آراء

العملية السياسية في غرفة الانعاش

قبل وبعد الانتخابات لم تهدأ موجة الأدعاءات بوجود مخالفات قانونية وعمليات تزوير، الكثير من تلك المزاعم كان موثقاً والكثير منها أيضاً قد تمت فبركته، وقد شاركت في ترويج المزاعم الموثقة والمفبركة القنوات الفضائية والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي.

تعثر العملية السياسية في العراق بما فيها الانتخابات يعود الى هشاشة مؤسسات الدولة وضعف المجتمع المدني، فالمفوضية والقضاء والبرلمان والاعلام مؤسسات هشة مرتهنة للقوى المتنفذة ولا تمتلك الآليات والمصداقية لاستقصاء وفرز الحقائق، مما يفسح المجال لترويج الاشاعات وفوضى اختلاط الحقيقة بالاكاذيب.

اذا كان جوهر الديمقراطية هو حكم القانون -القانون كنسخة لتطلعات الشعب المعبر عنها بتشريعات يسنها البرلمان الذي يفترض ان يكون من اختياره - فان الاشتراط الرئيسي لنجاح الديمقراطية وجود دولة قوية بمؤسساتها لفرض القانون، بجانب مجتمع مدني متماسك لمراقبة الدولة والبرلمان.

لنبدأ بمؤسسات الدولة ونسأل ما هي مقاييس المؤسسة الفعالة؟.

الشروط التي يضعها فوكوياما للمؤسسة الحديثة هي التخصص والاستقلالية النسبية وامتلاكها خطة عمل تستجيب لحاجات المجتمع في مجال تخصصها، على ان تمتلك خططها ديناميكية التفاعل مع متغيرات المرحلة وتطور تلك الحاجات، وأخيراً سهولة التواصل والتنسيق بين المؤسسات التي تتداخل أنشطتها مع بعضها (المفوضية مع القضاء، الصناعة مع التعليم، الاعمار مع الكهرباء وهكذا).

في ظل الدكتاتورية كانت الطغمة الحاكمة تتمتع بسلطة قوية بجانب دولة ذات مؤسسات هشة، لانتفاء استقلاليتها وافتقادها للخطط الثابتة بسبب التدخلات والتشابك الفوضوي بين المؤسسات، فالقائد الحزبي أو المسؤول السياسي أو العسكري بل حتى اصدقاءهم وأقاربهم يمارسون سلطتهم في التدخل بعمل جميع المؤسسات التربوية والصحية والاعلامية والرياضية وغيرها، لتحقيق مآرب شخصية أو حزبية أو لمجرد ارضاء نزوة سلطوية، وبهذا تمددت مخالب السلطة الى جميع المؤسسات لتلتهم الدولة، فلم يعد بمقدور اي مؤسسة انجاز خططها باستقلالية، بل أصبحت اداة لتنفيذ أوامر ونواهي السياسي المتسلط. لا غرابة اذن أن تصبح الموءسسات أوكارا للفساد والنهب، ويكاد يكون الفساد هو الموروث الوحيد الذي بقي من مؤسسات الدولة بعد تدميرها عقب سقوط الدكتاتورية، كما أن السلطة لم تتوزع أفقياً كما هو معروف في الانظمة الديمقراطيه، بل تركزت بأيدي قوى اوليغاركيه متنفذة. ومن هنا تأتي أهمية المجتمع المدني في الحد من سلطة الحكومة والعمل على اعادة توزيع السلطة والثروة والمعرفة، لتمكين المواطن من الدفاع عن حقوقه السياسية والاقتصادية، والمطالبة بتوزيع عادل للثروة وفرص متساوية للوصول الى المعلومة. المقصود بالمجتمع المدني المؤسسات والمجاميع المنظمة والمستقلة عن الدولة (ولا يمنع أن تكون لها صلات معها أو مع الاحزاب) مثل النقابات المهنية والمنظمات النسوية والجمعيات الخيرية والاعلام المستقل والجامعات ومراكز الابحاث ومنظمات حقوق الانسان..الخ. يمكن لتلك الجماعات القيام بنشاطات هامة لدعم وترسيخ العملية الديقراطية نذكر منها:

اولا: بجانب الدفاع عن حقوق من تمثلهم (العامل، الفلاح، المرأة، المحامي.. الخ) تقوم بمراقبة البرلمان للتأكد من تمثيله لطموحات ناخبيه والتاكد من عدم اساءة الدولة للسلطة ، وفي حالة القصور أو الاساءة تنشط في توعية وتحشيد المواطنين لتفعيل قوة الضغط الشعبي بجميع الوسائل القانونية المتاحة.

ثانياً: القيام بنشاطات وبرامج توعية لنشر ودعم قيم وتقاليد الحياة الديمقراطية وتشذيب القيم المنافية لها كالتقاليد القبلية والتعصب الديني والعرقي.

ثالثاً: فضح قضايا الفساد والمفسدين وتأجيج الرأي العام ضد انتهاكات حقوق الانسان والتجاوز على الحريات العامة، وتفعيل الضغط الشعبي على البرلمان والحكومة لصياغة تشريعات وبرامج وخطط عمل من شأنها ضمان الصحة والتعليم والحد من توسع الفجوة الطبقية وتحقيق الرفاه الاقتصادي لجموع الفقراء، فالحرية لا طعم لها مع الفقر، والخبز بلا حرية ذو مذاق مر.

رابعاً: الضغط باتجاه سن قانون عادل للأنتخابات ومراقبة عملية التصويت وما يتخللها من تجاوزات.

خامساً: القيام بمبادرات ثقافية وفنية لرفع مستوى الوعي المدني.

سادساً: إقامة دورات تدريبية لتأهيل قادة يتمتعون بالكفاءة والنزاهة، ودعمهم للترشح في الانتخابات أو لتولي مناصب تنفيذية.

من الواضح ان المجتمع المدني والدولة في العراق يعانيان من اختلالات بنيوية حادة، مما يجعل طريق تحقيق الديمقراطية شاقاً وطويلا، على اي حال فمسار الديمقراطية في اي بلد يمر عبر بناء تراكمي وصيرورة بطيئة.

بالعودة الى الانتخابات الاخيرة، تشير نسبة المقاطعة والعزوف عن التصويت الى ان العملية السياسية في حالة احتضار، وهي بين ايدي الاصلاحيين الوطنيين في غرفة الانعاش لانقاذها من أمراضها الخطيرة. اذا كان الاصلاحيون يمتلكون الارادة والمصداقية فعليهم اولا العمل على استعادة ثقة الشعب بالعملية السياسية، وذلك بالدفع للقيام باجراءات جذرية وسريعة، وعليها أن تثبت ان فرزاً حقيقياً وصراعاً منتجاً سيبدأ بين تياري الاصلاح الوطني من جهة والقوى المفسدة من جهة اخرى، سيكون الشعب وخاصة الفئات المتضررة جزءاً من هذا الصراع حين تعرض أمامه مجريات العملية السياسية بشفافية تامة كأن تعرض المناقشات والتصويت والمناكفات في جميع جلسات البرلمان والحكومة لمعرفة من يقف مع ماذا وضد ماذا. لاعادة الثقة بالعملية السياسية، يمكن البدء بتعديل رواتب وامتيازات اعضاء البرلمان والمسؤولين ووضع ضوابط وآليات في ابرام العقود لحرمانهم تماماً من القومسيونات والكسب غير المشروع، والعمل بحزم ودون مهادنة في محاسبة المفسدين واستعادة الاموال المنهوبة. لتنفيذ برامج طويلة الامد من اجل انعاش الاقتصاد وتوفير الخدمات يجب اعادة هيكلة الموءسسات وتنظيفها من العناصر الفاسدة والانتهازية واقترح البدء بالقضاء ولجنة النزاهة ولجان العقود وغيرها.

 

قصي الصافي

 

في المثقف اليوم