آراء

الصداقة مع اميركا – من يمنعها؟ وما هي الخطوة الأولى نحوها؟

صائب خليلفي المقالة السابقة(1) أعدنا تعريف "العلاقة الجيدة" و "العلاقة السيئة" وذكرنا بأن "العلاقة الجيدة" ليست بالضرورة هي العلاقة التي تبدو "ودية" و "سلمية"، وإنما تلك العلاقة التي يكون مردودها على البلاد (الشعب وليس الحكام بالضرورة) إيجابياً. وبينا أنه وفق هذا التعريف فان العلاقة بين السعودية وأميركا هي علاقة "سيئة جدا" وخطرة، لأنها – رغم شكلها الودي وعبارات الصداقة - علاقة استغلال من جانب أميركا توجه فيها ثروات السعودية لخدمة اجنداتها، فتمنع بناء الإنسان وتهدد شعب البلاد بالفناء بعد نضوب النفط.

وبينا أيضاً أن العلاقة (المتوترة) بين أميركا وإيران، هي "سيئة" لكنها اقل سوءاً - أي أفضل- من تلك التي بين السعودية وأميركا، رغم أن الشكل يوحي بالعكس. فرغم أذى اميركا لإيران، فهذا الأذى، لا يصل الى جزء من أذى اميركا للسعودية وشعبها، لأن في خصومة إيران لأميركا، ما يقيها بعض أذى تلك العلاقة، وهو ما لا يتوفر لـ "السعودية" بسبب شكل "الصداقة" المزيف لتلك العلاقة، والتي تتيح لأميركا استنزاف السعودية بدون إحداث ضجة.

يمكننا أن نقول الشيء ذاته عن علاقة اميركا بالعراق وعلاقة إسرائيل بمصر، فنحن نرى أن الضرر الناتج عن تلك "الصداقات" أكبر من أية علاقة متوترة كانت، وان علاقة الحرب بين مصر وإسرائيل كانت ارحم لها مئات المرات من علاقة الصداقة، إن حسبنا النتائج والكلف.

إذا وضعنا تسلسلاً للعلاقات ابتداءاً من الأفضل حتى الأسوأ كما في المقالة السابقة، نجد: علاقة ممتازة، علاقة جيدة، علاقة معتدلة، لا علاقة، علاقة قلقة، علاقة سيئة، علاقة مؤذية، علاقة خطرة. ويمكننا بسهولة ان نضع علاقة أميركا بالسعودية في آخر تلك القائمة، رغم "سلامها" على السطح. والحقيقة أن هذا "السلام" والهدوء الشكلي، لن يمنع تلك العلاقة من إنزال اشد النتائج فتكاً في المستقبل بالدولة الأضعف، بل يلعب هذا "السلام" المزيف دوراً في تأخير الوعي وزيادة الضرر. وربما تكون العلاقة بين العراق وأميركا أقل خطراً قليلا، فهي عند الحافة بين "مؤذية" و“خطرة” ففي العراق مازالت هناك بقايا إرادة وبعض إدراك، قد يصحح الخلل مستقبلا أو يؤخر أثره التدميري.

يمكننا ان نشبه ذلك الادراك وعدمه بالمقارنة بين رد فعل لاعب شطرنج خبير وآخر مبتدئ. فالمبتدئ يحتاج إلى دليل مادي صارخ ليدرك أن هناك خللا في موقفه، كخسارة قطعة مثلا. أما اللاعب الأكثر خبرة فقد يكفيه ان يسبقه خصمه بنقلة بيدق صغيرة واحدة لكي يدرك كل نتائجها وقد يدرك أنها قاتلة ويستقيل بسببها! شعوب الدول المذكورة اشبه باللاعب المبتدئ في هذا المثال. هناك خطر شديد وأكيد قادم، لكنه يأتي بهدوء.

ورغم أن هناك لحظات وعي لذلك الخطر حينما تفتضح حقائق معينة مثل القاء الأمريكان للمساعدات لداعش، أو ضرب الجيش او الحشد "بالخطأ" أو الإمساك بإرهابي بريطاني متنكر بزي رجال الدين، لكن سرعان ما تدفن لحظات الوعي تلك في النسيان، بفضل سيطرة الطرف الآخر على الإعلام، الذي يتجنب عامداً الحديث عنها.

إذا اتفقنا على أن علاقتنا بأميركا "سيئة" و "خطرة"، يكون السؤال: هل يمكن تغييرها، وكيف يمكن أن يتم هذا التغيير؟ ما الذي يفترض بنا أن نفعله لـ "تحسين" تلك العلاقة ودفعها خطوة نحو “الأفضل”؟ وهذا قد يعني جعلها علاقة "مؤذية" فقط، فتلك خطوة كبيرة إلى الأمام. فعلاقة يشعر الجميع بوجعها وتوترها، تبقى أفضل بكثير من حالة السائرين نحو الحفرة نائمين. من الممكن بعد ذلك التفكير بخطوة أخرى نحو الأمام، أي نحو علاقة "سيئة" في التسلسل، ثم ربما في المستقبل نتقدم نحو علاقة "قلقة" وهكذا وصولا إلى علاقة "جيدة" إن كان لنا ان نطمح إلى ذلك.

من الذي يمنعنا من السير بهذا الاتجاه؟ علينا ان نتذكر أن هذه العلاقة خطرة بالنسبة لنا فقط، لكنها ليست كذلك بالنسبة للجانب المقابل الذي لا يعنيه تحطم بلادنا، بل ربما يمثل الربح الأكبر بالنسبة له.

لماذا؟ لماذا كان الأمر مختلفاً مع المانيا واليابان؟ لماذا لم يحطمهما؟

لكل علاقة ظروفها وشكلها، وقد كانت بعض علاقات أميركا مفيدة للجانب الآخر وبعضها مؤذ والكثير منها مدمر. الأمر لا يعتمد على طبيعة الجانب الآخر وموقفه فقط، بقدر ما يعتمد على الظرف الذي وجد نفسه فيه، وما يرى فيه الامريكان الفائدة القصوى لهم. فألمانيا المتقدمة كانت ضرورية لوقف المد الشيوعي في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، واستفادت اليابان وكوريا الجنوبية كثيرا جدا من الحرب الأمريكية على فيتنام. كل الحقائق تؤكد أن أميركا، وبشكل خاص بسبب التزامها بإسرائيل، لا تضعنا ضمن مجموعة الاستفادة المتبادلة. فما الذي يجب ان نفعله؟

الطريقة الوحيدة هي أن نجعل أميركا تقتنع أن محاولة تحطيمنا لن تنفعها، فكيف نفعل؟ علينا أولاً أن نجعل ذلك التحطيم صعباً ومكلفاً قدر الإمكان من جهة، وأن نقنعها بأن علاقة أخرى ستكون أفضل لها.

هل يمكن ذلك بالتفاوض والتفاهم؟ الغالبية لا تثق بهذا، لكن المعجبون بأميركا يعتقدون بذلك. هم يصرون ان خلل العلاقة ليس إلا بسبب “حماقة ساستنا” الذين “لا يعرفون كيف يديرون الأمور”، وان ما تحتاجه بلداننا هو "تشرشل" أو "كيسنجر"، أي باختصار "ثعلب" سياسي يعرف كيف "يفاوض بذكاء". لكن دعونا نفترض أننا سلمنا أمور البلاد إلى دعاة "التفاوض الذكي" هذا، فما الذي سيعرضونه على الأمريكان، من أجل علاقة تضمن مصالح بلادنا؟

ربما سيقولون لهم شيئا مثل: ساعدونا لتطوير بلدنا، واسمحوا لنا ان نأتي بحكومة مخلصة تمثلنا، وبالمقابل سوف نبيعكم النفط بسعر مخفض بمقدار 10% أو حتى 20%، وسنبيع بالدولار حتى إن كنا نخسر بذلك خمسة أو عشرة بالمئة إضافية.. الخ.

عرض يبدو مغرياً، فهل سيقبل الأمريكان ذلك حقاً؟

الأمريكان سيفحصون خياراتهم ويفكرون:

حكومة عراقية تمثل شعبها ستطالبنا بسحب قواتنا، وربما تعيد النظر في قوانين البنك المركزي التي وضعناها لأنها خطرة على البلاد. وقد تسألنا عن سبب حجم سفارتنا غير الطبيعي ومن يسكن فيها وما هي مهماتهم، وعن قواعدنا، فهذا حصل في بلدان أخرى عندما تمكنت من اختيار حكومة تمثل شعبها. ومن الطبيعي أن توقف هذه الحكومة الدعم النفطي لصديقنا الذي يحكم الأردن، ونضطر عندها ان ندفع نحن له تلك المبالغ. من الطبيعي أيضا ان تصوت هذه الحكومة بالضد من مشاريعنا في جامعة الدول العربية لأننا نعلم أنها ضد مصالح شعبها وبقية الشعوب العربية.

حكومة وطنية تعني شعب كريم ومتعلم مستقبلا، وهذا يعني أنه قد يرفض الإهانات والاحتلال المتزايد للأراضي العربية، وقد لا يجد طريقة سوى ان يدعم من يعارض هذا الاحتلال.

حكومة وطنية قد تكتشف ان الاقتصاد الذي نريده لها، اقتصاد السوق والخصخصة يسبب الضرر لها، وقد تضع قيودا على الاستيراد لتنعش الصناعة الوطنية وتستغني عن صناعتنا وتبعيتها لنا، وقد تنتج حتى أسلحتها أو تشتري أسلحة روسية أفضل وأرخص مما نبيعها لها إن كانت مستقلة القرار. هذا مقابل 20% من قيمة النفط وعلاقة ودية حقيقية من شعبها تجاه الولايات المتحدة. هذا هو الخيار الأول.

الخيار الثاني ما يعرضه الفاسدون من حكومة تستمع إلينا حين تعين قادة جيشها، ويكون لنا رأينا الحاسم في وزرائها وخاصة الدفاع والداخلية. حكومة تبقي البنك المركزي كما وضعناه جاهزا لنسحب منه قيمة أمواله بأزمات مفتعلة، وبنك تجاري تلزمه شراكته مع بنك جي بي موركان بعدم تحويل أي مبلغ يزيد عن بضعة ملايين إلا بموافقة الأخير، وبالتالي نستطيع فرض علاقات البلد الاقتصادية عليه مادامت في صالحنا، واستخدامه كهراوة اقتصادية ضد أي بلد نقاطعه، وبغض النظر فيما إذا كانت في صالحه هو أم لا.

حكومة تبقي مساعدات النفط لـ "اصدقاءنا" في المنطقة بغض النظر عما تمر به البلاد من أزمات تضطرها الى الاستدانة. حكومة تنفذ خططنا في إبقاء البلاد عاجزة تابعة لنا. لا تسأل عن بقاء قواتنا العسكرية فيها رغم إرادة شعبها الذي يكرهنا، ولا تسألنا إن أنقذنا الدواعش أو قصفنا جيشها وحشدها وان تشتري كل الأسلحة منا حتى القديمة منها، وبشروط استخدامها التي نفرضها، فتبقى تحت سيطرتنا.

حكومة يتقاطر ساستها إلى واشنطن أيام الانتخابات حرصاً على نيل رضانا والاستماع إلى شروطنا، أكثر من حرصه على رضا شعبه. حكومة متحمسة لتنفيذ سياسة الخصخصة التي نريد فرضها على أي بلد، أكثر من حماسها لتنفيذ مشاريع إنعاش البلد.

حكومة تترك لنا السيطرة على إعلامها لنضمن توجيه شعبها كما نريد نحن وليس كما يريد هو. إنها فوق ذلك حكومة لا تمانع أن نحصل على 50% من قيمة النفط من خلال توقيع عقود شراكة وبيع النفط بالدولار، وتفتح الآفاق لخصخصته وبيعه مستقبلا من خلال وضعه كملكية خاصة لشركة يمكن ان نجد لها طريقاً لبيع أسهمها مستقبلا بالضغط والرشاوي.

لو كنت عزيزي القارئ مكان الإدارة الأمريكية، أي الخيارين ستختار؟ الثاني بلا شك! فكيف يجب ان يتصرف ذلك الوطني المحب لأميركا والذي يؤكد أن بالإمكان إقامة علاقة صداقة معها مفيدة للطرفين؟ إنه ببساطة لن يستطيع أن يقدم عرضاً أكثر إغراءاً مما يقدمه الفاسدون. الإدارة الأمريكية سترفض كل عروضه لأن لديها خيار آخر لا يمكن التفوق عليه.

إذن سيجد “الوطني المؤمن بضرورة صداقة اميركا”، أن من يقف بوجه تلك الصداقة، ليس كارهي اميركا بالدرجة الأولى وإنما بالذات أولئك الذين يسلمون أمور البلد لها بدون قيد أو شرط. فهؤلاء يقدمون لها العرض الأفضل، الذي يمنعها حتى من التفكير بالصداقة. فعرضهم بالنسبة لها وأكثر إغراءاً من أية صداقة وأية علاقة نفع متبادل.

هذا “الوطني الصديق لأميركا” سيجد نفسه أما مضطراً لتقديم عرض منافس للمستسلمين، أي ان ينسى وطنيته ويكون هو أيضا مستسلماً تابعاً مثلهم، أو مضطراً للعمل على منع حصول اميركا على تلك العروض المؤذية لبلاده، إن أصر على وطنيته. سيجد نفسه يقف مع من كان يسميهم "أعداء اميركا". سيجد نفسه مضطراً للسعي لحرمانها من منافعها المجانية، كخطوة أولى لإقناعها بأن الحصول عليها يتطلب منها الصداقة الحقيقية النافعة لبلده ولها. ولن يكون ذلك ممكناً إلا بالعمل على استئصال عملائها من الحكومة والجيش والنظام الاقتصادي وبقية المؤسسات. فلا شيء يمكن أن يقنع دولة أخرى، لا اميركا ولا غيرها، أن تدفع ثمن ما تحصل عليه من منافع، إن كان هناك من يعرضها عليها مجانا!

ولو قرأ هذا الرجل تاريخ علاقات اميركا مع الشعوب الأخرى، سيجد ما يدهشه! سيجد أن الغالبية ممن سجلهم التاريخ كأعداء لأميركا، مثل كاسترو وعبد الناصر وهوشي منه، كانوا في الحقيقة مثله تماما، وطنيين مؤمنين بصداقة أميركا، بل كانوا يضعون الكثير من الآمال عليها، لكنهم وجدوا الطريق إلى تلك الصداقة مغلقاً بواسطة من يقدم لها عروضاً أكثر إغراءاً، وعلى حساب بلادهم. ولم يجد هؤلاء بداً من العمل على إزالة هؤلاء، أو التخلي عن وطنيتهم وتقديم بلادهم مجاناً، فاختاروا الأولى وصاروا يسمون "أعداء" اميركا!

في حالات نادرة تمكن بعض هؤلاء من بناء تلك الصداقة بعد نجاحهم بإزاحة العملاء، مثلما فعل مانديلا. حيث لم تجد اميركا في النهاية بداً من التخلي عن عملائها في بلاده بعد ان صار الحفاظ عليهم يكلفها الكثير، فتمت ازاحتهم، ورحب بمانديلا وفتح الطريق لإقامة صداقة بين أميركا وبلاده (رغم ملاحظات على ذلك).

أميركا تدرك طبعا أن أية علاقة صداقة لن تنفعها بقدر علاقة الاستغلال المدمر، لذلك ستعمل دائماً على الدفاع عن الثانية بشراسة. الدفاع عن التابعين الذين زرعتهم وسقتهم واعتنت بهم. وما لم تجد أميركا أن التخلي عن هؤلاء اجباريا لا مناص منه، فلن تتخلى عنهم ابداً.

الطريق إلى صداقة أميركا إن أمكن، أو التخلص منها إن لم يمكن، يبدأ بإزالة ذلك الخدر الخطير للاستسلام. بعد ذلك يجب الاتجاه إلى تحويل العلاقة من علاقة مؤذية لنا فقط، إلى علاقة "مؤذية" للطرفين. ففقط بعد ان تشعر أميركا بأن إصرارها على الأذى يؤذيها أكثر مما ينفعها، يمكن ان تقبل "صداقة" مع حكومة وطنية بمنافع متبادلة. إنها لن تتقاسم المنافع مع أحد ما لم تضطر لذلك. يجب أولاً العمل على إزالة توابعها الذين يأتمرون بأوامرها ويقدمون لها كل شيء بلا مقابل، فلا شيء يمكن أن يجبر أحداً على قبول نصف الكعكة إن كان هناك من يعرض عليه الكعكة كلها.

 

صائب خليل

..................

(1) صائب خليل: أيهما أفضل علاقة السعودية بأميركا أم علاقة إيران بأميركا؟

https://www.facebook.com/saiebkhalil/posts/1805513519505709

 

 

في المثقف اليوم