آراء

هل يتحقق التعايش الانساني في العراق؟

لا نريد الغوص في تاريخ العراق وما كان عليه في عصوره الغابرة من حيث حياة الناس وشعوبه والتغييرات التي طرأت في في تركيبته وديموغرافيته وفي مسيرة الناس من حيث التعايش او حدوث التعارض وما تخلل التاريخ من الحروب نتيجة الاختلافات الجذرية في كينونته وتركيبته  وفي ظروف معيشتهم، سواء كان ذلك نتيجة عوامل واسباب داخلية او خارجية دخيلة لا صلة لها بتاريخ العريق الاصيل نظرا لتعرض البلد لهزات بعد احتلالات كثيرة ومختلفة طوال تاريخه .

emad aliتعرض العراق لموجات عنف عديدة وفي مقدمتها دينية بحتة بعد احتلاله ابان مرحلة الفتوحات الاسلامية بالاخص, ونشر الاسلام فيه بحكم القوة المفرطة التي استخدمت، وتعرض لحروب كبيرة غيرت من معالم الحياة العامة فيه حتى بشكل جذري، ومسحت فيه الخصائص والمميزات الحضارية التي اتسم بها، بعد دخول موجات المحتلين ونهبهم لما كان يمتلكه حتى قبل اكتشاف النفط  والثروات الجديدة العهد ايضا، وما امتلكته حضارته الاصيلة من البنى الفوقية والتحتية المتقدمة، مقارنة بما كانت موجودة في المنطقة وفي بقاع العالم ايضا . اننا نعلم بان وسائل العنف كانت في مقدمة ما توجه اليها واقتصر على الاعتماد عليها العقل الانساني في تلك المراحل لعدم الايمان باولولية الحوار والتعاون والتشارك وفرض المصالح الضيقة الافق والافكار التي ارادت ان تثبت نفسها بالقوة، واعتبرت نفسها بديلا اكثر من ان تكون متناسبا او متشاركا او متداخلا ومتفاعلا مع الاخريات التي كانت موجودة اصلا في هذه البقعة من العالم بالذات . ان الدين والمذاهب التي تفرعت منه، اصبحت عامل انشقاق وتفرقة واحتراب بين مكونات الشعوب واثرت في مسار معيشتهم وحتى على جوهر تفكيرهم، وهي ما غطت على ما ورثوه من حضارتهم العريقة بشكل سلبي، بحيث لم نر منهم حتى اليوم من يعترف باصله الحقيقي بعيدا عن ما هو السائد في عقول الناس من انهم يعودون الى الائمة الاسلام مفتخرين بما يدعون وان كانوا من اصول لم يكن الدين والناس في تلك المنطقة التي تغيرت، وانما جاء الدين الاسلامي الذي استفاد من الاديان والفلسفات من قبله واستخدمه في جانبه السلبي فقط وبالاخص ما كانت موجودة في الجزيرة العربية وفي شمالها وجنوبها اصلا وتالتي كانت نابعة من الظروف الخاصة بتلك المنطقة، وكانت صحراء قاحلة خالية من اي ميزة يمكن ان تنبثق فيها اية تجمعات متعاونة مؤدية الى بناء اسس متمدنة، كما يدعي البعض من المتعصبين عكس هذا دون اي سند علمي حقيقي، وانما معتمدين على السياسة وما يفرضه الواقع من كافة جوانبه، وخوفا من النبوذ والانعزالفي هذه المرحلة .

كانت هناك عوامل كثيرة ادت الى الاختلاف والمغايرة بعد سيطرة الدين على كافة مفاصل الحياة، ومنها برزت الخلافات بين المذاهب وبين الدين الواحد وبين الاديان المختلفة ومن ثم بين الدين والعلمانية العفوية التي برزت في بداياتها وصولا الى ولادة ملامح من التعايش الانساني بصفته الخاصة بعد الاحتكاك وما نتج من تراكم الحالة الايجابية من العمل على المصالح المشتركة بين الاقوام والشعوب، وكان العراق بلد الشعوب والمكونات الموزائيكية التي وصل الى ما نحن عليه اليوم وما تثبته حاله الاني من ثبوت ما نتكلم عنه ويثبته واقعه وما نعيش . وبه شهد العراق مراحل مختلفة من النزاعات والاختلافات والخلافات مع مراحل قصيرة معينة من التعايش السلمي المفروض فوقيا، دون اي ولادة طبيعية التي كان بالامكان ان تثبت نفسها وتنمو وتتطور . وعلى الرغم من هذا فانه شهد سلما اهليا في مراحل ما و نتج عنه ابتكارات ونتاجات على ايدي العلماء والنوابغ والفطاحل الفلسفة والعلوم في وقت كان العالم في مرحلة من الظلام، الا اننا يجب ان لا ننسى التاثير السلبي للدين الوافد الذي احرق الاخضر واليابس نتيجة الحروب وفرض الذات بالقوة المفرطة المعتمدة على الغاء الاخر المخالف منذ تاسيسه من الجزيرة العربية الصحراوية القاحلة  .

ان الفكر السائد الذي فرض نفسه بشكل عام ومن دون اية ضجة حوله هو فكر الغاء الافكار والفلسفات والعقائد المتعددة الاخرى التي كانت موجودة، بكافة السبل ومنه بشكل خفي وربما سري تام وبعمل وجهد ربما اكثره دخيل على شعبه، ولم نعد نسمع عن المفاهيم والتعاريف التي كانت موجودة حينئذ، ومنها سائدة في العقول العراقية للنخبة المتنورة القليلة العدد بكفاة فئاتهم . ومن المحزن اننا لم نر اي وارد ايجابي من النواحي العامة لحياة الناس في العراق، وبالاخص من الجانب الفكري الفلسفي، وعلى العكس فان اكثر ما كان موجودا استفاد منه الاخرون في مراحل عديدة من التاريخ العالمي . ويمكننا ان نقول ان مركز الفكر العالمي ابان الحضارات كان في هذه البقعة ان لم يعتبرنا البعض مبالغين، وبالاخص نتلمسه من الشعوب الاصيلة التي ورثت من الافكار والعقائد والفلسفات الاصيلة المولودة على ارض بلاد الرافدين وما يسمى اليوم بالعراق . ومن المؤسف بعد التاثير السلبي الخارجي على الموجودات العراقية الداخلية، فانه انعكف وتقوقع اليوم على ما دخل فقط دون الاتزام بما كان موجودة اصلا، واصبح حتى يعتمد على المولودات الداخلية او المحلية التي رسم المحتلون( اعني بالمحتلين من الجانب الفكري الفلسفي) اطارا ضيقا له ومنعوا عنه التواصل وتطوير ما كان يتسم به من قبل ذاته ومن كافة النواحي وتميز به العراق حقا ونتيقن من هذا من خلال دراسة حضارته العريقة الاولى في العالم .

و نشا من الحالة الجديدة اختلافات وخلافات جراء التصادم وعدم الايمان بالحوار لاجل الوصول الى الحلول، وبه فرغ العراق من العقلانية في التفكير والعمل وفقها، واصبح بؤرة للحروب والتصادمات خلال تاريخ سواء في المراحل الوسطى، اي قبل الحداثة، ومسحت الكثير من الافكار والفلسفات التي كان العراق منبعها من اصلها، او في العصور مابعد الحداثة وهذا ما ادى الى تراجعه يوما بعد اخر كما تخلف  من عصر لاخر .

اما اليوم ونحن نعيش في عصر معقد ومتشابك جدا من حيث ما يحمله الانسان العراقي بكافة تكوناته الموزائيكة الفسيفسائية المتعددة الشكل ومن حيث الجوهر الفكري والفلسفي، فالمعرفة التي يمكن ان يملكها العراقي ويعتز به فقط ولسوء الحظ هو من الناحية الدينية الاكثر سيطرة على عقول الاكثرية، وهذا ما يعتمد على المطلق واليقين في كل جوانبه وليس فيه اي مجال من التعاون والتشارك والتفاعل مع الاخر، نتيجة الاعتماد على المطلق في كل التفكير والتوجهات التي تفرض نفسها على المستند الوحيد وهو  الدين وفي مقدمته الدين الاسلامي بكافة مذاهبه، ولم نجد اي منه يؤكد على انه من الممكن ان يتفاعل مع الاخر وان يتعاونوا او ينسجموا بشكل نسبي في اي وقت، ولم نسمع حتى انينا بهذا اللحن من قبل اي احد من رؤسهم الفكرية والمعتبرين انفسهم بالفلاسفة الاسلاميين، وكل ما يطرحوه هو رفض الاخر ومن ادعى غير ذلك يُتهم بزنديق معارض لجوهر الاسلام فكرا وفلسفة .

اي العراق اليوم شبيه بفترة ومرحلة نشر الاسلام البدائي وما شهده، سواء ابان عصر محمد وبالاخص في المدينة او ما بعده من حروب الردة وما تخللت مراحله المتتالية من الحروب والنفاق والتصارع وما فرضته مصالح معينة بعيدة عن اي فكر او فلسفة انسانية، وسيطرت الاسلام سياسيا وبمسند ومرجع مادي مصلحي على زمام الامور في كافة المراحل مابعد مجيء الاسلام وانتشاره في هذه المنطقة .

اننا نعلم بان اصل الحكم المعتمد على الدين والاسلامي بالاخص، لا يمكن ان يكون بعيدا عن الاسس الراسمالية المستندة على الربح والمصلحة فقط بعيدا عن اي شيء اخر، وبخلاف ما يقوله بعض منهم من انه دين الرحمة والتعايش السلمي، لان التاريخ لا يدلنا الى اية فترة يمكن ان نستدل بها تلك الادعاءات الغريبة حول الاسلام وتاريخه، وكل تلك التي تصدر اليوم من اجل اهداف وشعارات سياسية مصلحية انية باسم الدين والاسلام بالذات .

هذا ما عقّد الواقع وثبت كل مذهب على ارائه ومواقفه فكريا وفلسفيا، وتدخلت المصالح الضيقة في فرضه وانتج الاحتكاكات منه، ولا يمكن ان نجد ارضية ثابتة للتعايش  الانساني الحقيقي بين اي مذهب او فرع منه، لانه ما يدخل في ثنايا الافكار التي تدعيه كل جهة هو ضمان المصلحة الذاتية الضيقة فقط دون العقلانية والانسانية في التفكير والسلوكو ما تنتج عنها التعايش الانساني . والغريب من الامر، ان كل طرف يدعي امتلاكه للحقيقة بشكل مطلق دون ان تكون للنسبية اية اهمية عندهم، وهذا ما يمنع بشكل تام امكانية التواصل والتفاهم والتعامل مع البعض، والتفاعل بشكل ايحابي مطلوب لكل تعايش من اجل ان يكون الامان لينتج حياة سلمية . هذا من الجانب الديني، اما من الجانب العرقي فحدث ولا حرج، ولا يمكن ان يكون اقل تاثيرا وان كان بشكل مختلف في جوهره .

و عليه وان كنا نتكلم بكل صراحة ومستندين بشكل علمي على ماموجود حقا على الارض من البنى الفوقية والتحتية للمكونات العراقية في الوقت الحاضر،لا يمكن ان ندعي هنا بامكان التعايش السلمي وفي العراق اليوم مابعد التعقيدات والتداخلات وما تفرضه السياسة وما تؤمن به المكونات والاحزاب والعقليات الموجودة . فكيف بالتعايش الانساني الاهم الذي لا يمكن ترسيخه الا في واقع علماني انساني متجسد في عقلية وسلوك كل فرد بعيدا عن الالتزامات الثانوية المعرقلة لاي تقارب لهم لضمانهم العيش بشكل انساني، ولايكون اي  اعتبار للدين والمذهب والعرق في ثنايا افكارهم مما  ورد الى العراق من الافكار والوسائل والمؤثرات التي لا تدع حتى ان يفكر الفرد العراقي في اي مكون من شعبه بشكل مستقل وذاتي دون ان يكون لما موجود حوله تاثير مباشر عليه، للاسف .

 

عماد علي

 

في المثقف اليوم