آراء

ترامب والقدس والنصر العراقي

ali almirhigيبدو لي أن توقيت توقيع ترامب على قرار كان مُهملا في أدراج الرئاسات الأمريكية السابقة ولم يكن قراراً غير مدروس، وإن بدى لنا ترامب بهيئته التي تشي بروعنة مُفرطة بأنه غبي أو مُتغابي، ولكن توقيته مع نهاية الإرهاب في العراق وقُرب إنتهاء داعش في سوريا ومقتل علي عبدالله صالح وهيمنة الحوثيين على اليمن وفشل التحالف المُسمى عربي فيها، وإن كانت السعودية هي اللاعب الوحيد والفاشل به، كما كانت أمريكا هي اللاعب الوحيد والمُنتصر في التحالف الدولي.

وبين هزيمة المملكة العربية السعودية ونصر الولايات المتحدة الأمريكية جدل لا ينتهي، فأمريكا تُرمم بعض مكامن الخلل في السياسة السعودية، كما تُرمم السعودية بعض مكامن العوز الأمريكي لرأس المال السعودي، وهي سياسة قديمة وتحالف تاريخي بين أمريكا والسعودية، دليله الأوضح نُصرتها لها في القضاء على صدام حينما إحتل الكويت وهدد السعودية، وهناك إشارات على تعاضد السياسة السعودية مع السياسة الأمريكية في الموقف من فلسطين وإعتراف السعودية المضمر وفي أحيان أخرى البائن بحق إسرائيل في الوجود كدولة منذ أيام عبدالعزيز آل سعود. والمشكل ليس هذا، ولكن المشكل الحقيقي هو في جدية السعودية في الخفاء والعلن في مواجهة إيران لأنها تُهدد الأمن الوطني السعودي، بل والأمن القومي العربي، والشيعة هم أداة إيران في تهديد الأمن، فكان هناك دعم واضح سياسي وإعلامي ومالي لإرهابي القاعدة ومن ثم لإرهابيي داعش لمُحاربة "المد الشيعي" في العراق أولاً ومحاولة إسقاط العملية السياسية برمتها، فكان التفجيرات في الأسواق والأماكن العامة وقتل أصحاب المهن والكفاءات سلاح تلك الجماعات الموجه لزعهزعة الأمن في العراق ومحاولة تقسيمه وتقزيمه والقضاء على تاريخه وحضارته التي تجعل الأعراب يشعرون دوماً أن حضارة العراق ومدنيته تُرجعهم دوماً لعقدة الشعور بالنقص أمام العراق بتاريخه منذ سومر وبابل وآشور وبغداد العباسيين، ومدارس الفكر في بغداد والبصرة والكوفة ونينوى الحضارة.

لم تكتمل صورة القضاء على حضارة بغداد ولن تكتمل إلَا بالقضاء على كل حضارة "الهلال الخصيب" الذي تشكل الحضارة السورية والشامية عموماً وإمتداد الهلال الحضاري المُتمدن، فكان ما كان مما نحن نعرفه، في محاولة "الأعراب" بقيادة السعودية القضاء على كل عمران ومدنية في بلاد الشام التي كونوها بكدهم وبوعيهم وبصناعتهم لا ببراميل نفط تُستخرج من أرضهم، ليجني ريعها الغرب "الأنكلوسكسوني الأندرشافتي الروبسن كروزوي الشايلوكي" ـ بتعبير مدني صالح ـ  قلائداً من الذهب والماس والياقوت لمن تحالف مع الصهاينة.

تكتمل سلسلة التخريب والخراب في بلاد الشام بجعل لبنان فصائل سياسية متناحرة بعد أن كانت فصائل عسكرية متقاتلة، فلم تكن نهاية الحرب الأهلية في إتفاق الطائف إلا برميل بارود وضعته أسسه السعودية ولعبت الدول الإقليمية على توزيع "كيكة" لبنان طائفياً، لا نعرف متى ينفجر البرميل فتحترق "الكيكة"، فيكون الخاسر الأكبر هو شعب لبنان.

ويبدو الصراع هو بين "البداوة" و "الحضارة"، فاليمن كان يُسمى "اليمن السعيد" بسبب أجوائها أو بسبب تراثها بوصفها الأصل لقبائل العرب أو ما سُميت بـ "العرب العاربة"، أو كما يُقال أنها سُميت باليمن السعيد لأن الإسكندر المقدوني عجز عن دخولها، وكان الرومان يسمونها "العربية السعيدة"، وكانت عدن هي من أوصاف الجنة، لأنها أرض فيه الخضرة وتبعث على البهجة والراحة، وفي القرآن جاء قوله تعالى "جنات عدن يدخلونها" (الرعد/23)  "أولئك لهم جنات عدن" (الكهف/ 31) وآيات كثيرة في سور القرآن الكريم. وما يهمنا هو أن صراع "الأعراب" مع اليمنيين، هو صراع حضاري بين البداوة والحضارة، وعلى الرغم مما نُشاهده من مظاهر تخلف في اليمن، إلَا أن الصراع اليوم لم يكن بين السعودية "الأعراب" و "اليمن" ببعدها الحضاري، لأن اليمن لا تستطيع أن تُجاري السعودية لا في التقدم العمراني ولا في بناء علاقات دولية تُسعفها في الدفاع عن حقها في تبني الرؤية السياسية التي تُريد، ولكن الصراع هو بين إيران والسعودية، واليمن الغير سعيد اليوم هو الضحية، لماذا هو ضحية؟ هو ضحية لا لأنه نافس السعودية اقتصادياً ولا سياسياً، ولكنه ضحية لأن بعض من أبنائه أظهروا تعاطفاً مع إيران "الشيعية" (!!)، ولا أروم هنا ولا أرغب ولن أتبنى الدفاع عن "الحوثيين" الذين تعاطفوا مع إيران وتعاطفت إيران معهم، ولأن هذا أمر داخلي يمني، وأعتقد أن بمقدور السعودية الدخول كطرف حل لا كطرف في الصراع، ففي السعودية "شيعة" وإظهار الكره الواضح للتشيع ومن ناصره، لا بُد وأن يُربك يوماً الداخل السعودي، ولكن حقد المؤسسة الدينية الوهابية أبى ذلك، فحفز حُكام المملكة على الدخول في الحرب، ولكن مؤشرات هذه الحرب الخسارة، فبع مرور أكثر من عامين إلَا أن السعوديين ومن حالفهم لم يُحققوا سوى الخيبة  التي لا شبيه لها سوى خيبة المشركين في حربهم مع المسلمين ببدر، فقد كان أبو سفيان يرى أن حربه مع أتباع محمد ببدر لا تعدو أن تكون نُزهة، فهُزم وجيشه أشر هزيمة، وكما يبدو لكل عاقل أن السعودية بحربها غير العادلة مع اليمنيين، حتت ولو إفترضنا جدلا أنها ستنتصر يوماً ما، إلَا أنها حرب خاسرة، لأنها صرفت ملايين الدولارات ولربما مليارات الدولارت إلى يومنا هذا ولم تُحقق شيئاً له قيمة على الأرض، فهل هناك هزيمة أكبر أمر من هكذا هزيمة؟ دولة مثل السعودية بإسناد دولي لا تستطيع هزم جماعات مُسلحة، هي تُسمها "ميليشيا"، هي إذن ليست هزيمة للسعودية فقط، إنما هي هزيمة لتحالف عربي أمام "مليشيا مُسلحة" أيضاً كما تدعي هي وحُلفؤها أو "الأخوة الأعداء"، ومثالها "قطر وعلاقتها مع السعودية" أو "الكويت وعلاقتها مع السعودية وموقفها البين بين" وتبنيها لسياسة الحياد ومحاولة حل مشكل الخلاف اليمني اليمني بالطرق الدبلوماسية، وإلى يومنا هذا والسعودية لا يبدوا أن لديها ورقة ررابحة في صراعها مع اليمنيين أو مع الحوثيين حتى.

وكانت لها محاولة في العراق قبل اليمن وقد فشلت، محاولة أرادوا تطبيقها هم وحلفاؤهم من الأمريكان في العراق لتفتيت العراق وتقسيمه، ومنذ عام 2003 وصولاً لعام 2006 بعد تفجير مرقدي الإمامين العسكريين والعراق يقف على شفى حُفرة بين وقوع حرب أهلية حقيقي وبين محولة وأدها، ولأن للعراق حضارته، ولحكمة المؤسسة الدينية في النجف ووقوفها ضد الحرب الطائفية بصريح القول بأن"السنة هم أنفُسنا" ولتوافر العزيمة في الشعب العراقي ولوجود التداخل المذهبي في العشيرة الواحدة في العراق، وبسبب دعوى المرجعية في النجف للجهاد الكفائي، فكان لها أثرها في القضاء على الفتنة الطائفية، وإن كان في الحشد الشعبي الذي تشكل بسسب دعوى المرجعية كثير من الولاء المذهب الجعفري، إلَا أن هذا لم يمنعهم من السعي لتحرير مناطق سنية، وإسنادهم للقوات المُسلحة في تحرير الأرض العراقية ذات الأغلبية السنية وإرجاعها لأهلها وإرجاع أهلها لها سالمين غانمين بعد أن هُجروا ونزحوا بسبب خاع بعض السذج منهم أن ما بدأبه داعش كان ثورة، ولكنهم وعوا وإستيقضوا فكانوا شركاء حقيقيين في التحرير بتأسيسهم للحشد العشائري، فحققنا النصر بتكاتف كل العراقيين ومن جميع الأطياف بما فيهم الكورد الذين شاركوا بحرس الإقليم "البيشمركة" الذين كان لهم دور مهم في تحرير كثير من الأراضي التي سُميت بـ "المتنازع عليها" ومن دون الخوض في أن يكون لقيادة الإقليم في وجود داعش أو تسهيل دخولها، إلَا أننا لانُننكر دور البيشمركة وتضحياتهم في التحرير.

ولا داعي للخوض فيما جرى في تونس وليبيا ومصر، وما سُميَ بـ "الربيع العربي"، فتبين أنه "خراب عربي" لا تصلح تسميته حتى بالخريف العربي، فكانت قطر بمساعدة السعودية، هما الداعمان الرئيسيان لمشروع الخراب العربي، ولم تكن المشكلة في إسقاط الأنظمة، فهي أنظمة إستبدادية مُتهالكة، وستسقط حتماً أيام المظاهرات أو بعد حين، ولكن المشكل الحقيقي كان في اللعب على عواطف الجماهير وخداعها في أنها في إسقاطها لهذه الأنظمة التوتاليتارية "الشمولية" الفردية "العسكرتارية" ستنهض من جديد وستستعيد إنسانيتها المفقودة، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل، إنما كان البديل الذي إختارته السعودية وقطر هو القاعدة و رديفتها "داعش" وحركات الأسلمة السلفية والجهادية والتكفيرية، ولسذاجة عند كثير من دُعاة الحرية وحتى دُعاة الإسلام السياسي ممن يرومون الإصلاح خُدعوا أو تغافلوا عما تورطوا فيه، ولكنهم صبروا لعلهم يحصلون على موطأ قدم في حكم البلاد والعباد، ولكنهم خسروا أنفسهم، لأن البديل كان "دعاة التكفير"، فأيقنوا أنهم أضاعوا البلاد وخدعوا العباد.

ولنعد للعراق وليوم النصر الذي أعدنا فيه الهيبة لعراق الحضارة وللإنسان العراقي الذي تغلب على كل قوى التطرف، ولكن في إعلان النصر غصة، وغصتنا في إعلان ترامب وتوقيعه على أن تكون القدس عاصمة إسرائيل، وقراره في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهذا التصرف ليس بغريب على السياسة الأمريكية في دعمها لإسرائيل ولا بجديد، لا سيما مع أرعن ومخبول أهوج مثل ترامب لا خبرة له بالسياسة، ولكنه يخبرنا نحن العرب والمسلمين بأننا لا سياسة لنا سوى الشجب والإستنكار والرفض، وهذا ما أخبره به بالتأكيد مستشاروه، وعلى الرغم من أن في إعلانه موافقته لإسرائيل في أن تكون القدس عاصمة لها إستهانة في العرب والمُسلمين، إلَا أنني أرغب وأطلب من العراقيين سُنة وشيعة التأني في التعامل مع هذا القرار لأنه يخص الفلسطينين (فتح وحماس وجماعات الجهاد) قبل العرب أولا، ويخص السلفيين من الوهابيين والتكفيريين ثانياً، وبعد أن يُعلن هؤلاء موقفهم الجلي والواضح في إعلان الجهاد من عدمه، فاليكن موقفنا نحن العراقيين في إسناد القضية الفلسطينية من دون إنفعال مفرط لربما لا يبتغيه حتى الفلسطينيين أنفسهم، فلا ينبغي لنا أن نكون ملكيين أكثر من الملك، فلن يرضى عنا الملكيون ولا الملك برفض الملكيين لنا سيُظهر حاجتنا لنا، "فإن جنحوا للسلم فإجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم" (الأنفال/ 61)، وهذه الآية جاءت في خوف الرسول من غدر بني قُريظة من اليهود ومن يُساعدهم. وفي أية أخرى م ن أي الذكر الحكيم تقول:"فلا تهنوا وتدعوا للسلم" (التوبة/35)، ويظهر من أي الذكر الحكيم أن التعامل مع المناهضين يكون حسب تحولات مسارات الضعف والقوة، فإن كانت القوة بيد المسلمن فلا تهاون مع المُناهضين، ولا صُلح حتى تُطعن الخيل بالقنا، وإن إعترت قوى المسلمين الضعف، فنجنح للصُلح.

المهم أننا نلحظ دُعاة "التكفير والهجرة" الذين لا سلاح لهم سوى العُنف ووصفه بأنه جهاد ضد الجاهلين، ولا جهاد أوضح وأجلى من جهاد الصهاينة، فلنرى فتوايهم الجهادية في مقاومة الصهاينة، لنسير على طريقهم في الجهاد إن كانوا صادقين إن يرغبوا لهم ببقايا ثقة ومصداقية بأقوالهم  في قلوب المؤمنين. ولذلك أتمنى من جماعات ما يُسمون بـ "الممانعة" أن يصبروا في مواجهتهم للصهاينة حتى يُفتي فقهاء السلفية بالجهاد، ليكونوا هم السباقين ولو لمرة واحدة في المواجهة مع المحتلين "الصهاينة"، ولنكن نحن من يسير يوماً بفتواهم في مواجهة الإحتلال، ولنجعل من الفلسطينيين الثائرين ضد المُحتل الإسرائيلي "الغاشم" قادة لنا، نسير بهدي مقاومتهم وبهدي تخطيطهم لتحرير أرضهم التي نبغي تحريرها والتضحية بدمائنا على أن يكونوا هم في خط الصد والمواجهة، فالقدس عروس عروبتنا، أفما آن لكل زُناة التاريخ من العروبيين أن يستفيقوا، وأن يتخلصوا من خطاباتهم الجوفاء، وإستنكارهم وشجبهم، ليكونوا رجال مواجهة وتحد ورجال أفعال لا أقوال(!!)، ولم يكن ترامب الأهوج قد وجد في إفراط السعودية له في الترحيب السعودية و "إنبطاحها" له وتخاذلها، لما تجرأ على إتخاذ مثل هكذا خطوة مُهينة للعرب والمُسلمين.

أخيراً يبدو لي أن في قرار ترامب هذا تشتيت للمنظومة الأمنية العراقية وتوجيه لجهد الحشد للخارج وإشغاله في هموم تقتضيها طبيعة تشكله، وأعتقد أن في توجهه وأشغاله في قضية القدس على الرغم من أهميتها الكُبرى، إلَا أنها تحمل في طياتها سعي أمريكي لتشتيت وحدة الحشد وإيعاده عن الساحة العراقية وإشغاله في قضية شائكة لتوريطه أولاً وإخراجه من المعادلة السياسية العراقية ثانياً، وأنا لست من امهمومين بخروجه من العملية السياسية أو تأثيره فيه بقد ما أنا مشغول بضرورة وجوده كمنظومة أمنية يخشاها الإرهابيون، وسيكزن في إنشغاله بقضايا خارج وطنية خسارة لقضية وطن ولتضحيات شهداء آثراوا الحفاظ على وحدة الوطن ف مقابل التضحية بالنفس.

 

 د. علي المرهج - استاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم