساد، فيقدم البديل القوي والصريح والأمين الذي تلتف حوله الناس. وبالتالي فأن الظروف العراقية كانت خير ظروف لازدهار هذا الحزب وانتشاره، فما الذي جرى وما هو تفسير هذا التحيز المدمر؟

أحد التفسيرات المنتشرة هو ان الشيوعيين قد تعودوا التعاطف والدفاع عن الشعب الكردي لما لاقى هذا الشعب من أذى على يد حكام العراق السابقين وأن الشيوعيين والكرد قد وقفوا معاً في هذا النضال، وأن هذا التعاطف لا يتغير بسهولة حتى لو تغيرت الظروف.

لكن المراقبة الجيدة تخبرنا أن هذه الحجة ليست صحيحة أيضاً. فمن يدافع الشيوعيون عنه بصمتهم وتحالفاتهم، ليس الشعب الكردي بل حكامه الاقطاعيين المتخمين بالثراء والفساد، والممعنين بالإجرام حتى بحق الحزب الشيوعي نفسه! وقد يقول قائل، أنه ليس من السهل فصل الشعب عن قادته، فحين تدعم الشعب تدعم القادة معه لأنهما يقفان في خندق واحد.

وحتى هذا التحليل يفشل في تفسير الأحداث. ففي مواقف عديدة وقف الشعب الكردي محتجاً على قياداته الدكتاتورية واصطدم معها واتهمها بالفساد والسرقة، ومع ذلك لم يتخل الحزب الشيوعي عن دعمه لهذه القيادات المغرقة في الفساد واللصوصية والقمع، وتخلى بصمته حتى عن الشعب الكردي "المدلل" لديه، مثلما تخلى قبله عن الشعب العربي في العراق!

ماهو تفسير هذه الأعجوبة؟ يبدو اننا لن نجد تفسيراً واحداً لذلك، بل توزع التفسير بين أسباب عديدة، كل منها صغير لا يثير الانتباه، فسقط فيها الشيوعيون دون ان يعوا حجم الهاوية المتكونة من تجميعها مع بعضها البعض. وهذه الأسباب في رأيي كما يلي:

1- اختراق غير معروف العمق لقيادات الحزب، وهذا ليس امراً جديداً، لكن من المؤكد انه قد تطور كثيرا قبيل احتلال العراق وبعده.

2- اعتماد الحزب في رواتب الكثير من قياداته وبعض اعضائه (على بساطتها غالباً) على كردستان. وهذا يسهل التغاضي الواعي وغير الواعي عن جرائمها. فحتى لو كنت شخصاً أمينا، فإني لن اسارع إلى ادانة الجهة التي تساعدني على العيش، بل سأترك الأمر لغيري.

3- اعتماد الحزب في الكثير من ترتيب اموره وإقامة مؤتمراته على كردستان، وربما اعتبارها منفذا احتياطياً، ودعماً بوجه العواصف المحتملة في حالة انفلات السلطة التي يسيطر عليها الإسلاميون الذين لهم معهم تاريخ مرير من الأذى.

4- تقديم كردستان نفسها كمنطقة علمانية آمنة بعيداً عن ضغوط التشدد الديني ودعم منظمات حقوق الإنسان والمرأة واشباهها (رغم ان الجميع يعلم انها جميعا منظمات مشبوهة التمويل والأهداف)

5- التحجج بدعم الشعب الكردي و"القضية الكردية" يسهل اسكات الضمير لأعضاء الحزب الشيوعي على الجرائم التي يتوجب عليهم السكوت عنها، رغم ان التعبيرين قد افرغا من محتواهما تماما.

6- التحالفات التي يتورط فيها الحزب (وهي مثيرة للتساؤل الكبير) والتي يرتبط الأخير منها بكردستان. 

7- الخدر واستسهال الحياة السياسية الاعتيادية. ورغم انها ليست حياة مترفة كمثل حياة الفاسدين من الساسة، لكنها تبقى مختلفة تماما عن حياة المطاردات السابقة والتي لا شك ان أعضاء الحزب يخشون شبح عودتها في حال خروجهم عن الحدود المرسومة لهم.

لكل هذه الأسباب وربما لغيرها ايضاً، فأن دور الحزب الشيوعي في العراق بعد 2003 لم يكن صفراً فقط، بل كان له دور سلبي في العلاقة بين الشعبين، كما أسهم بقدر أو بآخر في دعم كردستان في تنفيذها سياسة إسرائيلية ذات هدف تدميري واضح جدا، أطلقها كالبريث كما شرح في كتابه "نهاية العراق"، والذي يبدو انه اختار عنوانه من أمنيته للبلد، والذي أكد فيه انه أقنع ساسة كردستان ليتبعوا سياسة الابتزاز والبحث عن المصادمات مع بغداد وتحقيق الانتصارات فيها، وهو ما نراه متحققا بنجاح كبير!

لقد كان بإمكان الشيوعيين العراقيين أن يلعبوا أفضل دور في العلاقة بين الشعبين العربي والكردي، باعتبارهم يحظون باحترام وثقة الطرفين، ويستطيعون من خلال النقد الجريء للمخطئ ووضع الحدود العادلة عندما تنشأ الخلافات ان يعيدوا الموازين الى نصابها. لكنهم تخلوا عن ذلك وتركوا الفرصة لإصلاح الخلل تفلت من العراق، بل أن صمتهم الغريب كان ضوءاً اخضر لإقطاعيي كردستان للذهاب أبعد وابعد في استغلال الفرصة التي يحظون بها من خلال الدعم الأمريكي شبه المطلق ايضاً لتحطيم تلك العلاقة وتحويلها إلى عداء وإشكالات لا يعلم إلا الله كيف ستنتهي وتحل، وبأية كلفة ستعدل، إن عدلت يوماً.

لقد كتبت مقالة سابقة بينت فيها كيف ان شيوعيي كل بلد في العالم كانوا ورقة ضغط رابحة حتى إن لم يستلموا السلطة في بلادهم، اما الشيوعيين العراقيين فصاروا بسبب هذا الخلل، وما زالوا، جزءاً من مشكلة العراق، وليس جزءاً من الحل! (1)

نعم "لقد كانوا كالفراشات يحومون حول النار والحرية..." لكن الحياة كانت قاسية وصعبة ليس على الفراشات فقط، بل حتى على “النمور”، التي تغيرت حتى لم يعد يسهل التعرف عليها في “اليوم العاشر”!

والآن، ما العمل؟ لم نعد نطمح إلى أشياء كبيرة، مثل مصارحة الحزب للناس بالخطأ الكبير الذي حدث، لكني اقترح على من يقتنع بأن في هذا المقال شيء من الصحة، ان يبادر، إن كان يستلم راتبا من كردستان، إلى السعي إلى البحث عن عمل ما بعيداً عنها ليتحرر من سلطتها عليه. كذلك اقترح على القيادة إن كانت تشعر بالخلل الذي تحدثنا عنه، ان تبحث عن طريقة تتخلص من اعتمادها على كردستان بأي شيء، والتخلص من الأعضاء المرتبطين بكردستان بشكل لا فكاك منه. إننا نقول هذا مع إحساس كبير باليأس، فالخلل من الوضوح ما يصعب ان نصدق معه ان احداً لا يعرفه او يحس به، لكن العراق محتاج لكل أبنائه، ويبقى عشمه كبير بتصحيح هذا الخلل العظيم أو بعضه.

 

صائب خليل

...........

(1) اشكروا الشيوعيين!

https://www.facebook.com/khalilquotes/posts/1273977552637700

 

في المثقف اليوم