تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

آراء

المستلزامات المعاصرة لتحرر الشعوب

لقد منعت الدول الاستعمارية، منذ القدم، نمو الرأسمال الوطني في مستعمراتها بل جند كل مستعمر الشعوب التابعة له لتوسيع رقعته وثروته. وبالرغم من نمو الحركات التحررية وتحقيق الانتصارات العظيمة اصيبت بالانتكاسة، خاصة بعد ان فقدت مساندة الاتحاد السوفياتي الذي تدهور بدوره، بعد الحرب العالمية الثانية، وانتهى بالسقوط. فحدثت تغيرات شاملة في العالم مما اثر على حركة التحرر بصورة جذرية تستوجب تعريف وتثبيت مستلزماتها من جديد. فما هي هذه التغيرات؟

1 - لتعزيز سيطرتها على منطقة معينة اقدمت الدولة الاستعمارية على تقسيم المنطقة وتشكيل الحكومات المحلية الهزيلة الخاضعة لها وحدها دون غيرها. الا ان نمو وانتشار الشركات العابرة للاوطان Transnational Corporations في كل انحاء العالم اجبرت الحكومات المحلية على الخضوع لرغبات اكثر من شركة، أي اكثر من دولة استعمارية. ففقدت الدولة القطرية في البلدان التابعة معناها الاصلي الى حد بعيد بل فقدت الكثير مما كان لها من السيادة السياسية والاقتصادية لصالح اكثر من شركة ودولة. ليست هذه حالة خاصة ببلد واحد بل انها ميزة لكل البلدان الفقيرة. فالشعب الافغاني مثلاً يواجه جيوش كافة البلدان المشتركة في حلف الاطلسي، حاله حال ما كان عليه الشعب العراقي والصومالي بل شعوب يوغسلافيا التي تم تقسيمها تنفيذاً لرغبات البلدان العظمى المشتركة في حلف الاطلسي.

2 – تنظم الشركات العملاقة اعمالها على نطاق كل العالم وتستخدم عشرات الملايين من الايدي العاملة في بلدان مختلفة بينها الوف الكيلومترات لانتاج البضائع الجاهزة وبيعها لعشرات الملايين من المستهلكين. هذا هو الحال، مثلاً، مع توزيع بترول الخليج، عبر روتردام في هولندة، الى اوروبا وامريكا. فتم تقسيم العمل، لا في معمل واحد، بل بين شعوب العالم كلها واصبحت عملية الانتاج عملية اجنماعية عالمية مشتركة لعدد كبير من الاقوام والشعوب. فالى حد بعيد فقدت الدولة القومية والانتاج الوطني اهميتهما وحتى معانيهما، كما فقدت الدولة في قطر من الاقطار المغلوبة على امرها حق الدفاع عن استقلالها او سيادتها الوطنية والا تعرض شعبها للعقوبات الحربية عن طريق الاحتلال المباشر او القصف الجوي، كما حدث لباكستان وفلسطين ولبنان وباناما وهايتي او عن طريق المقاطعة الاقتصادية كما يحدث الان ضد كوريا الشمالية وايران وفنزويلا بل حتى روسيا.

3 – من جهة اخرى ترك الكثيرون اوطانهم لكسب الرزق، كما حدث مع عشرة ملايين من مواطني سيريلانكا وتركيا والفلبين ومصر الذين انتقلوا الى منطقة الخليج، وحسب وكالة الانباء الفرنسية بأن المفوضية العليا للاجئين اكدت (ان هناك 32 مليون لاجئ في العالم نتيجة للحروب منهم سبعة ملايين افريقي .) لقدغادر مليونان من العراق وخمس ملايين من افغانستان لتجنب الموت والاضطهاد. وكذا الحال مع العديد من الشعوب، فهناك الآن ثلاثة ملايين من الاتراك في المانيا وحدها وان ربع الايدي العاملة في هولندة يتكون من الاجانب، بينما نزح 30 مليون من سكان امريكا اللاتينية الى الولايات المتحدة وكندا. وفي تقرير لهيئة الأمم في مطلع القرن هناك الآن 135 مليون انسان يعملون خارج اوطانهم مع 35 مليون آخرين يعيشون في الخارج بصورة سرية. أذن فقد (الوطن الأم) معناه عند هؤلاء وتحول الى ارض صالحة لانتاج الخير للمستعمرين تقطنها شغيلة مختلف الشعوب والاقوام واكثرهم منكوبون.

وبهذا الخصوص عرّف البروفسورالالماني اورليش بك، العولمة انها (تعني انهيار وحدة الدولة الوطنية والمجتمع الوطني، وتكوّن علاقات جديدة للقوة والمنافسة والصراعات والتداخلات بين الوحدات الدولية الوطنية من جهة، والممثلين عبر الحدود الوطنية والهويات والافكار الاجتماعية والاوضاع والقضايا من الجهة الاخرى.)

لكل هذه الاسباب اصبح توحيد جهود شعوب كل البلدان في المعركة نحو التحرر واحد من اهم مستلزمات هذه المعركة خاصة وانها تواجه اكثر من عدو واحد.

4 – ان المستعمرين يستخدمون الخلافات الدينية والطائفية والمذهبية بغية توطيد مصالحهم كما حدث في السودان ولبنان بين المسلمين والمسيحيين وكذلك في الهند بين المسلمين والهندوس. وفي العراق ساند شاه ايران وحلف السنتو آية الله محسن الحكيم وباقر الصدر لزعزعة حكومة عبدالكريم قاسم بحجة محاربة الشيوعية. ثم تعمقت الخلافات الطائفية وانتهت بالحرب العراقية الايرانية مما سهل احتلال العراق فاستخدام المحتل الامريكي هذه الخلافات لاشعال الحرب الطائفية وتفتيت البلد. لقد انتشرت نار الطائفية الى درجة يؤكد بعض العراقيين على كون ايران عدوتهم الرئيسية بل ان هناك حلف ستراتيجي بين ايران وامريكا واسرائيل لتحطيم العراق.

وعلى النطاق العالمي اثرت انتكاسة الحركات التحررية الى انتعاش الاحزاب الدينية الاصولية التي اخذت تركز، مثلاً، على كون الاسلام خير امة بين الامم، مما برر العذر عند الصهاينة لاعتبار اليهود كالشعب (المختار) وكذلك اعطى العذر للاكثرية المسيحية في يوغسلافيا وروسيا لاعتبار دينهم ارقى من غيره، لقد شجع المد الاصولي الهندوس في الهند والكاثوليك في الفليبين والبوذيين في تايلاند على الانخداع بالدعايات الاستعمارية والانقضاض على الاقليات المسلمة، بينما حدثت الحروب الدينية في نايجيريا واندنوسيا وبين اذربيجان وارمينيا. كل هذا اضعف حركات التحرر العالمية.

اذن اصبح نبذ الخلافات الدينية والطائفية بل تجنب الاحزاب المبنية على هذه الاسس من اهم مستلزمات كفاح الشعوب. ذلك لأن المستعمرين يستخدمون سياسة (فرق تسد) لاحداث الحروب التي بدورها تجبر الناس على الهجرة الى الخارج.

5 – لقد كانت الحركات القومية، كحركة الوحدة العربية لجمال عبد الناصر وحركة كوامي نكروما واحمد سيكوتوري لتوحيد افريقيا، تلعب دورا ايجابياً بارزاً في الخمسينات من القرن الماضي في توحيد الشعوب لمحاربة الاستعمار تحت شعاري الحياد الايجابي وعدم الانحياز. الا ان المستعمرين ادركوا هذا الخطر وقرروا تحويله لصالحهم عن طريق بث التفرقة بين الاقوام والشعوب. فالخلافات بين الهوتو والتوتسي في راوندة، مثلاً، والتي اوجدها البلجيكيون، ادت الى موت مليون انسان من الطرفين، بينما انهزم مليون آخر منهم الى كونغو فقتلتهم المجاعة.

اقدمت الدول الباقية في حلف بغداد، بعد خروج حكومة عبدالكريم قاسم منه، على تسليح الحزب الكردي لمصطفى البارزاني وجلال الطالباني وطبقة واسعة من الاقطاعيين وبقيادة الجنرال ورهام الايراني، لشن الهجمات من الاراضي الايرانية ضد العراق بغية اضعافه لتسهيل الانقلاب القومي العربي في شباط 1963. ثم اشتدت المعارك العربية – الكردية وادت الى اضعاف العراق وثم احتلاله.

يقوم المستعمرون بتعميق الخلافات القومية وتحويلها الى الحروب المحلية كحركة تيمور الشرقية الانفصالية في اندونيسيا و دافور بالسودان والتبت في الصين والخلاف القائم بين التاجيك والازبك في قرغيزستان، هكذا تنتكس الحركات التحررية لتحل محلها الحركات الانفصالية التي تفتت طاقات الشعوب، الامر الذي يجعل تجنب الاعتماد على النزعات الشوفينية والتطرف القومي من اهم المستلزمات التحررية.

6 – للحصول على اقصى الارباح عملت الشركات على غلق العديد من معاملها في اوروبا وامريكا الشمالية وبناء الجديدة منها في العالم الثالث، حيث الايدي العاملة رخيصة ونقابات العمال ضعيفة بل تابعة للحكومات المحلية. ان هذا التحول ادى الى زيادة البطالة بين سكان البلدان الرأسمالية نفسها مما اجبر العديد على الانتقال الى العالم الثالث بحثاً عن عمل، كما حدث مع مليون من اهالي ديترويد في الولايات المتحدة الذين انتقلوا الى البرازيل والمكسيك. ثم ان الباقين في الغرب اخذوا يقبلون الاجور الواطئة بغية تجنب البطالة، مما يؤكد على ان الشركات لا تميز بين الناس اينما كانوا. فتوحيدهم مستلزم لتكوين قوة جبارة لتحرير البشرية من شر الاضطهاد.

هناك الآن ازمة اقتصادية مزمنة في عموم الغرب فبعد انهيار البنوك والشركات المالية سنة 2008اشرفت دول كاملة كاليونان واسبانيا وارلندة والبرتغال على الانتكاسة. والمعروف ان الرأسمالية تحاول الخروج من ازماتها الدورية عن طريق شن الحروب، الا ان خسارة الغرب في افغانستان وافلاس السياسة الامريكية في العراق وانتعاش الحركة التحررية في فنزويلا وبوليفيا ونيكاراغوا بل وحتى في النيبال ونمو الوعي التحرري في عموم الشرق الاوسط تكبل امكانيات المستعمرين على اشعال الفتن الجديدة . فالظروف الموضوعية عموماً تبشر بنهضة حركات التحرر على شرط التخلص من الخلافات الطائفية والدينية والقومية بغية توحيد كافة الخيريين في العالم. الا ان حركة تحرر الشعوب لا تنجح بمجرد الشعور بضرورة الانعتاق من الاستعمار. هناك الضرورة الملحة لتأسيس ونمو المنظمات والاحزاب الجماهيرية التي تمتاز بالوعي والثقافة العالية والتي تنفذ كل الاعمال الايجابية الممكنة لمحاربة الاستعمار الرأسمالي وقهره. فبدون اغلبية الجماهير الواعية لا يمكن تنفيذ مهمة صعبة كمكافحة الاستعمار الذي يملك كافة الاسلحة الفتاكة لقهر الشعوب.

 

البروفسور كمال مجيد

 

 

في المثقف اليوم