آراء

العراق: نظرة الى المستقبل القريب.. إلى ماذا يشير مجيء برهم صالح وعادل عبدالمهدي؟.. قراءة مختلفة

عبد الجبار عيسىقبل كل شيء، هذه قراءة قد تخطيء وقد تصيب، وقد لا يشاركني فيها معظم المحللين. ذلك لأن أغلب القراءات بشأن مستقبل العراق أما متشائمة أوهي استفهامية تحاول أن تضع أسئلة وتجيب عنها وفق عوامل داخلية بحتة تتعلق بديناميكيات التنافس في داخل الطبقة السياسية. أما هذه القراءة فإن كاتبها يزعم إنها الأقرب الى الواقع وتفترض إن الحالة في العراق ستشهد تبدلا إدارة السياسة يستند الى متغيرات الصراع في الشرق الأوسط والتي تميل برأي الكاتب الى الانتقال التدريجي من حالة الصراع الى حالة التناغم.

 بادئاً، لابد أن نضع الفرضيات العامة التالية: إن العراق حلقة من الحلقات الصراعية في الشرق الأوسط، وإن أي تغيير في أوضاعه الحالية لا يمكن أن يحدث بفعل عراقي من دون أن يكون للخارج، المتصارع أو المتعاون، دور فيه، بمعنى، إن منطقة الشرق الأوسط ، رغم كل حالة الشد والخطورة بين المتصارعين، في طريقه الى حلحلة تقود الى تسوية يتحول فيها الوضع من حالة الصراع إلى حالة التناغم، وإن العراق، طبقا لذلك، سيكون مشمولا بهذا التحول نظرا لكونه عقدة، أو لعله العقدة الأهم، في إدارة التحولات القادمة. ويبدو إن هذا التحول سوف لا يكون للأيديولوجيات والجماعات الحزبية او العصبوية أو المسلحة دور فيه، إنما الدور الأول سيكون لمن يتوائم مع حالة الحلحلة تلك أو التسوية الدولية الجديدة التي ستشمل كامل منطقة الشرق الأوسط ، والتي سينجم عنها عمليات لإعادة البناء من خلال إعادة استثمار، بدل استعمار، المنطقة من قبل الرأسمال الدولي بعد سنوات من تدجين الشعوب والأنظمة عن طريق الحروب، وبعد أن مهدت له الطريق (بلدوزرات) الاحتلال والإرهاب الاستبداد والطائفية. ولذلك فإنه ومع الاشتداد (الظاهري) للأزمة بين الأطراف الدولية والإقليمية واقترابها من نقطة الذروة والانفجار فإن الحلول أيضا تقترب معها للانتقال من الحالة الصراعية الى الحالة التناغمية التي ستتبعها (التعاونية) وذلك من خلال سلسلة من التفاهمات المباشرة وغير المباشرة بين تلك الإطراف، فالمعادلة الصفرية أو الوجودية (أما نحن وأما هم) بين المتصارعين لم تعد ممكنة او هي غير ممكنة أصلا في منطق وتاريخ العلاقات الدولية. أما ما هو سبب هذه النظرة (المتفائلة ) كما قد يراها البعض، فهي لسبب بسيط هو: إن الصراع إذا استمر بهذا الشكل التصاعدي بين الإيرانيين ومحورهم من جهة ، والأمريكان ومحورهم من جهة أخرى مع وجود الروس والأتراك، فإن حربا عالمية لابد أن تحصل، والعراق سيكون بالطبع أحد ساحاتها، وهذه الحرب لا يريد الغرب، والأمريكان منهم على وجه الخصوص، حصولها لأنها ستدمر الجميع وأولهم إسرائيل.

 وبصرف النظر عن نظرية المؤامرة التي تحمل أحيانا صدقية كبيرة، فإن الأطراف المتصارعة الكبرى لابد أن تكون وضعت بدائل للصراع أو على الأقل بدائل للصدام، فالواقع إن نظرية الحروب بالنيابة أو اللاعبين الكبار واللاعبين الصغار قد تعرضت للانكشاف في ظل الحضور الكامل للأطراف الصغيرة والكبيرة، اللاعبون الكبار واللاعبون الصغار في مساحة جغرافية ضيقة وجها لوجه. ولعل من مصاديق ذلك هو ان هناك مظاهر عدة تشير الى انحسار للصراع على الأراضي السورية، وسحب أمريكا لمنظومات صواريخ الباتريوت من الكويت والبحرين واستعدادها لأنهاء قواعدها في منطقة التنف في سوريا فضلا عن سحب دول أطلسية لمشاركاتها في الجهد الدولي للحلفاء بعد تحقيق النصر على داعش.

 وهذا ما يتطلب من جميع الأطراف البدء بعملية اقتراب سلمي مباشر أو غير مباشر. هذا الأمر ستستغله مراكز القرار الدولية (التنظيمات الرأسمالية الكبرى، الدول العميقة) وذلك من خلال استثمار نتاج ما وصل اليه الصراع والبدء بعملية استغلاله بدءا بــ (سياسات إعادة الأعمار، الاستثمارات الدولية الكبرى، ربط المنطقة بالرأسمال الدولي ..الخ) فيما ستسعى الأطراف الأخرى (روسيا ، الصين) وبدرجة مهمة أيضا (إيران وتركيا) الى عملية (تثبيت الأقدام) إقتصاديا في المنطقة بعد أن قامت (روسيا وإيران) بتثبيتها عسكريا. أما متى يحين ذلك، فإنه نتيجة للمعطيات السابقة نجد إن حالة التحول من الصراع باتت قريبة.

 لنركز هنا على العراق، فهو حلقة من حلقات الشرق الأوسط المستهدفة في السياسات الدولية الجديدة.

لا أحد ينكر إن العراق منذ 2003 كان منطقة للإسقاطات التنافسية الجيوسياسية والجيوستراتيجية بين الخندق الامريكي والخندق الإيراني. لكن هذا التخندق الصراعي لابد ان يجد طريقا للحل كما نوهنا آنفا. إذن ما هو المطلوب للعراق وفق المنطق القادم؟

 المطلوب هو أمران أساسيان :

1- رجال دولة لهم خبرة سياسية ومهنية وعلاقات دولية، وبالذات مع المؤسسات الاقتصادية والمالية لان العمل القادم سيكون مع تلك المؤسسات بصورة واسعة.

2- المطلوب للمرحلة القادمة مسئولين تكنوقراط ليست لديهم ارتباطات أيديولوجية عالية تؤثر في عملهم الذي سيكون متركزا على القيام بالإصلاحات الداخلية أولاً و من ثم إجراء التسهيلات اللازمة لربط العراق باستثمارات دولية كبرى وإعادة إعماره، وما يأتي في سياق ذلك من التنسيق مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى.

 قد يتساءل من ينظر في هذه القراءة : وكيف يمكن أن يكون ذلك في ظل حالة التدهور والفساد وانتشار السلاح خارج سلطة الدولة؟

ولللأجابة على هذا التساؤل نقول طالما إن الأطراف الإقليمية والدولية ستتوافق على حالة التماهي مع الوضع الجديد ، فإن تأثير الأحزاب والتيارات والجماعات المسلحة سوف يضعف الى حد كبير حيث سيتم احتوائها ضمن العملية السياسية التمثيلية والتي من المحتمل أن يضعف دورها هي الأخرى، طالما يضعف الدعم الخارجي لها وطالما إن نظام المحاصصة قد بدأ بالتحول من المحاصصة الطائفية والعرقية الى المحاصصة السياسية الذي أفرزته انتخابات 2018 الأخيرة. أما بالنسبة لعملية الفساد فطالما إن التحول القادم يفترض المطلبان الاثنان السابقان وما يتبعهما من إقامة استثمارات أجنبية وفق رقابة دولية فإن فرص الفساد سوف تضعف كثيرا، فليس هنالك أموال سائبة يتم الاستيلاء عليها من اللجان الاقتصادية للأحزاب ولا مقاولات ثانوية تمنح لمقاولين محليين. وبالتالي فإن من المتوقع إن تكون السلطة التنفيذية (الرئيس ومجلس الوزراء) هي صاحبة اليد الطولى لاسيما في القرارات المهمة ذات البعد الدولي مع وجود برلمان لا يمتلك معظم أفراده اي خبرة مهنية او دولية بهذا الخصوص. بل لعل (أخطر) ما في الموضوع هو إمكانية اتفاقهما على إقالة البرلمان وهذا ما يبيحه الدستور لهما.

وعلى هذا الأساس يبدو إن مجيء السيدان برهم صالح كرئيس للجمهورية، وعادل عبدالمهدي كرئيس للوزراء امرا مبررا قد جرى التوافق عليه خارجيا ثم داخليا. لنحاول هنا تفكيك قضية التأثير الخارجي بهذا الخصوص فنقول؛ ليس من الضروري أن يكون ترشيح مسئول عراقي ما بصورة مباشرة من قبل طرف خارجي، بل قد يكون بصورة غير مباشرة عن طريق أطراف حزبية عراقية. ولكن في الغالب يتوافق الأمريكان والإيرانيون على شخصية رئيس الوزراء، وهذا ما تم الاعتراف به من قبل معظم الأطراف لاسيما في انتخابات 2010، لكن ما يلاحظ إنه ومنذ 2014 بدا للمرجعية الدينية في النجف دور مؤثر بهذا الخصوص ولاسيما بعد الانتخابات الأخيرة في 2018 معتمدة على التذمر الشعبي من أداء الحكومة والذي بدا مؤثرا في إزاحة العبادي وحتى حزب الدعوة الذي هيمن على رئاسة الوزراء لدورات عدة. مع ذلك يبقى التأثير الدولي هو العامل الحاسم في الاختيار الذي شمل هذه المرة منصب رئيس الجمهورية وليس منصب رئيس الوزراء فقط، ولعل في طريقة ترشيح السيد برهم صالح من قبل الحزب الديمقراطي الكردستاني وبصورة مفاجئة وسريعة بعد أن انشق عنه،  والتحركات البريطانية والأمريكية والإيرانية بهذا الخصوص واستقتال حزب البارزاني بالمقابل على ذات المنصب ما يثبت إن منصب الرئيس هذه المرة غير منصب الرئيس في السابق. السبب في رأينا كما نوهنا سابقا هو إن الوضع الدستوري لرئيس الجمهورية في العراق هو ليس كما يشاع بأنه منصب تشريفي، على العكس من ذلك ، فرئيس الجمهورية وفقا للمادة 64 تكون له كلمة الفصل في حل البرلمان بعد أن يقدم له رئيس الوزراء مقترحا بذلك. وقد كان هذا الأمر شبه مستحيل في الدورات السابقة بسبب المحاصصة والتوافقية التي تجلب رئيسا كرديا مكبلا بقيود التحالف الكردستاني وتوافقاته. أما الآن فالسيد برهم صالح في حل من هذا التكبيل. فالرئيس هذه المرة باركته التوافقات الدولية- الإقليمية (بأيد طالبانية) سيكون شبه حر تجاه الضغوط الداخلية فضلا عن الرضا الشعبي الذي كسبه في مناطق الوسط والجنوب قبل كردستان. يقابله الشيء ذاته بالنسبة لترشيح السيد عبدالمهدي، فهو قد حظي بتوافقات إيرانية أمريكية بريطانية ، مع رضا شعبي و(مرجعي) كان له دور محوري في عملية الاختيار فضلا عن الرضا السياسي من جانب الطبقة السياسية رغم عدم رضا البعض المتمسك بالمحاصصة وإن لم يبد ذلك في العلن وهذا ماسيجعله يتصرف بنوع من الاستقلالية تجاه الضغوط لاسيما انه حاليا سياسي مستقل. وعلى العموم ،  كلا الشخصين مستقلين نسبيا، وكلاهما عملا معا في السابق ويحملان خبرة التكنوقراط والسياسة، فضلا عن الخبرة التي اكتسباها في التعامل مع المؤسسات الدولية.

والآن ماهي الفرص الحقيقية التي يمكن للعراق في ظل إدارة السيد عبدالمهدي وبرهم صالح أن يستثمرها ؟

فيما عدا الفرضيات السياسية والأمنية التي سقناها في البدء فإنه فيما يتعلق بالحالة الجديدة في الشرق الأوسط، هناك العشرات من الأدلة قريبة من العراق ، لا نريد الخوض في تفاصيلها هنا، توحي بأن العراق سيكون قناة رابطة لعقد اقتصادية مهمة فضلا عن كون العراق سيشكل إحدى هذه العقد الاقتصادية كما أسلفنا ، لكننا نسوق هنا بعض الأدلة : الاستثمار الصيني في الكويت في جزيرتي فيلكة والذي يقدر بنحو 450 مليار دولار الذي يشكل جزءا من مايسمى بــ (حزام طريق الحرير الأقتصادي)، ومشروع نيوم في شمال غرب السعودية بقيمة 500 مليار دولا.. والواقع ان العراق في المدى القريب ينتظر ربطه بذلك الحزام الاقتصادي الذي سيلف المنطقة. بالطبع سينعكس ذلك إيجابيا على الوضع العراقي الداخلي رغم عدم رضا بعض الدول الأقليمية. وبالتالي فإنه من المتوقع مع وجود هذه البيئة الاستثمارية ومع مجيء فريق تكنوقراط من مستوى عالي مع السيد عبدالمهدي بدعم من رئيس الجمهورية برهم صالح والبدء بإصلاحات اقتصادية وسياسية وذلك من أجل أن يكون العراق مهيئا للدخول في البيئة الاقتصادية الدولية فإن استثمارا كبيرا يمكن أن يحصل في العراق، في أضعف الأحوال يكون جزءا من الحزام الاقتصادي أو تطبق فيه استثمارات المدن الذكية، وبذلك سيتمكن العراق من إجراء قفزة حيوية تؤثر في مستواه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. بالطبع لا توجد عصا سحرية ولا زر ألكتروني يختصر الزمن بل هنالك بداية للتحول، فمهمة السيد عبدالمهدي ومعه السيد صالح سوف لاتكون مهمة سهلة بل عسيرة ولكنها قد تسهل بفعل العامل الدولي من الخارج و الرضا الشعبي من الداخل الذي سوف يسند الحكومة مع رؤيته لأي حالة إيجابية وربما أيضا رضوخ الكتل السياسية للوضع الجديد. بالنتيجة هناك توافق دولي إقليمي أو لنقل، إيراني - أمريكي، على إدارة الدولة العراقية الجديدة، وهذا التوافق هو غير التوافقات السابقة لأنه يأتي وفق مقدمات لحلحلة وتسوية الصراع في الشرق الأوسط والذي ربما سيشكل العراق فيه العقدة الأهم في إعادة بناء المنطقة واستثمارها دوليا ما سينعكس عليه إيجابيا.

 

أ.د. عبد الجبار عيسى عبدالعال السعيدي

أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية

 

في المثقف اليوم