آراء

عناصر القوة الثلاثة التي أنقذتْ قَطَر من تبعات الحصار

alhusan bshodتتطورُ الأزمة الخليجية بين دولة قَطر من جهة؛ والسعودية والإمارات في الجهة المقابلة نحو انكماش هذه الأخيرة والتسليم بالأمر الواقع؛ إن لم نقل الاستسلام وإعلان الفشل والهزيمة. فبعد تدخلِ دولٍ وازنة (ألمانيا – تركيا – روسيا – الولايات المتحدة الأمريكية) وطلبِ دولٍ أخرى للوساطة، ظهرتْ بوادر فشلِ المخططات التي وُضعتْ مسبقا للإيقاع بدولة قطر وعزلِها سياسيا واقتصاديا وحشرِها في الزاوية لتقليص دورِها الإقليمي المتنامي والفاعل والنشيط؛ تمهيدا لخنقِها وتحجيم دورِها السياسي وتطبيق الوصاية عليها. حلحلةٌ ستكون بطعم الهزيمة للسعودية والإمارات الدولتان اللَّتان هندستا المقاطعة والحصار؛ وأغرتْ دولاً ضعيفة وتابعة للتعاملِ بالمثل ليبدوَ الأمر وكأن العالَم على قَلْبِ رجلٍ واحد ضد قطر. فباستثناء السعودية والإمارات؛ لا تعني الدول الأخرى المقاطِعة لقَطَر كالبحرين والمالديف وجيبوتي وجزر القمر  وموريشيوس والغابون وموريتانيا ويَمَنِ هادي منصور؛ وليبيا حفتر؛ ومصر السيسي شيئا في ميزان الدول، إذ ماذا تستطيعُ دولةٌ كمصر يقوم اقتصادُها على التَّسول أن تفعَلَه لمعاقبة قطر ؟! والشيء نفسُه ينطبق على الدول الأخرى. لقد أحجمتْ قَطَر عن التعقيب على قرارات هذه الدول التابعة بالمقاطعة؛ ولم تُعرهُم أي اهتمامٍ يُذْكَر، وظلتْ التصريحات والبيانات الصادرة من الدوحة موجهةً بشكل خاص ومباشر للسعودية والإمارات وللدول الوازنة، وللتي وقفتْ مع قطر (تركيا – ألمانيا)، في حين أحجمتْ دولٌ أخرى في الخليج عن التماهي مع الموقف السعودي الإماراتي؛ والتزام الحياد بين الخصوم الأشقاء (سلطنة عمان)؛ وطرحتْ أخرى نفسَها كوسيط للحل وليس كشريك في المؤامرة (الكويت).    

هكذا فجأةً وبِجرَّة قلم؛ وجدتْ ألاف العائلات والعمال والسياح والطلبة والمستخدمين والشركات والمستثمرين القطريين في الدول المقاطِعة؛ أنفسَهم في مهب ريحِ القطيعة والحصار والحظر والطرد، وآخرون في قطر؛ استدعتْهُم دولُهُم؛ مُطالبون بِنَفض أيديهم مِن كل شيء يملكونَه ومغادرة البلاد والعودة فورا إلى بلدانِهم؛ دون أي اعتبارٍ لهم ولظروفهم العائلية والأسرية والاقتصادية فيما يُشهب العقاب الجماعيّ، في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، ودون الرجوع لأي مؤسسات أو قوانين في اتخاذ مثل هذه القرارات الصعبة والخطيرة، التي يحتاج تطبيقُها إلى مساطرَ قانونيةٍ وإجرائيةٍ منضبطة؛ معقدة وطويلة، والتي تضمن عدم المساس بِـحُرية وحقوق الأفراد والأُسر في السفر والتنقل وممارسة أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية، ومواصلة حياتهم الخاصة والمهنية بشكل عاد وطبيعي. وعدم إلحاق أي نوع من الضرر بهم؛ سواءً أكانَ ماديا أو معنويا.

لقد كان واضحا منذ اختراق وكالة الأنباء القطرية؛ وإصرارِ قنواتٍ محسوبة على الإمارات والسعودية على بث ومناقشة وتحليل تصريحاتٍ مفبركة منسوبة للأمير دولة قطر، رغم إعلان الجهات الرسمية القطرية عن تعرض الوكالة للاختراق وفبركة التصريحات المنسوبة لأمير البلاد. هذه الحادثة أبانتْ عن شيء ما يُطبخ لقطر في الخفاء. ويتم شحن الأجواء وتعكيرُها تمهيدا لإنفاذه، وقد لعب الإعلام السعودي الإماراتي البحريني والمصري المأجور دورا في تشويه صورة قطر وشيطنتِها والنيل من رموزِها السيادية، وتقديمِها للمشاهد العربي البسيط على أنها الداعم الأول والأوحد لما يُسمى بالإرهاب. لكن قرصنة بريد السفير الإماراتي في الولايات المتحدة الأمريكية، خلط أوراق تلك الجهات وعجّلتْ بالكشف عن المؤامرة، وجعَلَهُم يتصرفون بانفعالية وتسرّع مفضوحيْن، مُراهنين بذلك بكل أوراقِهم  في خانة واحدة؛ هي خانة المقاطعة والحظر الشاملة؛ وعزل دولة قطر سياسيا واقتصاديا وربما عسكريا لو تسنى لهم ذلك بعد إغلاق جميع المنافذ البحرية والبرية والجوية المشتركة، وانتظار استسلام قطر وقبولِها بالوصاية. لكن المقاطعة والحصار لم يكنا بذلك التأثير المنشود؛ ولم يتسببا في خنق قطر لا اقتصاديا ولا سياسيا ولا عزلِها عن العالَم، بل على العكس فسرعان ما فعَّلتْ قطر بدائلَها المتاحة عبر الدول الشقيقة والصديقة، وظلتْ الأمور في البلاد تسير سيرَها الطبيعيّ، ولم يُلاحظ المواطنون القطريون ولا الجاليات الوافدة أو المقيمة في قطر أي تغيرٍ أو اختلال في الخدمات الإدارية والتجارية والمالية في البلاد، وظلّ القطريون يحيَوْنَ حياتَهم الطبيعية كأن شيئا لم يكن.

قوة الاستثمارات القطرية رأسُ الحربة في إفشال الحصار الاقتصادي الظالم

إذا كانت غزة المنكوبة والمحاصرة من الداخل والخارج قد استطاعت الصمود لسنوات عديدة، فحريٌّ بقطر أن تصمد لآلاف السنين، هذه ليست مبالغةً؛ وإنما قراءةٌ موضوعيةٌ مبنيةٌ على المؤشرات الاقتصادية والمالية والديبلوماسية والإعلامية لدولة قطر.

تمتلك قطر علاقات اقتصادية ومالية وديبلوماسية متينة جدا مع دول وزانة عبر العالم، كما لا تتعدى حجم المعاملات الاقتصادية بين قطر ودول الأزمة (الإمارات – السعودية – البحرين) 10% من مجموع المبادلات التجارية، في حين تصل هذه إلى 90% مع دول العالم. وقطر من الدول التي لا تضع بيضها كلَّه في سلة واحدة، فهي لا تعتمد على موارِها الطاقية المهمة وحسب؛ وإنما ينشط اقصادُ قطر في الاستثمار وخاصة الاستثمار الخارجي.  فعلى المستوى الاقتصادي تبلغ ثورة قطر ما يقارب الـ 400 مليار دولار، وهذا الرقم كاف لتحديد الخصوم الحقيقيين لدولة قطر؛ وهما دولتان لا أكثر (السعودية والامارات)؛ أما الدول الأخرى المقاطعة؛ فكلّها دول تابعة لا وزن لها في معامِل الاقتصاد؛ دولٌ فقيرةٌ ومدينة لا تملك شيئا فبالأحرى أن تمنع عن قطر. فقطر أكبر مُنتج للغاز الطبيعي في الشرق الأوسط، وتهديد إمدادات الغاز القطري؛ يعني مباشرةً تهديد عملاق النفط الأمريكي إكسون (Exxon)، فمن يجرؤ على ذلك !!!؟.

لقد تنبهتْ قطر باكرا إلى أهمية استثمار عوائد النفط والغاز الضخمة؛ التي راكمتها خلال سنوات الوفرة؛ وقد ثم ضخ هذه الأموال في قطاعات مختلفة منها العقارات حيث يستحوذ "جهاز قطر للاستثمار" على ألاف الهكتارات من العقارات المبنية عبر العالم، ممثلا في فنادق وأبراج ومكاتب وشركات ومؤسسات كـ هريتدج أويل" البريطانية في لندن و"لايفستايل إنترناشيونال هولدينغز" في هونكونغ و"إل كورتو إنجليس" في إسبانيا، كما اشترت قطر قرية لندن الأولمبية، وغيرِها كثر من المكاتب والشركات والفنادق والمتاجر والبُنى السياحية والرياضية والمالية في فرنسا واليونان والولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية والهند وسنغافورة وإفريقيا ...، كما ينشط "جهاز قطر للاستثمار" في الزراعة التصديرية في عدد من  دول العالم، ويقدر خبراء قيمة أصولِ هذا الصندوق بحوالي 500 مليار دولار.

أما القوة الضاربة للاستثمارات القطرية؛ فتتمثل في قطاع المصارف والأبناك، إذ يَسيرُ "صندوق الثروة السيادية القطري" على نفس خطى "جهاز قطر للاستثمار"،  حيث تملك قطر نسبا متفاوتة من رؤوس أموال كبريات المصارف والأبناك العالمية؛ وتصل إلى 2 تريليون ريال، كما تُعتبر قطر من المساهمين الكبار في برصة لندن وباريس واسطنبول ودول جنوب شرق آسيا. هذا بالإضافة إلى الاستثمارات القطرية الضخمة في قطاع المناجم  وتكرير النفط وشركات السيارات، والنوادي الرياضية العالمية وقطاع الخدمات، كل هذا الاستثمار الضخم والآمن والبعيد عن بؤرة التوتر، يجعل قطر في مأمنٍ تام من أي أزمة اقتصادية أو مالية أو تموينية قد تنتج عن الحصار السعودي والإماراتي.

كما تعتمد قطر على أسطول إعلامي قوي جدا وفاعل، بل لا يجاريه كل إعلام المنطقة العربية مجتمعا، ممثلا في شبكة الجزيرة إضافة إلى أسطول من الصحف الإلكترونية ذات الصيت الذائع، فرغم تجييش كلٍّ من الإمارات والسعودية ومصر لآلتهم الإعلامية لتشويه صورة قطر، فإن تعاطف وتأييد الشارع العربي لقطر حكومة وشعبا يزداد يوما بعد آخر، بل إن الشارع العرب اليوم، وبفضل شبكة الجزيرة والمنابر الإعلامية القطرية الأخرى؛ وقنوات أوربية ناطقة بالعربية بات أكثر من أي وقت مضى يعرف الحقيقة؛ وتتكشف له خيوط المؤامرة بشكل جليّ وواضح يوما بعد آخر.

أما في الجانب الديبلوماسي؛ فإن قطر دولةٌ ذات ديبلوماسية نشطة وعلاقات وطيدة مع عدد كبير من دول العالم، وتتمتع قطر بعلاقات ممتازة مع دولٍ كبرى وقوية كتركيا وباكستان وألمانيا وبريطانيا واليابان والصين وبريطانيا، كما تجمعُ قطر مع بعض هذه الدول اتفاقيات تعاون عسكري (تركيا)، يجعل قطر في مأمنٍ من أي هجوم عسكري محتمل من الجارة السعودية.  

دولة قطر أكثر دول مجلس التعاون الخليجي انضباطا ومرونة ومثالية في العلاقات السياسية والديبلوماسية إقليميا ودوليا.

لا تخلو محنة قطر العابرة مِن مِنحٍ كثيرة وجمة أبرزها؛ إعادة بناء وتأهيل سياسة قطر الاقتصادية، والاستفادة من الدرس وتحضير البدائل المناسبة لمثل هذه الأزمات في المستقبل، وعدم الاطمئنان إلى الجيران وسحب سكين الاقتصاد من أيديهم، والبحث عن ملاذات استثمارية بعيدة؛ مضمونة وآمنة.

لماذا تعاقَب قطر؟

تعاقب قطر من طرف جيرانِها الخصوم لأسباب كثيرة أبرزها؛ الزعامة  وتغريدُها خارج سرب ما يسمى بدول الاعتدال، واستقلال قطر بقرارِها السياسي والسيادي، وعدم تماهي سياستها الخارجية مع التنميط والتدجين السعودي الإماراتي للعلاقات الخارجية. إذ نمى الدور القطري خلال العقود الأخيرة، وأصبحت قطر دولة وازنة وفاعلة على المستوى العربي والإقليمي، وقد استطاعت قطر حلحلة كثير من الملفات العربية العالقة، كما تعتبر الداعم والمساند العربي الوحيد للفلسطينيين وللقضية الفلسطينية، بعد أن نفض العرب أديهم منها وتفرّغوا لضرب الربيع العربي وإسقاط ديمقراطياته الناشئة.

تُعاقب قطر كذلك عن إيوائها للمعارضين السياسيين للأنظمة الشمولية في الخليج. ودعمِها للربيع العربي وللديمقراطية الناشئة في البلدان العربية، وبرزت ملامح هذا العداء بشكل أكبر بعد خروج مصر من دائرة التأثير بعد الانقلاب العسكري، وانحصار دور السعودية في الملفات العربية، وتورّطها في اليمن الذي يَستنزفُها يوما بعد آخر.

أما العامل الأبرز لنقمة السعودية والإمارات على قطر؛ فهو انفتاح قطر على القوى الحزبية الفاعلة والتيارات الإسلامية في الوطن العربي وفتح قنوات التواصل معهم، بالإضافة إلى الإشعاع والصيت العالمي الكبير والفاعل الذي تتميز به الدوحة كقبلة سياسية وديبلوماسية وثقافية وعلمية ورياضية في الشرق الأوسط على حساب الرياض ودبي وأبوظبي، أما الخلاف العميق بين قطر والإمارات على وجه التحديد فيتمثل في قناة الجزيرة، هذه القناة التي صارت تؤرق الأنظمة الشمولية في الوطن العربي وتقضّ مضجعهم بفضحها للمؤامرات ونقلها للحقيقة التي ظلت لعقود مغيبة ومحرَّمة على المشاهد العربي، ولعل التعاطف الكبير الذي حصدتْه قطر خاصة من شعوب الدول التي حاصرتْ وقاطعة قطر، خير مثال على هذا التأثير الجارف للقناة. لقد أضحتْ الجزيرة  أشهرَ مِن نار على عَلَم. ولعل اسم قطر اقترن أساسا بهذه القناة، حتى بات يعرفُها الصغير والكبير، الأمي والمثقف القاصي والداني.

يمكن تلخيص هذه الحملة المسعورة على دولة قطر في جملة واحدة هي؛ سلبُ قطر قَرارَها الوطني؛ وإجبارُها على التخلي عن سيادتها؛ وتطبيق الوصاية عليها وإعادتُها إلى بيت الطاعة السعودية.

ستربح قطر الرهان في نهاية المطاف لا محالة؛ إذا هي لم تستجب للاستفزازات السعودية الإماراتية، وركزتْ على تباحث الأزمة مع حلفائِها الموثوقين والأقوياء خاصة تركيا وألمانيا، ومد جسور المصالحة؛ والمحافظة على كل أوراقِها السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والمالية والإعلامية، وأن تتجنب المبادرة والاندفاع. فالوقت ليس في صالح الطرف الآخر؛ وكلما طالت الأزمة إلا وضاقت السلسلة حول عنق السعودية والإمارات. ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهلِه.

 

الحسين بشــوظ – كاتب من المغرب

 

 

في المثقف اليوم