آراء

"نهاية حرب" و"بداية أزمة" و"الشروع بحرب أخرى"

علي المرهجفي 8/8/1988 تم إعلان وقف إطلاق النهار ونهاية الحرب العراقية الإيرانية، حينما أعلن المُذيع (مُقداد مراد) بيان نهاية الحرب العراقية بالقول "الله أكبر، الله أكبر وليخسئ الخاسئون" وهي عبارة لطالما كررها صدام حُسين في وصف أعدائه.

لقد تغنى ياس خضر بانتصارات صدام الوهمية بأغان عدَة ومنها أغنيته الشهيرة (سيدي شكد أنت رائع سيدي، والوطن والشعب رائع سيدي، بيدك الطيبة الكريمة بيدك الطيبة الكريم داريت المواجع سيدي، سيدي، سيدي إشكد أن رائع سيدي، بالنصر جندي راجع، والسعد للديرة راجع، والهنا لكل بيت راجع، سيدي شكد رائع سيدي، سيدي).

كنت في حينها في الثامنة عشر من العُمر، أتذكر جيداً بعد الضغط الدولي ودعم الغرب وقرار وقف إطلاق النار الذي اتخذه علي خامنئي، وقد قال الخميني "لقد أذعنت لإرادة االله وتجرعت هذه الكأس، وأن قراره لصالح الثورة الإسلامية الإيرانية" أو أنه كأس "أتجرعه كما أتجرع السُم" بالقرار (598) ولم يكن الخُميني قابلاً به، وأن قراره في هذا اليوم إنما هو لأجل الحفاظ على مُنجزات الثورة الإسلامية في إيران، ولكن الحرب أنهكت الطرفين، ولقلة الدعم الذي تتلقاه إيران من جميع الدول، كرد فعل على رفضها لوجود حكومة إسلامية، ومن فرط ما قاسته مُدن إيران من قصف صاروخي طال المدنيين، إضطر النظام الإيراني النظام الإيراني وبضغط دولي للقبول بإيقاف الحرب.

وكُنت أتذكر أن صداماً رغم ما خسره العراق من مال وشباب بمئات الآلاف وأمهات ثكلى وزوجات أرامل، وأولاد يتامى، وأسرى، وجرحى ومُعاقين، إلَا أنه بدى وظهر لنا وكأنه الفارس الهُمام والقائد الذي لا يُقهر، وقد خرجت مئات الآلاف من الناس للشوارع إحتفاءً بالنصر، وركب القائد على صهوة حصانه الأبيض يتمتختر وبيده السيف في ساحة الإحتفالات الكُبرى، وكل الرتب من فريق أو لواء أو عميد حتى أدنى الرتب تتراكض قبل وبعد ويمين ويسار القائد وحُصانه الأبيض.

والشارع فرح بنهاية الحرب، وبعضهم شعر بنشوة النصر، لا سيما وأن البعثيين كانوا يُروجون لهذا الإنتصار المُزيَف، الذي تكبد به كلا الطرفين إيران والعراق خسائر لا تُعد ولا تُحصى، وكان الخاسر الأكبر وفق الأمم المُتحدة هو العراق الذي أظن أنه لا زال يُسدد بعض مديونية الحرب لإيران لأنه هو من بدأ الحرب.

ومع ذلك فقد عمَت الإحتفالات شوارع بغداد وكل شبر في أرض العراق، في الجنوب والوسط وحتى الشمال، لم يكن يرى أو ليس بمقدرته رؤية صدام سوى أنه (بطل تاريخي) لشدة فرحه بنهاية الحرب، أو لخوفه من نظام صدام وبطشه، فكتب الشعراء قصائد المح والثناء للقائد الاستثناء، وتغنى المُغنون بالنصر "والشوارع مدري هي من الفرح تحضن الناس مدري هي الناس من كثر الفرح تملي الشوارع، سيدي، سيدي، سيدي إشكد أنت رائع سيدي) هكذا تغنى ياس خضر.

وبقيَ كثير من الناس في العراق والوطن العربي ينظرون إلى صدام بأنه البطل القومي الذي يُمثل أمل الأمة العربية، وكانت دول الخليج العربي، لا سيما السعودية والكويت هما الدولتان الأكثر دعماً لنظام صدام في حربه مع الكويت مالياً ومعنوياً، وكانت مصر واليمن وفلسطين والأردن، هي الدول الأكثر دعماً له إعلامياً ومعنوياً.

وكان صدام ببزته العسكرية الأنيقة وسيكارته (الجروت) الكوبية، يُرسل بمشهدية (هوليودية) رسائل تحمل في طياتها رمزية أنه القائد الذي لا يُقهر، وهو من له القُدرة على قيادة الأمة العربية وتحقيق مشروع الوحدة العربية.

وكان أغلب القادة العرب يتصاغرون أمامه، ولك مثال لذلك القمة العربية التي عُقدت ببغداد 1990، ولك أن تستعرض بعض المشاهد من ذاكرة (اليوتيوب) لترى بأم عينيك ثقة صدام المُفرطة بنفسه حين استقباله للرؤساء والملوك العرب.

في المُقابل لاحظ مقدار خشية القادة العرب حين ترحيب صدام والخشية البادية على ملامحهم!.

تحدث صدام عن تصدير النفط وخسارات الدول النفطية في حال عدم اتفاقها، وعن فلسطين وتبادل الأسرى بين العراق وإيران، وضرورة العمل الجاد لتحجيم دور إسرائيل في الضغط على الفلسطينيين، وتأكيد أهمية الدور العربي في توحيد اليمنين: الجنوبي والشمالي.

في عام 1989 خرج لنا صدام ونظامه بقصة (بازوفت) الصحفي الذي يعمل بصحيفة (الأوبزيرفر) البريطاني الجنسية ذو الأصل الإيراني، الذي أعدم بتهمة التجسس لصالح نظام إيران، ولم تثبت تُهمة التجسس عليه، ولكنه حُكم عليه بالإعدام عام 1990، بعد تعذيب شديد، من دون وجود أدلة حاسمة، ومن دون استئناف للحُكم، رغم المُناشدات الدولية للصدام ونظامه.

لقد أثارت قضية بازوفت غضب بريطانيا والدول الغربية، واستدعت بريطانيا سفيرها، وظل العراق يُعاني أزمة حادة اقتصادية وسياسية، ولم تمر مدة طويلة حتى تفاجئ العراقيون والكويتيون والعلم بين ليلة وضُحاها، بخبر غزو وإحتلال الجيش العراقي للكويت و (بليلة ظلمة) حتى كبار قادة القادة العسكريين لم يعلموا بالأمر سوى القريبين منه، دخل صدام وحرسه الخاص والحرس الجمهوري وبعض صنوف الجيش الكويت، ففرَ من فرَ من الكويتيين منهم، وبعض من الأمراء قُتلوا، ولكن صدام بجبوته المُعتاد أعلن أن الكويت هي المُحافظة التاسعة عشر، وقد عاد الحق لأصحابه، لأن الكويت تاريخياً هي من ضمن الأراضي العراقية!.

(وينهم وين أخوتي وينهم، هذا العراقي الماغفت عينه ولانام ننتخي بيك أخوال وأعمام، وينهم، وينهم، وين أخوتي وينهم)، وكان كُتاب الأغنية ومُلحنيها ومغنوها جُلهم من أبناء الجنوب ممن هم من أصول شيعية!.

ولكن شيعة العراق يُثبتون ولاءهم للعراق، بالتضحية بالنفس وفي التعبير على قاعدة (القلم والبُندقية فُوهة واحدة)، ولكن كل تضحياتهم هذه وكلماتهم وألحانهم وتغنيهم بانتصارات (القائد الضرورة) لم تُجد نفعاً ولم يُحسن بهم الظن قادة الصُدفة من (التكارتة)، فظل كثير منهم ممن هم من المُبدعين يرومون وصلاً بليلى، ولكن ليلى لا تُحسن الظن بصدق محبة قيس لها!.

وقد أجادت فرقة الإنشاد العراقية في ولائها لنظام الحُكم بأناشيد عدة منها (وجهة الشمس جهتي، وغدا الشمس ملعبي، وأنا الموت لُعبتي)، (وجيشك يخو هدلة الفاز بيها وخيط وهاي كاعك هاي كاعك من يجيها...ها خوتي، كل الصوج منهم ومن إيديهم، يهل الهنمة والزود دك دك دكوهم ردود، جيش صدام والله إشسوى بيهم)، و (إحنا مشينا مشينا للحرب، عاشك يدافع من أجل محبوبته، هذا العراقي العراقي من يحب يفنى ولا عاشك يمس محبوبته، إحنه مشينا للحرب)، (إو دكي يالراجمة، خلي تضوي السمه، هذا يوم الحساب، خليهم بالتراب، تراى هاي الحاسمه...,إحنه أهل الغانمه)، وتتبعها أنشودة بإيقاع لحني حربي من طراز مُميز يستفز مُخيلتك التاريخية أرثك الثوري باستهلال هو بقية من إرث حرب المُسلمين مع أعدائهم بإيقاع يُثير بك الحمية المُستمد من واقعة الطف وإيثار الإمام العباس وأخوته لتبتدأ بمُستهل من مأثور حرب المُسلمين (الله أكبر، الله أكبر،) بإيقاع تغمي ثوري مُشبع بروح التضحية والإيثار (ها، ها، ها، ها، هها، الله، ها، ها هها ها... لا لا لا لا والله والعباس ، وتكرر الجملة، توكع زلم فوك الزلم لم يشيب الراس هاي الكاع ما تنداس).

وإن شد الجرغد بزنود ابن الجنوب وزاد الهمة وعلى المدفع يرفع راية وبالجبهة إيزيد دماية، وليصدق القول في صد من يروم تهديد أمن البلاد، وإلليوصل حدنه نذمه، وإن زاد الوصية كما توصيه أمه (يوليدي زيد الهمه يُمه، يُمه)، (والبعث فوك كحيلة للأمة يفدي دمه)، كما تغنى فاضل عواد بفضائل البعث، فذلك لا يُبرئه من ولا يُحسن الظن به قادة البعث من (التكارته) من أبناء العوجة الذين إعوجت أخلاقهم من فرط ما كسبوا ونهبوا من مال العراق وأثروا، فتصورا أنهم سادوا، ولن يسيد غيرهم، ولكن خاب ظنهم وفسدت حساباتهم.

ولكن بغداد ستبقى منصورة، وسيلهج أبناء العروبة بأهزوجة (منصورة يا بغداد) و (تظلي ديماً فوك يا بغاد، ونشوفك بعز دوم، منصورة يا بغداد).

ولن نظل نعيش عقاب أفعال غباء صدام وطُغمته الاسدة، التي جعلت من صدم أخطبوطاً يروم خطف عوالم تفرع أقطار الوطن العربي ليلمه تحت مظلة حُكه الديكتاتوري، ولفرط ما فيه من غرور فقد ظن أن الكويت لُقمةً سائغة يلتهمها متى شاء، فقد غص بها فما قدر أن يستعيد حياته وفقد جبروته.

لقد ظن صدام أن الكويت أرض مُستقطعة من أرض العراق، أو هكذا أراد، لما فيها من خير من الإنتاج النفطي ما يسد بعض أو كثير من حاجات العراق بعد إنتهائه من حرب ضروس، فقد سعى لضم الكويت، ولكنه لم يحسب لتحالفات أمرائها مع الغرب، وحاجة السوق الغربية لدولة مثل الكويت تستنجد بها وفق إتفاقايات عقدتها دولة الكويت لا سيما مع بريطانيا، ولأن الكويت وحُكامها يُحسنون التوقع ويحسبون لما هو آت، ولأنهم مُتحالفون مع دلة عُظمى هي بريطانيا، ولامريكا مصالح كبيرة في الكويت، فقد صار ما صار، مما أنا وأنتم نعلم به، فقد صار جيشنا (طشار) وتاه من أجاد الهروب في فيافي الصحراء، وقد كانت المملكة العربية السعودية خير حليف للكويت، وهي بما ما تمتلك من تأثير بفضل قوة رأسمالها، والكويت بما يمتلك من مصداقية مع بريطانيا وأمريكا في خدمته لمصالحهما، وهي مصلحة مُتبادلة، فكان للحُلفاء دورهم في حسم المعركة، فيما سُميت (عاصفة الصحراء)، وهي حرب سهلة بالنسبة للحُلفاء، ولكنها صعبة وعسيرة على الجيش العراقي، لا في العدد، بل في العدة، وفي مقدار التقدم والتطور في التقنية عند الدول الغربية لا سيما في إصرارنا على إحتلال الكويت واتخاذنا لقرار الحرب، ولم نحسب لما يدور في أروقة وكواليس الدول الكُبرى لا سيما أمريكا وبريطانيا، ولشدة غباء نظام صدام وجبروته وعُنجهيته وظنه بأن دولاً عُظمى مثل هاتين الدولتين ستستجيبان لطموحاته في التوسع، فقد أفرط في غبائه، ظناً منه أنه حين يُعلن عن استعداده للتعامل معهما وتقديم ما يورومان من تسهيلات، سينال رضاهما، ولكنه من شدة حماقته، لم يُعط لنفسه بُرهة من الحُلم، كي يعرف ويعي أن أمريكا وبريطانيا لا تُفرطان بحليف ضعيف مثل الكويت، يملأ الطُرق لهما بالورود بديلاً عن الرمل. ولأن مثلهما لا يثقان ببدوي مُتعجرف مثل صدام، لو ملئ سلالهما ذهباً، فلا لبدوي بحُكم طبيته ثقة بمن يُعلن لهم الولاء، لا لغربي بحُكم معرفته بطبيعة أخلاق بدوي مثل صدام أن يثق بمثل هكذا شخص مُتقلب وفيه (شيزوفرينيا) وإنفصام يتناسى فيه بلحظة أعانوه في حربه مع إيران.

لا يُمكن لأناس عُقلاء تمرسوا في السياسة وتعلموا علموا الدنيا التفلسف في العصر الحديث أن يثقوا بشخص من أمثال صدام، شاخص مغرور ومُتعجرف، لا يرى سوى نفسه!.

وإن كان للعراق بعض من حق في رفضه للسياسة الكويتية ما بعد نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية، سواء في سياسة الكويت المائية، أو في سياسته النفطية، وسعيها لتخفيض أسعار النفط، ولكن كان ينبغي على صدام التعقل وعدم الإنجرار وراء توقعات مُستشاريه لسياسة الغرب في السكوت في حال إحتلاله للكويت، لأن ما في الكويت من إحتياط نفطي كفيل لوحده في دفاع حُلفائها عنها.

فلم يكن قرار الحرب مع إيران مدروساً، ولم تكن نهايتها رغم ما أظهره إعلام نظام صدام بأنه إنتصار، لأننا ما زلنا نُعاني وطأته وتأثيره في نفواسنا وتأثيره في وعيا النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

وكذا الحال في حربنا مع الكويت، فلم يكن قرار قيادة أركان حرب، إنما هو قرار قائد ديكتاتور، لا قيمة عنده ىلمُستاشرين في لاالسياسة الاقتصادية والاجتماعية الحربية.

فهو (القائد) من يُعلن بداية الحرب، وهو من يبحث عن حلول لإنهائها ساعة قوة المواجهة عند من استهان بقوته من الأعداء، وهو من يصنع الأزمة في حال إنتهاء الحرب، ومن يسعى لإشعل الخرب، في حال تعذر وجود أزمة.

نحن أبناء القادة، أو أن القادة ممن عاشوا حياة (القوًادة) يتحكمون بنا.

يبدأون بإعلان حرب ليُظهروا قوة لهم مُستعارة، وحينما لا يكسبون بحرب إصطنعوها يخلقون أزمات داخلية أو خارجية، كي يُشغلوا الشعب عن فسادهم، وإن لم ينجحوا سيبحثون عن حرب أخرى..

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم