آراء

ما بعد حلب

saleh alrazukبعد رحيل الميليشيات عن مدينة حلب أصبح السؤال ما هو شكل هذه المدينة في الشهور القادمة. وكيف ستكون علاقتها مع الإطار المحيط به؟؟ا.

تقليديا يوجد حول حلب ثلاثة جيوب.

الريف وهو متجانس بمكوناته. ويعتاش على الزراعة والسمسرة والطبقة البيروقراطية الناشئة. هذا إذا وضعت بين قوسين المساحة الصغيرة التي يحتلها الأكراد. وهم تاريخيا يعانون من عزلة ثقافية، وهو ما ينغص عليهم حياتهم الاجتماعية المفتوحة.

فالأخلاق الزراعية وارتفاع نسبة المتعلمين تلغي الحدود التي تفصل بالعادة بين مختلف المكونات. ولكن تبقى مشكلة المطالبة بساعات تدريس بلغتهم الأم. أضف لها إصدار مطبوعات بنفس هذه اللغة أسوة بالأرمن الفارين بغالبيتهم من الأتراك العثمانيين، والذين كونوا غيتو في مناطق تخصهم، ومعروفة بمهاراتها في العمالة الحرفية.

فللأرمن مدارس وكنائس تدعمها الدولة، ولهم صحف ناطقة باللغة الأرمنية، مع دور نشر صغيرة تنشر باللغتين.

في حين لا يستفيد الأكراد من نفس التسهيلات، ويعيشون حياة بوجهين.. منزلية يغلب عليها اللسان الكردي، ورسمية باللسان العربي، ويدخل في هذا المضمار الإنتاج الأدبي أيضا.

ولا شك أن أهم رموز الحداثة المعروفة في حلب هم من الأكراد الذين ينشطون بلغة الضاد. أمثال سليم بركات الشاعر المقيم في باريس، وحامد بدرخان شاعر الطبقة العاملة، والقاص نيروز مالك وغيرهم . لكن من المحظور حتى هذه اللحظة تداول مطبوعات كردية. مع أن كل الأقليات في الحزام الآسيوي خلال العصر الذهبي للدولة السوفييتية كانت مزدوجة بأدواتها اللغوية، وتعتبر حرية الرأي وحرية التعبير من أهم الوسائل التي تخفف من الضغط النفسي ومن التحسس، وما يجري بالعلن يكون إيجابيا أكثر من ما يجري ويتطور في الخفاء. وأعتقد أن هذه الحالة تقدم تفسيرا لمشكلة الإسلاميات التي انفجرت دون سابق إنذار، وتسببت بهذا الانهيار للاقتصاد الوطني وللحالة الاجتماعية.

الجيب الثاني هو مدينة إدلب وريفها

وهي منطقة يغلب عليها نمط الإنتاج الزراعي الصغير. فالتعاونيات غير مرحب بها. والاكتفاء الذاتي من منظور الأسر العريقة أو صغار الملاك يدفع عجلة الإنتاج نحو نمط المانيفاكتورات الحلبية. وهذا هو أول سبب للتوتر. فإقتصاد المزرعة المحدودة بالمساحة يعارض اقتصاد المعامل التي تتخذ من البيوت السكنية مكانا لنشاطها. ولا يمكن أن تقول إنه توجد تبادل في المنافع لأن روح التنافس والاستقلال وهيمنة عقلية البورجوازي الصغير وأسلوبيات المرابعة (استثمار أرض مقابل ربع الريع للمالك) يهدد أي نوع من التعاون.

وقد فشلت برامج التربية والإرشاد الصناعي والزراعي في توجيه نشاط المستثمرين نحو نظام الكولخوزات بسبب عدم الثقة بنمط الإنتاج الاشتراكي. حتى الكيبوتزات تبدو فكرة مرفوضة لأنها تفرض على العوائل والمستثمرين نظاما تعاونيا لا يوجد أي شخص لديه القناعة الكافية به.

ولقد فرضت الحرب تغيرات ديمغرافية على هذه الأخلاق. فالموظف الذي كان يقطن في إدلب اضطر للنزوح إلى حلب بحثا عن لقمة عيشه. طبعا هذا بعد سقوط المدينة بيد الميليشيات الإسلامية، والتي تنظر لكل موظف على أنه عميل أو مخبر، ويستوجب الاستتابة أو الإعدام.

ويكفي أن أشير أن جامعة إدلب أصبحت تحتل عبارة عن غرفة أو غرفتين داخل حرم جامعة حلب، ويتكوم فيها الكادر بطريقة مثيرة للخجل. ولو وضعت في حسابك أن الحمولة البشرية في حرم حلب الجامعي فائضة على إمكانيات مساحة الأرض تستطيع أن تقول إن الزحام في الموظفين والطلبة يقابله تفريغ أكاديمي وفوضى وعدم التزام بشروط الحياة الأكاديمية بسبب التداخل وازدواجية القرارات والمهام. وليس من النادر أن تشاهد أعضاء تدريس مؤهلين بلا عمل مقابل تراكم للمهام في يد متقتاعدين أعمارهم فوق السبعين عاما.

آخر جيب ديموغرافي هو من النازحين الذين لم يحسموا أمرهم ولا زالوا معلقين بين تركيا القريبة من حلب والمناطق الحدودية، وحركتهم تشجع على تهريب السلع الكمالية، ولا سيما غذاء الأطفال وبعض الأطعمة. ولأكون منصفا معظم هذه السلع تنتجها معامل أصلها في المنطقة الصناعية في حلب، وبعد الأزمة تم تفكيكها ونقلها إلى مناطق حرة أو داخل تركيا. وهي تنتج بيد عاملة سورية وبرأس مال سوري لكنها تبيع بالنقود الأجنبية لوسطاء يوزعون في السوق المحلي.

إن دور تركيا اليوم في تحديد مصير حلب يختلف عن دورها في السابق ولا سيما في فترة الانتداب وما سبقها. ولهاتاي دور حيوي في ماضي حلب الحديث. واليوم يوجد في الجميلية شارع هو شارع إسكندرون المعروف بخدماته الفنية والاستهلاكية، وبأبنيته القديمة ذات اللمسة المتوسطية. ومن هنا انطلقت حلقات من النخبة التي قدمت من هاتاي (أنطاكية وما حولها) وفرضت طابعا مستنيرا ونهضويا على أجواء حلب التي تميل للمحافظة. لقد تشكلت في هذا الجو دفعة من رواد الحداثة في سوريا وكل الشرق الأوسط العروبي، ويكفي أن أشير لفايز إسماعيل الذي مارس نشاطه في بغداد وحلب أولا. ثم سليمان العيسى الشاعر المعروف. وبعد ذلك صدقي إسماعيل أول روائي بالمعنى الطبيعي للحداثة الفنية والمبشر بالبنيوية قبل أن تصل إلينا من موطنها في فرنسا.

ناهيك عن أورخان ميسر مؤلف (سريال)، أول مجموعة قصائد نثرية سريالية في شرق المتوسط. وأضيف له وليد إخلاصي الذي جمع في شخصيته كل بوارق الثقافة الهيلينية، باعتبار أنه مولود في إسكندرون وتلقى علومه في الإسكندرية وعمل لفترة قريبة في حلب ورئس فرع اتحاد الكتاب فيها.

لقد اختفت هذه النقاط المضيئة بسبب الحرب، واختنق شارع اسكندرون بصغار الكسبة الهاربين من حلب القديمة،  وسقطت منطقة الجميلية ذات الماضي العريق تحت أقدام الفتنة.

لقد شهدت حلب إعادة توزيع للسكان، وتغيرت خريطتها، وماتت أسطورة حلب القديمة التي تعيش وراء الأسوار وأقواس النصر المحمية بأبواب تعود لفترة حكم الرومان أو المماليك والعثمانيين.

والشريط الصغير المتبقي بيد المسلحين سيرحل أيضا، وستدخل التعهدات لتعيد بناء ما دمره الاشتباك. وهذا يعني بقوة المنطق تبديل وجه حلب وضواحيها. وعلى ما يبدو أن التصورات النهائية لفترة الأزمة أن تكون سوريا شطيرة.

في الشمال الشرقي ستتكفل القوات الأمريكية بكونتونات للأكراد. وستضع تركيا نفسها على أهبة الاستعداد. وستكون الجارة الجديدة لتركيا مصدر ألم وعذاب لأردوغان ونقطة توازن أمريكية جديدة. وربما تتدخل أمريكا لتفرض كامب ديفيد جديدة، إنما هذه المرة بين تركيا وأكراد سوريا ضمن إطار صيغة سوريا الحديثة. ومن المحتمل أن ثمن هذه الاتفاقية هو ضم إدلب لتركيا بشكل من الأشكال. وحاليا الليرة السورية تقريبا غائبة عن الحياة في إدلب.

وفي الجنوب الغربي ستتشكل مخيمات أو مساحات تهيمن عليها الإسلاميات بالاتفاق مع الأردن وأمريكا أيضا. وما بين الهلالين ستكون روسيا وإيران على أهبة الاستعداد لدرء المخاطر عن سوريا.

إنه سيناريو غير مرحب به. فأي تقسيم وتفكيك لا يخدم حالة السلام العالمي في المنطقة. ولكنها مرحلة أقل ما يقال عنها إنها جزء من دراما الحرب الباردة الثانية بين القوى العظمى في العالم.

   

صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم