آراء

حرية القرار الانتخابي

محمد العباسيلقد كتبت ونشرت عدة مقالات حول مفهوم الحرية على هذا المنبر الإعلامي المتميز.. "حرية اكتساب المعرفة" و"بين الحرية والديمقراطية" و"بين الحرية والقانون" و"بين الحرية ونزعات التحكم والسيطرة" و" بين الحرية والفوضى".. وظننت أنني قد انتهيت من مناقشة أهم مناحي الأمور الحياتية المرتبطة بموضوع الحرية.. غير أن الأيام الأخيرة وفي خضم الجو الانتخابي الدائر رحاه في البحرين بين المترشحين للمجلسين النيابي والبلدي ظهرت علينا إشاعات ورسائل إلكترونية فيها تهديدات مبطنة وأخرى مباشرة بضرورة التصويت.. وأن من يمتنع عن الإدلاء بصوته قد يُعاقب بحرمانه من بعض الخدمات والمساعدات الحكومية !!

ربما كانت مجرد إشاعات للتشكيك في ديمقراطيتنا الوليدة.. ربما كانت مدسوسة لبث الشعور بين الناس بأن حرياتنا ليست حقيقية.. ربما هي من بين الوسائل الممتدة منذ انطلاق تلك الجهات المغرضة التي دأبت على نشر السلبيات وتعزيزها لإفساد الجو الديمقراطي في العالم العربي، تمهيداً لمرحلة جديدة لـ"ربيع عربي" آخر.. ربما وربما؟  لكن الواقع أن هذه الرسائل المشككة جعلت الكثيرين من عامة الناس يطرحون التساؤلات حول حريتنا في اختيار القرار.. بالذات في غياب الرد الرسمي لدحض هذه المسألة في مهدها.. وأنا هنا بدوري أنتقد حكوماتنا العربية بشكل عام لتأخرها الدائم في معالجة الأمور بالسرعة الكافية.. فهي تعودت على الصمت في حين يترقب منها الشعوب إيضاحات ونفي قاطع للإشاعات قبل استفحالها.. نترقب معالجة الخلل قبل تماديه وليس بعد نخره أساسات المجتمع وتلويث الرأي العام !!

و أثناء كتابتي لهذا المقال تلقيت عدة رسائل حول هذا الموضوع.. إحداها تقول بأن الحكومة ستحرم من يمتنع عن التصويت من بعض منافع التقاعد المبكر.. وأخرى تقول بأن الحكومة بالفعل أوقفت إجراءات تسليم عدد من الوحدات السكنية لمستحقيها ممن لم يشاركوا في الانتخابات الماضية.. ورسالة تلمح لحرمان الممتنعين من بعض المساعدات المالية مثل إعانة غلاء المعيشة.. وأخرى تضع الممتنعين في خانة كونهم لا يمتازون بالمواطنة الصالحة والملتزمين بالبعد عن التخريب ومخالفة القانون.. ويكاد الموضوع يصف كل من يختار عدم التصويت بالخيانة والوقوف في صف الدول المعادية للوطن!!  يا للهول من هذا الترهيب، لو أن مجرد بعض منه صحيح.. والمنطق السليم لا يتفق مع أي من هذه التهديدات لأنها لا تتناسب مع الديمقراطية والحرية الفردية من أساسها.

لنعد قليلاً إلى عنوان هذا المقال.. هل نحن أحرار في اتخاذ القرار؟  هل لنا الحق الديمقراطي في التصويت من عدمه؟  فأحياناً عندما يفقد الشعب الثقة في مخرجات التجربة النيابية سنة تلو سنة يصاب بالإحباط ممن يمثلوننا في المجلس، ولا يجد ما يشجعه أصلا للتصويت لمرشحين لا يمتلكون الكفاءات المناسبة.. فمنذ 2002 مع تجربتنا الأولى تقدم ثلة من المواطنين الكرام وترشحوا من أجل خدمة الوطن.. وتسابقوا تلك المسابقة الشريفة لنيل شرف تمثيل المواطنين في المجلس النيابي.. كان الكل على علم ويقين بماهية الشروط والتوقعات والمكافئات الموعودة.. وقد رضي الموظفون منهم بشرط التوقف عن وظائفهم فترة العمل في أروقة مجلس النواب على أن يعودوا بعدها لوظائفهم مكرمين معززين.. ورضي الأخوة ممن كانوا في مجالات أخرى خاصة بتحمل أعباء هذه المهمة من أجل خدمة الوطن والمواطن.. كانت الصورة واضحة.. ومجموع المتقدمين للترشيح في منطقتنا كانوا ممن وثقنا فيهم فآثرناهم على سواهم.. بل وكانوا حينها مصدر فخر لنا ولأهل منطقتنا الكرام.

شاءت الأصوات أن تختار رجال ونساء من كافة التوجهات.. وهم بلا شك كانوا أشخاصاً أعزاء لم تكن تنقصهم الشهامة.. فالكل سيعمل من أجل رفعة شأن المواطن البحريني وسيعنى بمشاكله وتطلعاته.. الكل قد تعاهد على هذا العمل النبيل.. كنا قد تصورنا في البداية بأن العمل النيابي سيكون أشبه بالعمل الوطني التطوعي، البعيد كل البعد عن الأنانية والنرجسية.. ولم يخل بالبال قط أن ينصب اهتمام الأخوة النواب فيما بعد على غير شئون المواطنين وتنصب جل اهتماماتهم بمصالحهم الشخصية والمكتسبات المادية، الآنية منها واللاحقة. 

لكن أن تمضي عدة فترات نيابية من غير نجاح يذكر غير المزيد من النعرات الطائفية.. و"المناكفات السيافقهية".. ثم يحصد النواب مكافئات تلو المكافئات.. فوالله كانت هذه قمة المفاجئات.. ولن أتطرق اليوم للفترة الثالثة بالذات، ففيها من عجائب السباب والشتائم وأعضاء جدد لا ينتمون للحراك السياسي ولا الحضاري الثقافي لا من قريب ولا من بعيد !!  بينما شئون الوطن والمواطن أصبحت في أواخر قائمة الاهتمام والأهمية لدى إخواننا النواب.. كأنما كل منهم يقول "أنا.. ومن بعدي الطوفان" !!

ثم نجح النواب تارة أخرى في مطلبهم الغريب (الأناني في واقع الأمر) بأن طالبوا بزيادة في مكافئاتهم الشهرية.. من أين؟.. من جيوب من؟.. على حساب من؟.. ومن أجل ماذا ؟؟  ألم يدخلوا المعترك وهم على بينة من الأمر.. ألم يرضوا بالمكافأة المعلنة مسبقاً؟.. كيف إذن بوقت قصير بعد ذلك قرروا أن المكافأة غير كافية؟  كيف لهم هم بأنفسهم أن يرشحوا أنفسهم لنيل المكافئات؟.. كمن يربتون على أكتافهم بأنفسهم ويهنئون أنفسهم بإنجازات عظيمة، ثم يطالبون الشعب بأن يكرمهم.. ما هكذا توقعنا في هذا النزر اليسير من الوقت والكم الهزيل من العطاء.. وهو لم يكن قط عطاءً بلا مقابل.. بل دخلوا المجلس بمكافئات مجزية لا يحلم بها ثلثي النواب.. ومنهم من كانت أجورهم الوظيفية لا تبلغ الخمسمائة دينار لا غير أو ربما أقل من ذلك.. كم يذكرني هذا الوضع بجائزة "نوبل" للسلام التي مُنحت للرئيس "باراك أوباما" في أول عهده بالرئاسة تكريماً لوعود تعهد بها في "جامعة القاهرة" في 2009.. وانتهت فترتي حكمه ولم ينجح في الوفاء بأي من وعوده الداعية لترسيخ السلام في منطقتنا كما وعد في خطبته العصماء تلك!

أي إنجاز عظيم قمتم به حتى الآن لتستحقوا أي شيء.. ثم من وعدكم منذ البدء بأن لكم مكافئات كلما أنجزتم شيئاً؟  بل يبدو لي وكأن الأمر معكوس.. كأنما تنتظرون من يكافئكم من أجل الفشل.. وأنه كلما فشلتم أكثر أزادوكم!!.. الغريب أن بعض المطالبات أتت بعد المقارنة مع ما يجنيه أعضاء مجلس الأمة في الكويت الشقيقة.. يا عقلاء.. وهل تقارنون أنفسكم بهم هناك؟.. وتنسون الفارق بين الشعبين.. الفرق بين حقوق المواطن عندهم وحقوقنا البسيطة هنا.. بين بدلات (مكافئات) الزواج والسكن وإلغاء القروض وغير ذلك من امتيازات أدامها الله عليهم بالخير.. أنسيتم "هزالة" معاشات أهل البحرين وتلك القروض القاصمة ومتوسط الدخل المتواضع بحكم تواضع مصادرنا ومواردنا الطبيعية ؟؟

يا ويحنا هنا.. وبعد كل الخير الغير مستحق، طالب الأخوة الكرام بالمزيد.. بحقوق أخرى غير مستحقة ولا هي منصفة .. بل هي بلاءٌ على المواطنين من شعب هذا البلد الطيب.. يطالبون بلا ذرة من الرحمة ولا الشفقة بأرزاق المتقاعدين.. من ناحية أقاموا الدنيا كزوبعة في فنجان من أجل مكافحة التجاوزات في صندوق التقاعد.. يبدو أنه بات واضحاً أن لا حياة لمن تنادي في الصندوق.. ورأوا في خيرات صندوق التقاعد فائضاً ظنوه من حقهم.. يا للفاجعة.. ظنوه صيداً سهلاً لكل من "هب ودب".. فلن يجرأ أحد على فتح ملفات صندوق التقاعد طالما لم تنفع "الجعجعات" ولا "المهاترات" في كشف أغوار تلك الدهاليز ...... "الله يستر" !

لو راجعنا كم الإحباط المتراكم منذ التصويت على أول مجلس نيابي لعذرنا المترددين الآن واحترمنا حقهم في حرية اتخاذ القرار الذي يريح ضمائرهم.. لأنهم يرون تكاليف النواب وبالاً عليهم، ومصدر استنزاف مستمر لحقوقهم.. إلا البعض اليسير من النواب طبعاً ممن عهدناهم كما عهدناهم.. قبل وبعد العمل النيابي.. كرماء أفاضل.. لا يخلطون بين توافه الأمور.. تركيزهم على حاجات الشعب كافة.. لا الأفراد والملة التابعين والمحسوبين على هذه الجماعة أو تلك.

و حين نراجع بعض أقوال المترشحين الجدد نرى كماً هائلاً من الافتقار للكفاءة والعلم والمنطق والقول السليم.. فأحدهم يهدد روسيا ولا يعرف أن "غورباتشوف" لم يعد في الحكم هناك.. وآخر يعرض على زوار مجلسه خلطات من الأدوية الشعبية ويمنحهم " شراب الحلتيت" المجاني لمجرد زيارة مقره.. وغيرهم ممن يفتقرون لأبجدية اللغة العربية السليمة وجهلاء في السياسة ولا يعرفون بنود الدستور البحريني.. وغيرهم ممن لا يفرقون بين الشئون البلدية ودور المجلس النيابي التشريعي.. وأغلبهم يوزعون الرشاوي العينية عبر توزيع المواد التموينية على منازل منطقتهم الانتخابية ويرمون جزافاً بوعود خيالية لا تحتمل التطبيق على أرض الواقع.. وربما جميعهم ينصبون خياماً ويوفرون فيها موائد بوفيهات من أطياب الطعام.. والبعض تمادى طرباً عبر إحضار فرق "الهبان" و"العرضة" لجلب الزوار لمقارهم الانتخابية!!

وأخيراً أعود لموضوع الحرية في شأن التصويت من عدمه.. فنحن نحب الخير للوطن ويسعدنا أن نكون ضمن المنظومة العالمية المتمدنة والديمقراطية.. ومن حقنا أن نعترض على كافة النماذج السيئة التي تشوه العملية الانتخابية عندما تكون دوافع المرشحين مصالحهم الشخصية، وليس بالضرورة مصلحة الوطن والمواطن.. ومن حق المواطن عندما يرى هذا الخلل المتكرر أن يعترض بطريقة ديمقراطية تعزز عنده مبدأ الحرية.. ولا يجوز الحكم المسبق على نوايا الناس وقراراتهم ضمن بوتقة حقوقهم التي اكتسبوها مع التصويت العام على الميثاق الوطني!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم