آراء

حروب الخليج في سوريا

صالح الرزوقفي الثمانينات موّل الخليج الثقافة الإسلامية المحافظة للضغط على السوريين. وضخ في سبيل هذه الغاية النفط والنقود السائلة بسخاء. ونجح لحد كبير في تشكيل قاعدة شعبية منومة برموز إسلامية. بمعنى أنه كان يموّل ما يسميه زيجموند باومان الدولة العميقة. وهي أية كتلة لها قرار يكافئ قرارات الدولة وإن لم يكن هو بالذات جزءا عضويا منها. وأعتقد أن تعويم الأساطير الثقافية كان لها قصب السبق. فقد عملت السعودية (وهذا مثال فقط) على أسطرة صورة الداعية السوري علي الطنطاوي. والسوريون لا يجهلون أبناءهم. فعلي الطنطاوي من كتاب جيل الستينات. وكان يعوم بعكس التيار. ولا أقصد تيار الثقافة المدعومة من الدولة، ولكن الليبرالية المملوكة لنفسها. فقد نأى بنفسه عن أعصبة الحداثة وما حملته من تبشير بجيل النكبة وقضيته، وركز على معاداة النظام. ب معنى أنه استهدف عقل النخبة وليس عقل الجيل كله. وهذا نشاط له معناه. وفي الواقع لم تكن بذور التأسلم حاسمة في بواكيره. ومن يقرأ كتابه (من حديث النفس - 1960) ستفاجئه نغمة تعذيب الذات والمازوشية الذهنية. والحقن العديدة التي تدين بلغتها وفحواها للرومنسيين الألمان أمثال شيللر وغوتة وهولدرلين. وقد وردت أسماء هؤلاء بالحرف الواحد بصور قلمية مفعمة بثورة الشباب وعنفوانه. ولم يخفت صوت هذه المؤثرات في أعماله المتلاحقة، وبالأخص سلسلة قصصه وهي (قصص من التاريخ، 1957) و(مع الناس، 1960) و(قصص من الحياة، 1959).  

لقد وفرت الدعاية في الخليج للشيخ الطنطاوي صورة لا تقل عما جناه طه حسين من شهرة وإسقاطات وإضافات. وإذا حمل عميد الأدب العربي لقب رائد التنوير فالطنطاوي حمل لقب مؤسس المدرسة التكاملية التفاعلية. وربما يدين لنا من وضع هذا اللقب ببعض التوضيحات.

ماذا يقصد بالتكاملية؟.

لقد تفرغ الشيخ الطنطاوي لكتابة سيرة حياته في أجزاء متلاحقة مع بعض النشاط في مجال التشريع والإلهيات. ومن دواعي أسفي أنه تناسى المرور أو حتى التوقف عند تراث التصوف الإسلامي وقضايا الإسراء والمعراج. وترك هذا الجانب الخصب والغني بأخيلته وشطحاته للمستشرقين كي يلعبوا لعيتهم، ويعيدوا تركيب تاريخنا الروحي.

ويبدو أنه من هذه النقطة المفصلية كان على الخليج أن يعيد حساباته. فمع بداية أزمة الربيع العربي أصبح من الواضح أن له استراتيجية مختلفة. فقد استبدل شراء الرموز والوجوه والأفراد بشراء تيارات وأذهان وحركات. وتخلى عن الأبواق الإسلامية المحافظة وسهل نشاط وانتشار الليبراليين وبقايا اليسار العربي، ولا سيما من يئس من الحلول العسكرية واتجه بكل قوته نحو العمل المدني. واتبع بهذا الخصوص استراتيجية البزل. لقد حاول تفريغ الاحتقانات لسكبها في جيوب يرعاها على أراضيه. ويمكن أن تجد البرهان العملي على هذا الكلام في إحصائيات التشكيلة السكانية في أهم لاعبين خليجيين وهما السعودية والإمارات. فقد بلغت نسبة الأجانب في السعودية في إحصاء عام 2017 ما يساوي 37.31 %. بينما وصلت في الإمارات في إحصاء عام 2015 إلى رقم خرافي بلغ 86 %. وإذا أضفت له المقيمين بصورة غير شرعية والذين لهم اسم في السجلات، لكن يعيشون عمليا في الخارج، ستتجاوز النسبة هذا الرقم المرعب.

ومثل هذه الجالية الكبيرة جاءت ومعها برنامجها أيضا. وقد غطى وجودها على جيل الثمانينات، ومهد الأرض لجيل جديد يتعاطى مع مسألة الاختلاف والإلغاء ليس بعقلية المهاجر وإنما بعقلانية المقيم. ومن أهم الظواهر التي رافقت هذا الواقع هو تأسيس جائزة البوكر في أبو ظبي. وهي جائزة مانحة وذات اتجاه تحرري. وقد استقطبت الأقلام اليسارية بما لديها من إغراءات، منها الدعاية والهبات ثم نفس الأسلوب السابق، وهو النجومية.

وربما نحن سمعنا بيوسف زيدان عن طريق الإمارات قبل أن نسمع به عن طريق مصر. لقد حصد شهرة تساوي شهرة سلمان رشدي بعد صدور روايته (عزازيل) ووصولها إلى مؤسسة البوكر. وكان لهذه الجائزة دور مماثل لفتوى الإمام الخميني. وبعد ذلك دخل اسم يوسف زيدان في دوائر الوعي الميتافيزيقي، وانتبهنا لمشكلته المتكررة مع إعادة تركيب الحياة الروحية لجوانب غير مستقرة من شخصية الإنسان العربي.

وهنا لدي نقطة نظام.

إن الجوائز الأدبية مؤشر على اتجاهات وميول أو تفاعلات في المجتمع. ولاحظ أن مصر حصدت نوبل بعد توقيع سياسة السلام مع إسرائيل وليس قبل ذلك. وأن الجائزة حجبت عن توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأدونيس ومنحت بسخاء للسادات ونجيب محفوظ. وإنه إذا لم يحقق السوريون اختراقات فعلية في البوكر مثلما حصل في فضاء التفكير الإسلامي، فإن هذا يفسر حساسية السلطة في سوريا من الإسلاميين واستعدادها للتتحاور مع هوامش اليسار أو الماركسيين العرب الذين لديهم تطلعات نصف عروبية ونصف كوزموبوليتانية. وهذا لا يعفي الخليج من طموحاته بإدارة الصراع في سوريا.

وها هي المساومة تنشط حاليا للتدخل العسكري. وأين؟. في الجيب المتنازع عليه بين الأكراد والأتراك والعشائر العابرة للحدود والتي تتداخل أنسابها بطريقة مروعة، ولا تدين بالولاء إلا لنفسها.

إن سياسة الباب المغلق لا شك هي عكس سياسة القلب المفتوح. ولا يوجد عندي شك أن الأبواب مغلقة بالاتجاهين. والشيء يمكن أن يعرف نفسه بمرآته. والحالة السورية في شرق البلاد هي مرآة لواقع السياسة الخليجية. وإذا كان الخليج يفكر بفرض إرادته بالقوة فهذا يعني أن الواقع السوري لديه خطة لفرض رؤيته ومصالحه بالقوة أيضا.

وستكون فاتورة هذا الصدام مرتفعة على جميع الأطراف.

 

د. صالح الرزوق

 

 

في المثقف اليوم