تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

آراء

الغرب يمنع تطبيق الديمقراطية

كمقدمة: لم يكن القصد في مقالتي (الديمقرطية للغرب وليست لنا) رفض الديمقراطية كاسلوب لحكم شعوبنا بل ان الدول الاستعمارية تمنعنا من تطبيقها. فذكرت مثلاً: (ان البلدان الرأسمالية لا تسمح بتمتع الشعوب المقهورة بمثل هذه الديمقراطية خوفاً من انها قد تمنع الشركات الرأسمالية من استغلالها، بل قد يقرر شعب ما التحرر من المستعمرين.) لقد بينت بالاعتماد على علماء غربيين مختصين في الديمقراطية بعدم امكانية تطبيقها في العالم الثالث وذلك لانتشار الفقر والجهل والامراض فيه ولأن المستعمرين يسيطرون على مقدراته. فيمكن تطبيق الديمقراطية فقط بعد التحرر لا قبله.

اذن لماذا وصلت فكرة الديمقراطية الى العالم الثالث؟ انها وصلت كبضاعة جلبتها الدول الغربية مثل كافة البضائع الاخرى للاسباب التالية على الاقل:-

1- للدعاية لنظام الحكم الرأسمالي. لاظهار مقامه الرفيع وعلو شأنه بالنسبة للانظمة الفاسدة القائمة في العالم الثالث. علماً بأن الدول الرأسمالية فرضت هذه الانظمة مسبقاً على هذه الشعوب المقهورة كما ورد في مقالتي السابقة. ان الدول الرأسمالية ما زالت تساند اكثر الحكام المعروفين برفض الديمقراطية. بين هؤلاء حكام الشعوب المسلمة من الذين يوجهون صراعهم بحماس ضد الدول الاسلامية الاخرى كما هو الحال في الشرق الاوسط حيث الخلاف السني – الشيعي على اشده.

2- لاقناع المحكومين بأن للدول الغربية هدف شريف في احتلال العالم الثالث. والادعاء بأن همها الوحيد هو تربية الشعوب الجاهلة وتثقيفها ورفع مستواها الى المرحلة التي تستطيع فيها القبول بالديمقراطية وتنجح في تطبيقها. (فاليمقراطية عملية بطيئة ولا تحدث بين عشية وضحاها. ) كما اعلنت آيلين ليبسون، نائبة رئيس المجلس القومي للاستخبارات التابع لوكالة المخابرات المركزية سي آي أي في سياق كلامها عن العراق قبل الاحتلال (راجع القدس العربي في 16/2/1999). لكن ليبسون لم تنطق بكلمة حين قتل المحتلون الامريكان مئات الالوف من العراقيين بحجة محاربة الارهاب (في المثلث السني.) لقد حدث كل ذلك بالتعاون العسكري مع قادة البلدان الاسلامية في الخليج الذي اختارته القوات الامريكية كمقرات للزحف على العراق في حرب الكويت وحرب الاحتلال في 2003. لقد اشترك الجيش السعودي وطائراته الى جانب حلفائه الامريكان في تحطيم العراق، بل كان القائد العسكري السعودي يقرأ البلاغات العسكرية الدموية على التلفزيون بدل القائد الامريكي شوارزوف.

3- لاقناع الشعوب المنكوبة وايهامها بامكانية تحقيق الديمقراطية في بلدانها المتأخرة اذا وضعت ثقتها بحسن نية الشركات الاحتكارية. وذلك بالرغم من فقرها وبالرغم من البحوث العلمية الغربية التي تثبت عكس ذلك.

4- لتقديم الديمقراطية كبديل "انساني" نبيل للشيوعية التي ازدهرت في الاتحاد السوفياتي، اثناء الدكتاتورية البروليتارية. فاسرعت الدول الرأسمالية لتحلف بالديمقراطية، بدل الانجيل، بغية انقاذ سلطانها.

وبدل نشر الديمقراطية يأتي المستعمرون لاستغلالنا بالطرق التالية:

1- عن طريق السيطرة على مواردنا الطبيعية، كالنفط، لا لمجرد فائدتها بل، الاهم من الفائدة، لبيعها في مختلف انحاء العالم وجلب البلايين من الارباح.

2- عن طريق التمويل وتقديم القروض المربحة من قبل صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي. هناك الآن31 بلداً في العالم تفوق ديونها على انتاجها السنوي الاجمالي. قد تصل الفوائد المترتبة على هذه الديون الى حد 43% في السنة كما هو الحال مع اندونيسيا حسب مجلة الايكونوميست اللندنية ليوم 13/6/1998. اي بعد فشل الثورة الخضراء وانهيار الانتعاش الاقتصادي في الشرق الاقصى.

3- عن طريق بيع البضائع، بما في ذلك حتى السيارات والملابس المستعملة، التي تطغي على الاسواق المحلية فتمنع نمو المصنوعات المحلية. هكذا يتم منع نمو الرأسمالية في الدول التابعة.

4- عن طريق بيع المعامل الجاهزة لانشاء الصناعات المحلية، كمعامل الطابوق والسمنت الخ. تبقى هذه الصناعات تحت رحمة الشركات الاجنبية التي تجهزها بالادوات الاحتياطية ومواد الادامة. وفي اغلب الاحوال يعمل الاغنياء المحليين كمقاولين ثانويين للشركات الاجنبية ويتحولون الى عملائها كوزراء في الحكومة.

5- عن طريق تأسيس صناعات التجميع للقطع التي تجلبها الشركات العملاقة الى بلد معين حيث يتم صنع البضاعة الجاهزة للبيع. تحبذ هذه الشركات صناعات التجميع لأنها تستغني عن دفع ضرائب الاستيراد بحجة ان القطع المستوردة هي مواد اولية ضرورية للصناعات "الوطنية". كما انها تستطيع ايقاف الانتاج، في حالات خلافها مع الحكومة المحلية، عن طريق الامتناع عن تجهيز اية قطعة من البضاعة الكاملة.

6- عن طريق نقل المعامل من البلدان الرأسمالية الى البلدان التابعة، حيث الايدي العاملة رخيصة ونقابات العمال معدومة. كما وتملي الشركة قوانين العمل وشروطها على الحكومة المحلية.(راجع:

 Will Hutton,The State To Come, Vintage, ,London,1997

هكذا تم نقل صناعة الفولاذ والبواخر والمواد الكيميائية الخ. الى تركيا وايران والبرازيل وكوريا الجنوبية.

7- عن طريق خلق الحروب الاهلية، اوبين البلدان المجاورة. ان لهذه الحروب فوائد عديدة للمستعمرين منها:

أ – بيع الاسلحة الى الجهات المتحاربة كما حدث اثناء الحرب العراقية الايرانية. فبمناسبة احتفالات 17 تموز سنة 1981 سافر دوغلاس هيرد، وزير الخارجية البريطاني، الى بغداد. لقد كان للوزير (هدف ثاني وهوالقيام ببيع نظام كامل للدفاع الجوي .. وكانت تلك اكبر صفقة في التأريخ.) (راجع الغارديان اللندنية في 17/7/1981)

ثم ان الحرب تخلق عدم الاستقرار في المنظقة كلها فتستغلها الشركات المنتجة للسلاح لبيع بضاعتها الى الحكومات المجاورة للمتحاربين، فتنتعش تجارة السلاح وتتراكم الارباح.

ب – بعد تخريب البلدين المتحاربين تدخل الشركات العملاقة الى البلدين لتعيد بناء ما تم تخريبه فتجني البلايين الاخرى من الارباح. كما حدث بعد حرب الكويت وكما سيحدث بعد نهاية الحرب في ليبيا او سوريا.

جـ - تستغل الدول الكبرى ظروف الحرب لتنقل جيوشها الى المنطقة لتحتلها، اما بحجة الدفاع عن احدى الجهات المتضررة او لحماية مصالحها الاقتصادية والستراتيجية. فكتب الدكتور عبدالله فهد النفيسي يقول: (ان حرب تحرير الكويت كانت وسيلة فعالة للامريكان لصياغة نظام عالمي جديد يغيب عنه الاتحاد السوفييتي وتتلاشى فيه كل مقولات (القطبية الثنائية) وآلياتها واستراتيجياتها.) ويقول ايضاً: (ونرى ان شن الحرب عام 1991 والاستعجال به تم اتخاذه عمداً لمنع قيام (الكتلة الاوروبية) وذلك باضعاف اوروبا بالسيطرة التامة على نفط الخليج واستفراد الولايات المتحدة به.)

راجع: (ايران والخليج، دياليكتيك الدمج والنبذ، دارقرطاس للنشر، الكويت 1999.) وهذا يوضح ايضاً التناقض الموجود بين الكتل الاستعمارية والمنافسة الشرسة بينها للسيطرة على البلدان المنكوبة. وهذا احد اسباب قيام الحكومة الامريكية كل سنة بشراء ما قيمته 720 مليار دولار من الاسلحة. لا لقهر الشعوب بل، ايضاً، لمنع المستعمرين الآخرين من التوسع على حسابها.

يؤكد الدكتور محمود مصطفى، سفير مصر سابقاً، على اهداف العولمة الاستعمارية وتطورها. فكتب في القدس العربي في 11/9/2001 يقول انها (التوسع والمزيد من التوسع وكذلك الربح والمزيد من الربح وهو ما يدفع باتجاه سيطرة كاملة ومباشرة على مصادر الخامات واهمها مصادر الطاقة، وعلى الاسواق، واعادة ترتيب الاوضاع العالمية والاقليمية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، بما يتناسب مع مصالح القوى المهيمنة... باستخدام كافة الوسائل وعلى رأسها القوة العسكرية.)

هذه الحقائق هي التي تمنع الشعوب المنكوبة من تطبيق الديمقراطية. ولهذا تضطر اللجوء الى الثورة. فالثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر اوالعراقية بقيادة عبدالكريم قاسم او الثورة الفلسطينية او الكوبية لم تكن ضد الديمقراطية، التي يتبجح بها المستعمرون، بل لأن الثوار ادركوا بأن المستعمرين يحتلون بلدانهم بحجة الديمقراطية.

ولمنع اوتحريف الثورة، بل القضاء عليها، يعمل المستعمرون على بث التفرقة بين ابناء الشعب الواحد. وهذا ما حدث في العراق بعد احتلاله سنة 2003. فحين ثار الشعب وانتشرت المقاومة لجأ الامريكان الى تفريق المسلمين الى السنة والشيعة ثم توسيع الخلاف ليشمل المنطقة كلها. ولهذا بعث اوباما بقواته الخاصة الى سوريا لتدريب اعوانه على استخدام السلاح وحثهم على الحرب الاهلية، حيث لعبت التفرقة الطائفية فيها دوراً رئيسياً. لقد صرفت وزيرة الخارجية، هيلري كلينتون، جل جهدها لمنع اعوانها من الاشتراك في المفاوضات السلمية التي اقترحتها الحكومة. ولهذا ايضاً باعت الشركات الامريكية السلاح للسعودية لحث قادتها على العداء الطائفي لسوريا وايران.

الا ان الحرب الطائفية في العراق برهنت على فشل الطريقة الدينية في الحكم واصبحت الديانة شراً على المؤمنين. وفي سوريا ايضاً فشلت الهجمة الامريكية واضطر اوباما على اقالة هيلري كلينتون وسحب اسطوله الحربي من المياه السورية في البحر المتوسط وترك اشعال نار الطائفية لبعض السعوديين والايرانيين. وفي مصر، ايضاً، تم ازاحة اخوان المسلمين من الحكم. ولهذا ازداد الامل بانهيار السياسة الاستعمارية في المنطقة والتفكير بالديمقراطية والحكومة المدنية التي لا تفرق بين الشعب بحجة الدين او اللغة او المذهب وتعمل على فصل الدين عن السياسة.

 

البروفسور كمال مجيد

 

 

في المثقف اليوم