آراء

شخصية القائد في المجتمعات العربية..العراق نموذجا

mahdi alsafi2يقال ان انتصار الجيوش والجماعات المسلحة في الحروب والمعارك تحسب لقادتها، وعليهم كذلك تحمل تبعات ومسؤولية واسباب الهزيمة الانكسار.

 كانت المجتمعات القبلية او البدوية في شبه الجزيرة العربية (واي مجتمع قبلي قروي) تعتمد اعتمادا كليا قبل وبعد الاسلام في غزواتها وصراعتها المحدودة على رجالهم الاقوياء،

ولهذه القيادة صفات عربية عدة منها مايتعلق بالنسب، واخرى تتعلق بأخلاقه البدوية، وحكمته، ودهاءه وقوته نسبة لاقرانه، وقد حفظ الشعر العربي العديد من الالقاب والصفات القيادية لشجعان العرب....

الموروث والتاريخ (ونحن امة غارقة وذائبة في التراث والتاريخ) يعيد صياغة تلك الصور المحفورة في الوجدان الاجتماعي العربي (تراث القائد او البطل الشجاع)، الذي لايهتم كثيرا لمستوى ذكاءه وكفاءته، بقدر الاهتمام بشكله او مظهره الخارجي، وبنيته الجسمانية وطوله (يطلق عليه شعبيا رجل هيبة او بالمصري مالي اهدومه او بالشامي الفتوة الابظاي او العقيد الخ.)، وكذلك طريقة كلامه وقوة نظراته الثاقبة، وحدة العنف وقساوة القلب التي يتمتع بها ويحتاجها لاقناع الشارع بأنه القائد الشجاع الوحيد في البلاد (جمال عبد الناصر-صدام-حافظ الاسد-القذافي-الخ.)،

الا ان تأثير شخصية الرئيس السابق صدام عبرت المحيط العربي، ووصلت تقريبا حدود آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية واوربا الشرقية، فقد تصورهؤلاء جميعا بسذاجة ان هذا الرجل الدموي قادر ان يصمد بوجه الامريكان ويتحداهم، بل وقد ينتصر عليهم،

كانت شخصية هذا الرجل تجمع ثلاث صفات او بيئات، الريف والمدينة والبيئة العشوائية (التي تنشأ بينهما)، وهي المثلث الاخطر في ولادة البيئات المريضة في المجتمعات الفوضوية،

والملاحظ في عراق مابعد ٢٠٠٣، غياب ثقافة او بيئة المدينة، وبقاء البيئة الريفية، وكذلك العشوائية هي الطاغية والحاضرة بقوة داخل المحافظات والمدن العريقة (والتي نطلق عليها تسمية المدن الريفية اوالبدوية)،

ولهذا كان هذا الارعن المتهور يتلاعب بالألفاظ وطرق الخطاب والعبارات الموجهة لكافة طبقات المجتمع (تارة يتكلم بطريقة ريفية بدوية، واخرى بلسان المفكر وقائد ضرورة قومي عربي، واحيانا ينزل الى مستوى ثقافة الشارع في كلامه السيء)،

هذه الحالة ليست محصورة بثقافة المجتمع العراقي فقط، وانما العربي ايضا،

ثقافة القوة والتسلط وفرض الشخصية الغليظة بين المحيط القبلي او حتى السياسي او الاجتماعي، من هنا كانت الاحزاب العربية (القومية) الحديثة تبحث دائما عن تلك الصفات القيادية (القبلية او التراثية) لدفعها للمناصب والمسؤوليات التنظيمية السياسية العليا، مما جعلها الاقرب من بقية الاحزاب والحركات لاستلام السلطة بعد رحيل الاستعمار او برعايته،

عدا الحركات الاسلامية (السنية او الشيعية) وكذلك قسم من الاحزاب اليسارية (صديقة الفقراء والطبقات العاملة المحاربة للطبقات الاقطاعية والارستقراطية والرأسمالية)، فهي لاتعتمد تلك الاطر الضرورية لاختيار القائد السياسي المؤثر (صاحب الكاريزما القيادية العربية المطلوبة)،

لان الادبيات الاسلامية (وحتى اليسارية) تعتمد على عدة مسلمات تراثية دينية او ثقافية، منها واهمها التدين الظاهري المصاحب للشخصية المصطنعة او الطبيعية المتواضعة المهزوزة المنهزمة والمنكسرة امام ثوابت العقاىد الدينية (امام الاله الذي يتصورونه وفقا لرؤيتهم الدينية) والمسلمين (او بقية الاخوة في الحزب او الحركة كما يدعون طبعا، مع ان المذهب الشيعي يؤمن بشخصية القائد الثوري لرجل الدين تيمنا واعتمادا على التراث الشيعي الثوري المستند الى تراث وتاريخ الصراعات الاسلامية في حروب الامام علي، وثورة الامام الحسين في كربلاء ع، وبقية ثورات العلويين والشيعة لكنها ليست قيادة حكم انما ثورة كما قلنا)،

ومن هنا نجد عندهم انتشار ظاهرة التنافس والصراع في اختيار واتباع القيادة والمرجعيات المشتركة والمتداخلة واحيانا بالمتعارضة، وهناك ايضا كثرة المشاكل والتعقيدات والازمات في اختيار القائد (الذي يمكن ان يقنع الشارع بقوة شخصيته)،

فذهب بعضهم لسد هذه الثغرة بجعلها شورى او قيادة فوق قيادة (قائد سياسي رسمي، وقائد اعلى كمرشد او مرجع او قيادة مجلس الشورى، كما في نموذج ايران والاخوان في مصر، وبقية الدول الاسلامية، وكذلك الحركات الاسلامية في العراق، حيث كان العديد من قيادات الحركة الاسلامية تعول كثيرا على شخصية رئيس الوزراء السابق المالكي في الاستمرار بالحكم لولا دخول داعش وسقوط الموصل ووقوع مجزرة سبايكر في تكريت، وتهديد امن العاصمة بغداد الخ.)،

بينما قدمت اغلبها قادة يطلق عليهم شعبيا في الشارع مصطلح"الاخبن"، وشخصيا سمعت الكثير من السياسيين الاسلاميين الشيعة يقولون لو ان صدام كان عادلا مع الشيعة بنسبة خمسين بالمائة، وترك الحوزات ومراجع الدين والشعائر الحسينية لما خرجنا لمعارضته،

ذلك راجع لقناعتهم بصعوبة ايجاد شخصية البديل القوية لادارة الحكم، والقادرة ايضا على ايقاف تهديد دول الجوار لوحدة العراق وامنه (ولهذا اعادوا العديد من البعثيين للوظائف، وتم تخصيص رواتب تقاعدية لبقايا اجهزة صدام المنحلة، وسمحوا لعدد منهم بالمشاركة في العملية السياسية بحجة ان ايديهم لم تتلطخ بدماء العراقيين، بينما تركوا اغلب المعارضة السابقة دون حقوق من اجل السيطر على دفة الحكم)،

 بتلك الادبيات السياسية الاسلامية البدائية واجهوا صعوب ادارة الحكم بعد الاطاحة بالنظام الدكتاتوري الدموي البائد٢٠٠٣، حتى صار بعضهم رأسماليا وديمقراطيا وليبراليا

 (بالمعنى الامبريالي للمصطلح) اكثر حتى من العلمانيين والملحدين، من اجل التشبث والبقاء في الحكم فترة اطول، ومع ان الشعب العراقي والمرجعيات الدينية دفعت بأتجاه تقوية البناء السياسي الديمقراطية الحديث في البلاد، الا ان الوضع لازال بائسا متراجعا، تسيطر عليه حيتان الفساد والتدخلات والاملاءات الخارجية، لاتقدم في اي من المجالات، وتراجع شعبي كبير في مجال تأييد العملية السياسية، مع تصاعد وتيرة العزوف عن التفاعل مع الانتخابات القادمة، فملفات الخدمات، والتعليم، والصحة، ومفردات البطاقة التموينية، وغلاء المعيشة والفقر، والبطالة، والفساد وتعثر برامج اعادة الاعمار لازالت عالقة دون حل،

اضافة الى زيادة نسبة الامية، والتسرب من المدارس للاطفال والمراهقين، وانتشار ظاهرة المخدرات، وتصاعد نسبة العنف والجريمة والاغتيال، فضلا عن ملاحظة صعود ثقافة البعث البائد في دوائر الدولة، وارتفاع اصواتهم واندماجهم بالاحزاب والحركات السياسية القديمة والجديدة المهيمنة على مجمل العملية السياسية، واتضاح اساليبهم الرخيصة في ملاحقة الموظفين الشرفاء وابعادهم قدر الامكان عن مواقع المسؤولية، وتحالفهم مع الشركات والمقاولين والمسؤولين الفاسدين، لبناء قوة سياسية وادارية ومالية فعالة في المؤسسات الحكومية العامة وكذلك في مجالات القطاع الخاص،

كل هذه الازمات والاخفاقات تجعل من مهمة اعادة وفرض هيبة الدولة وشخصية قياداتها السياسية داخل دوائر ومؤسسات الدولة واجهزتها الحكومية، وكذلك في الشارع بالشاقة، بل والمستحيلة،

فالفساد مدعوم سياسيا وقبليا وعشائريا، وان دور السلطة القضائية في السيطرة على الاوضاع العامة في البلاد، ومراقبة السلطات الدستورية الاخرى ضعيف جدا، وشبه مشلول نسبيا ( يمكن ان يتعرض اي قاض الى التهديد بالاغتيال، ويمكن التنفيذ بسهولة جدا) ...

الامر هنا ليس من باب الترويج لاشاعة ثقافة اختيار القائد الرمز، ذو الشخصية القوية، انما نحن نؤكد على ان ثقافة المجتمعات العربية لازالت تفضل هذه الصفات القيادية االموروثة على حساب الخبرة والذكاء والكفاءة (كما ذكرنا سابقا، وهي صفات قيادة الدولة البدائية مع ان بعض الشعوب المحسوبة على المدنية الحضارية الالكترونية الحديثة كالشعب الامريكي والروسي والصيني والتركي وغيرهم، بات مؤيدا لفكرة القائد الشجاع او قائد المعركة المستبد الاوحد)،

البعض يقول انها دورة الحياة، اذ تعيد البشرية الى مسألة وطبيعة تدوير التاريخ والموروثات كل عدة عقود (كل ثلاثة او اربعة عقود او اكثر قليلا)، على كل حال، هذه الحالة هي المعيار الذي تعتمد عليه المجتمعات العربية في التأييد او الخضوع او احترام الدولة وقياداتها،

وليس عبر تسخير مئات الفقراء لحماية الشخصيات الضعيفة من اجل اعطاءها قوة مكتسبة ظاهرة في الشارع، بحيث يسمح لهم بالتجاوز على الاخرين بغية اضافة هيبة مزيفة للقائد الصغير....

الاحزاب الاسلامية في العراق بعد ٢٠٠٣تركت ثوابتها وثقافتها وحتى بمايسمى ايديولوجياتها وادبياتها الحزبية، واتجهت الى صناعة قوة الشخصية القيادية السياسية، الا ان المحاصصة والتوافق والفساد (التي تجعل صورة القائد امام الشعب صورة الاخبن الذي لايحسن احيانا حتى ربط حزام بنطاله )،

لن تدعم تلك الطموحات والمحاولات الفاشلة، وما ان تسأل اي مواطن عن اوضاع البلاد والحكومة حاليا، ستجد جوابه الجاهز دائما"لاتوجد دولة..العراق انتهى"،

لانه يرى بأن القيادة السياسية غير مقنعة تماما له، انما تفوقت عليها القيادة العسكرية التي دحرت وطردت داعش من البلاد (اضافة الى بعض قيادات الحشد الشعبي ) ..

 عوامل النجاح في التحولات السياسية الكبيرة في المجتمعات العربية، التي لاتحبذ فكرة عودة الانقلابات العسكرية الى المشهد السياسي مرة اخرى، لاتكاد تخرج عن اطار دولة شمولية اشتراكية تسيطر على التجارة والاقتصاد بدعمها للقطاع العام بكل قوتها، وتعمل على المحافظة على المستوى المعاشي للطبقة المتوسطة وتقليل نسبة الفقر في البلاد،

او ديمقراطية دستورية حقيقية ناجحة لاتستنسخ التجربة اللبنانية الفاشلة (ديمقراطية التوافق الطائفي والاثني)، غير تلك النماذج السياسية ستبقى تلك الدول العاجزة عن بناء دولة المؤسسات الدستورية، تعاني من ازدواجية المعايير والقناعات والاصطفافات والثقافات والازمات والهويات السياسية، تنتظر شعوبها صورة وهيئة القائد المنقذ العادل، الذي سيفرض قوة شخصيته السياسية والاجتماعية على الدولة والمجتمع، فالنموذج الديمقراطي الرأسمالي الغربي لم ولن ينجح في المجتمعات العربية مطلقا،

فثقافة فرض نظام الضريبة العالي، والخصخصة والرسوم والجباية والتخلي الحكومي عن القطاع العام تعني اتها ستكون بمثابة شرارة الثورة المتقدة دائما لاسقاط النظام السياسي...

 

مهدي الصافي

 

 

في المثقف اليوم