آراء

الربيع العربي المشئوم

محمد العباسيربما كانت المطالبة بالحريات من أهم نداءات الربيع العربي المشئوم.. وقد شهدنا كيف أن هذا الربيع لم ينتج لنا الزهور والجمال ولم يتركنا نسعد ونهنأ طويلاً بعد قلب بعض تلك الأنظمة المستبدة التي طال ادعائها كذباً بأنها جمهوريات ديموقراطية.. وظل يحكمها الحاكم الأوحد بعد إجراء الانتخابات الصورية وتكرار فوز نفس القائد لعقود متوالية يتحكم فيها الوالي على الجيش ليصبح جيشه وحرسه.. ويتحكم في خيرات الوطن ليصبح كل شيء عائد له ولحاشيته من المرتزقة.. حتى عم الفساد كل ركن وطال حتى رجال القضاء ورجال الدين.. وانتقلنا بعد هذا "الربيع المغشوش" مباشرة إلى خريف متواصل وجفاف وصراعات داخلية كما هو الحال اليوم في ليبيا واليمن والعراق.. وكذلك مصر (بدرجة أرحم).. أما سوريا فقد تحولت إلى أرض محروقة تكاد تكون بؤرة لاندلاع حرب عالمية ثالثة بسبب الخلافات الداخلية والتدخلات الخارجية والمناوشات الداعشية والمجازر الوحشية وحركات النزوح والهجرة واللجوء نحو أوروبا!!

أما الحرية والديمقراطية التي أشعلنا بسببها الثورات فلم نجني من ورائها غير الخراب.. فأمريكا وبعض مؤسساتها التي كانت تقف خلف أغلب هذه المؤامرات فقد كشفت عن جهلها العارم بالتكوين القبلي والطائفي لمجتمعاتنا.. فأمريكا تعتقد بغباء أن العيش الكريم يأتي مع حرية الانتخابات (فقط).. تؤمن بأن الديمقراطية التي تناسبها هي ستنتج لنا رغد الحياة، ونجحت في إقناع البعض في ذلك.. وعملت بعض المنظمات المشبوهة في إعداد بعض الكوادر المستعدة (ربما بحسن نية) في قلب حكوماتها أملاً في تلك الحياة الكريمة الموعودة.. وكلنا نعلم أن تاريخ أمريكا يفضح كم النفاق لدى ساستهم فيما يدّعون.. فكم من دكتاتوريات بائدة كانت أمريكا تدعمها وتساندها فقط لأن مصالحها كانت تلتقي معها ولم تشغل أمريكا نفسها قط بالشعوب المضطهدة.. ولكم عبر التاريخ أمثلة عديدة.. ففي كوبا مثلاً أيام "ماتشادو" ثم "باتيستا" قبل ثورة "فيديل كاسترو" حيث كانت "هافانا" قد تحولت إلى "لاس فيغاس" لأثرياء العالم بينما كان الشعب الكوبي يعيش في فقر مدقع.. رغم أن "باراك أوباما" قام نحو نهاية فترته الرئاسية بزيارة "كوبا" بعد نحو نصف قرن من العداء والمقاطعة وبعد أكثر من ثمانين سنة منذ زيارة آخر رئيس أمريكي لها.. وكلنا نعلم بمدى النفاق السياسي عند ساسة أمريكا.. فقد كانت لأمريكا مصالح تدعمها في "تشيلي" أيام الدكتاتور "بينوتشيه" ولذا لم تشجع قط على إصلاح وضعها.. ثم كلنا نعي مواقفها المتعاكسة في "نيكاراغوا" و"السلفادور" حيث كانت تدعم الحكومات ضد الثوار أو الثوار ضد الحكومات حسب مصالحها وليس دفاعاً عن الحريات.. وهكذا كانت أمريكا ومخابراتها تلعب بأمم أمريكا الوسطى والجنوبية بشكل عام.. ولا يخفى عليكم مشاكلها مع "فنزويلا" حتى اليوم وخلافاتها مع "البرازيل" رغم أنهما تمارسان الانتخابات الديمقراطية!!

وهنالك حالات عديدة عبر التاريخ لوقوف أمريكا مع حكومات غير ديمقراطية حول العالم،  منها على سبيل المثال وليس الحصر حكومة "نوغوما" في غينيا الاستوائية.. "ادريس ديباي" في التشاد.. "مانويل نورييغا" في بنما.. "اسلام كاريموف" في أوزبكستان.. "فرديناند ماركوس" في الفلبين.. "موبوتو سيسي سيكو" في زائير.. وطبعا الشاه "محمد رضا بهلوي " إمبراطور الدولة الفارسية.. وقد يضيف البعض أسماء حكام من الجمهوريات العربية مثل "صدام حسين " ومعمر القذافي " و"حسني مبارك" رغم أننا نميل لأخذ هذه الاتهامات ببعض الحساسية أحياناً !!

أما في أفغانستان مثلاً فقد عمدت أمريكا على دعم حركة "طالبان" ضد نظام الحكم الاشتراكي أيام حكم "نجيب الرحمن" رغم أنها كانت حكومة تدعم التعليم وحرية المرأة.. فقط لأنها كانت مدعومة من السوفيت أيام الحرب الباردة.. أما في إيران فتآمرت المخابرات الأمريكية في 1953 على حكم "محمد مصدق" الذي انقلب على الشاه وقام بتأميم صناعة النفط.. وتم إرجاع الشاه للسلطة بالقوة.. وفي "تشيلي" توعد "نيكسون" في 1970 أن يدمر اقتصادها عندما تولى الحكم "سيلفادور إليندي" بعد عزل الديكتاتور "بينوتشيه" المسنود أمريكياً.. ومثل هذه الأمثلة كثيرة عبر التاريخ وكلها تؤكد أن المصالح الأمريكية الملطخة بالدماء هي التي تقرر من هو الظالم ومن المظلوم !!

ولنا جميعاً خير دليل على كل هذا في عقر ديارنا.. فمأساة "فلسطين" ليست ببعيدة عن عواطفنا.. وكلنا نعلم كيف تساند أمريكا ومن خلفها بعض دول العالم الغربي حكومات إسرائيل المتوالية فقط بعذر أنها دولة ديمقراطية بحكم أنها تجري فيها الانتخابات.. وكلهم ومن خلفهم مجلس الأمن وجمعية الأمم المتحدة يغضون الطرف عن كل المظالم الواقعة على شعب بأكمله لا يزال يعيش مأساة تمتد لأكثر من سبعين عاماً من الحرمان والتنكيل.. أين مواقف هذه الدول وبالذات الولايات المتحدة من نداءاتهم بحقوق الإنسان والدفاع عن الديمقراطيات والحريات والعدل والحق؟.. فهل مجرد ممارسة الانتخابات الرئاسية في إسرائيل يجعلها دولة صالحة؟  هل مصالح وغايات أمريكا (المتحكمة في الأمم المتحدة والعالم) هي المعيار لمن يجب أن يموت ومن له الحق في الحياة؟  ثم يتعجب الأمريكان بكل خبث وربما "غباء" عن سبب كراهية الشعوب المضطهدة لهم ولسياساتهم الرعناء!!

و هكذا خططت الولايات المتحدة وشجعت وساندت بشكل مباشر وغير مباشر في عهد أول رئيس لها يندرج من أصل أفريقي وإبن لأب مسلم ويحمل اسماً يحمل لمحات عربية إسلامية بتدمير العالم العربي دون دراسية وافية لتبعات الأمور، ودون وجود خطط لإنقاذ شعوب المنطقة من ويلات الصراعات الداخلية.. فبينما حاز "باراك أوباما" في أول عهده بجائزة نوبل للسلام إثر خطبته العصماء في القاهرة عن السلام والقضية الفلسطينية، فشل بعدها في أن يخطو خطوة واحدة نحو كل ما وعد به.. بل أجهز علينا جميعنا دفعة واحدة مكملاً مجازر من سبقوه في تدمير العراق وأفغانستان، ولكن هذه المرة عبر مسمى لطيف وجميل وواعد هو "الربيع".

قد يجادل البعض، وقد أتفق معهم في جوانب ما، بأن العالم العربي كان يعاني من زعماء طال ظلمهم لشعوبهم، وكان لزاماً أن تتم الإطاحة بهم.. لكن المصيبة تجلت لنا حينها أننا لسنا بعد مؤهلين لتحمل تبعات هذه الانقلابات.. لا خبرة لدينا ولا بدائل مؤهلة لقيادة الشعوب بعد عهود من العيش دون الشعوب المتمدنة.. بعد عقود من الخضوع للزعيم الواحد والحزب الأوحد والخنوع والرضوخ للظلم الواقع.. فحتى تنظيم الإخوان كان يبدو واعداً لوهلة بسبب عدد أعضائه وسنوات حراكه السياسي وكثرة مؤلفاتهم في الشئون السياسية.. وحتى هؤلاء خيبوا الرجاء وأظهروا جهلاً في الإدارة السليمة وفشلوا فشلاً ذريعاً في مواكبة العصر.. فتوجهاتهم وتصرفاتهم كشفت عن عمق الفجوة بين أفكار القرن الماضي وضرورات قيادة الدول في القرن الواحد والعشرين.

أما في العراق بعد إعدام الرئيس السابق "صدام حسين" فقد وقع الوطن بين براثن زعماء من الميليشيات والمعارضين والمنبوذين والمشردين.. وأثبتت الأيام بأنهم يفتقرون لمقومات القيادة والمصداقية والحكم بالعدل وحُسن النوايا.. فجلهم من المقهورين والمضطهدين ممن تعكس سياساتهم روح الانتقام من كل من كان في صف النظام السابق.. وفي ليبيا، فقست علينا جماعات وزعامات قبلية وكل واحد منهم يقول "أنا ومن بعدي الطوفان".. وفي سوريا، تحرك الأكراد من جهة والإسلاميون من جهة والمعارضون من أفراد النظام البعثي "اللاديني" من جهة مما دفع "بشار الأسد" باللجوء إلى إرثه الطائفي واستجداء العون من لدن "ولي الفقيه" لإنقاذه من السقوط، والكل يعلم بأن الثورة السورية لم تكن طائفية في الأساس.

أما في اليمن، فالوضع متداخل وشائك.. وربما كانت لأطماع الرئيس السابق "على عبدالله صالح" في العودة للحكم أثره الواضح في تفاقم الأمور لصالح الحوثيين.. لينتهي أمره بخيانته الأولى للوطن حيث سلّم الحوثيين كافة أسلحته ومعسكراته وقواته، ومن ثم خيانته للحوثيين حين خرجت الأمور عن سيطرته وبات وضعه هامشياً.. وأخيراً بخيانة الحوثيين له وتصفيته هو ومن معه والتمثيل بجثته.. هكذا هي نتائج سنوات الحكم الجائر والاستبداد الدكتاتوري الذي ساد بعض دول وطننا العربي مما خلق شعوباً مظلومة ومقهورة وتفتقر إلى الفقه السياسي وممارسة الديمقراطية ولا خبرة لها بأبجدية القيادة السليمة للدولة الحديثة.. حتى بات عدد الراغبين في السلطة يفوق عدد المواطنين.. الكل طامع في المُلك ليمتلك خيرات الوطن له وحده ومن بعده أحفاده.. فهكذا كنا نرى زعمائنا وقادتنا وملوكنا.. يمتلكون الأرض بما فيها وبمن عليها.. السلطان الواحد الأوحد المفرد يعيش ربيعاً دائما.. والشعب من خريف مشئوم إلى خريف بائس !!  وانقلبت المطالبات بالحريات إلى المطالبة بالرغيف والدواء.. بالنوم في هناء والصحو بعد النوم أحياء.. ببعض الصدق في نشرات الأنباء.. بأي شيء مفيد يبث فينا بعض التفاؤل  بعد هذا الشقاء !

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم