آراء

بريطانيا.. صاحبة اللقب الأوفر في اللصوصية ونهب الثروات عبر التاريخ

محمد العباسيالاستعمار (ويسميه بعض منتقدوه «الاستدمار») هو مصطلح يشير إلى ظاهرة سياسية، اجتماعية وثقافية تشمل إقامة مستوطنات أوروبية خارج أوروبا منذ القرن الخامس عشر واستيلاء الدول الأوروبية سياسياً واقتصادياً على مناطق واسعة في جميع القارات الأخرى، بما في ذلك إخضاع الشعوب القاطنة فيها لحكم الدول الأوروبية واستغلال كنوزها الطبيعية وإجبار واستغلال السكان المحليين للعمل سخرة لصالح الدول الأوروبية. انتهى الاستعمار تدريجيا خلال النصف الآخر من القرن العشرين، ولكنه يعتبر من أكثر الظواهر السياسية تأثيرا على صورة العالم المعاصر.  الاستعمار هو عملية إخضاع جماعة من الناس لحكم أجنبي غاصب، ويسمى سكان تلك البلاد بالمُستَعمَرين، وتسمى الأراضي الواقعة تحت الاحتلال البلاد المُستعمَرة. ومعظم المستعمرات مفصولة عن الدولة المستعمِرة (بكسر الميم الثانية) ببحار ومحيطات وقارات شاسعة. وغالبا ما ترسل الدولة الأجنبية سكانها وربما جيوشها وقادة عسكريين للعيش في تلك المستعمرات والسيطرة التامة عليها بالقوة والإخضاع وحكمها واستغلالها مصادر ثروتها ومنتجاتها المحلية لصالحها. وهذا ما يجعل حكام المستعمرات منفصلين عرقياً عن المحكومين المغلوبين على أمرهم. 

ولا تزال الإمبراطورية البريطانية مثلاً حاضرة في بعض مناطق العالم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. مثلاً لا تزال حاضرة في جزر "فوكلاند" في أقصى جنوب قارة أمريكا الجنوبية بمحاذاة الأرجنتين وكذلك في شمال إيرلندا فيما تسمى "إيرلندا الشمالية"، وفي "جبل طارق" في جنوب "ايانيا".. وحتى تاريخ ليس ببعيد كانت لا تزال تستعمر "هونغ كونغ" حتى أعادتها بعد 156 سنة من السيطرة منها 99 سنة من إتفاقية إستئجار مع "الصين" حتى أعادتها في العام 1997. وهناك دولاً كبيرة وهامة في المنظومة الأممية لا تزال أعلامها تشمل العلم البريطاني ولا تزال تدين بالولاء للملكة إليزابيث الثانية، مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا وجاميكا وجزر البهاما وبربادوس وجرينادا وجزر سليمان وجزر أنتيغو وبربودا وهندوراس وبابو غينيا الجديدة، وغيرها الكثير من الجزر الصغيرة المنتشرة حول العالم إلى يومنا هذا! بل وحتى ما تسمى بالمقاطعات مثل المقاطعة البريطانية في القارة القطبية الجنوبية والمقاطعة البريطانية في المحيط الهادي. بالإضافة لذلك هناك ولايات أخرى تابعة للتاج البريطاني فيما يعرف بأقاليم ما وراء البحار البريطانية، وهي دول تحت ولاية وسيادة المملكة المتحدة لكن لا تشكل جزء منها، وعلى عكس دول الكومنولث فإن شعوب هذه المناطق صوتوا للبقاء تابعين للأراضي البريطانية.

 

الاستعمار بشكل عام وربما الاستعمار البريطاني بالذات كونه الأكبر والأكثر انتشاراً هو ظاهرة تهدف إلى سيطرة دولة قوية على دول ضعيفة وبسط نفوذها من أجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي بالتالي تنهب وتسلب معظم ثروات تلك البلاد المستعمرة، فضلا عن قيامها وبشكل منظم بتحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار ولغتها وقوانينها على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى ركب الحضارة حسب منظورها وفلسفتها الاستعلائية ونظرتها الدونية للغير.. وربما في جانبنا من العالم كانت شبه القارة الهندية من أغلى مستعمراتها ومن أكبر ضحاياها لمدة قاربت الـ 300 سنة من الاستغلال الممنهج! وربما كانت "شركة الهند الشرقية" التي نشأت في لندن هي يد الاستعمار الغاصبة ليس في شبه القارة الهندية فقط بل في كافة مناطق النفوذ البريطاني في الشرق الأقصى، حيث كانت مهتمة في تصدير التوابل والشاي والخزف والأقمشة والحرير إلى بريطانيا ومنها إلى كافة أنحاء أوروبا.. تطوّر وضع "شركة الهند الشرقية" من كونها فقط مؤسسة تجارية عندما اندلعت الحرب بين بريطانيا وفرنسا وطالت الهند في منتصف أربعينيات القرن الثامن عشر. فتفوقت الشركة عسكرياً على الشركات التجارية الأوروبية المنافسة والحكام المحليين، وبلغت ذروة هذا التفوق سنة 1757 بسيطرتها على إقليم البنغال، ولتستحوذ على خيراتها ومنتجاتها الغنية في ذلك الزمان.

أما في الجانب الآخر من العالم فكان الاستعمار البريطاني الأعظم للقارتين الأمريكيتين (بما في ذلك استعمار مملكة إنجلترا ومملكة اسكتلندا قبل قوانين الاتحاد التي تكونت بها مملكة بريطانيا العظمى سنة 1707). بدأ كل هذا سنة 1607 في "جيمستاون" في ما تعرف الآن بولاية "فيرجينيا"، ووصل إلى ذروته بإنشاء المستعمرات في كافة المناطق الشرقية للأمريكيتين حيث باتت إنجلترا، أو بريطانيا الآن، أحد أهم مستعمري الأمريكيتين، وجاءت إمبراطوريتهم الأمريكية لتزاحم المستعمرات الإسبانية في عموم قارة أمريكا الشمالية والجنوبية في القوة العسكرية والاقتصادية.  وتسبب الاستعمار الإنجليزي والاسكتلندي والويلزي والأيرلندي في اضطراب كبير في الحضارات القومية في الأمريكيتين، بطريق مباشر عن طريق استخدام القوات العسكرية القادمة من خارج البلاد، وغير مباشر عن طريق التعارض الثقافي وحتى بسبب الأمراض الواردة التي لم تكن معروفة في هذه البقاع. وتنوعت طبيعة العلاقات بين المستعمرين والسكان المحليين من تضارب المصالح التجارية وصولاً إلى صراعات مسلحة. وتكونت طبقة من المحاربين في كثير من المجتمعات الأصلية وسجلوا تاريخاً حافلاً بالحروب. وقد ثبت أن سرعة الأطراف المقاتلة وخفاءها وشراستها لها تأثير مدمر على الأسلوب الذي يتبعه المستعمر في شن الحروب، لكن المستعمر تغلب على ذلك على المدى البعيد بفضل الأسلحة النارية مقابل الأسلحة البدائية. لكن ظلت التجارة مع السكان المحليين ركيزة أساسية في السياسة الاستعمارية البريطانية، وأيضاً الفرنسية، ولكنهم دفعوا بكثافة في جانب الاستيطان وتطوير المستعمرات ومناطق النفوذ والتجمعات العسكرية والسيطرة التامة على الشعوب المغلوبة على أمرها.

وكان هناك ثلاثة أنواع من المستعمرات تتبع الإمبراطورية البريطانية في أمريكا عندما وصلت لأوج قوتها في القرن الثامن عشر. وهذه الأنواع هي مستعمرات معاهدة ومستعمرات مالكة ومستعمرات ملكية. فبعد الحرب العالمية الأولى، اعتُبرت المناطق الأمريكية التابعة لبريطانيا حكومات حرة وذات مسؤولية أكثر حرية أو ما نتعارف عليه الآن بالحكم الذاتي، حتى حصلت تدريجياً على الاستقلال في أواسط القرن العشرين. وهكذا حصلت دولتان في أمريكا الشمالية وعشر دول في الكاريبي ودولة في أمريكا الجنوبية على الاستقلال التام عن المملكة المتحدة أو التاج البريطاني، وفي يومنا الحاضر لا تزال المملكة المتحدة تحتفظ بثماني مناطق تابعة لها في الأمريكيتين، وتمنح هذه المناطق درجات متفاوتة من الحكم الذاتي، إضافة إلى ذلك، كانت هناك تسع مناطق تابعة لبريطانيا تعرف بمسمى مملكة الكومنولث، وهي الآن مستقلة عن المملكة المتحدة.

أما في منطقتنا العربية فقد سيطرت بريطانيا إما بالقوة أو عبر معاهدات وفروض الحماية بشكل أو بآخر على منطقة الخليج العربي واليمن ومصر والسودان والصومال والعراق وفلسطين والأردن والمغرب.. وعلى مدار أكثر من مائة وخمسين عاماً، من 1820 حتى انسحابها في ١٩٧١، كانت بريطانيا هي القوة المهيمنة في منطقة الخليج. ومثلما الحال مع غيرها من القوى الأوروبية الأخرى، لاسيما البرتغالية والفرنسية والهولندية، كان اهتمام بريطانيا في البداية بمنطقة الخليج، والذي انطلق في القرن السابع عشر، يهدف لتطوير المصالح التجارية. وقد بدأت طبيعة التَدخُّل البريطاني تتغير بعد أن تمكنت من توطيد وتوسيع ممتلكاتها الاستعمارية في الهند. أما الحديث عن التواجد والآثار والمشاكل التي خلفتها ورائها في كل دولة من الدول العربية فتحتاج لمقالات منفردة للنظر فيما تركتها من معاضل، لا سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية و"وعد بلفور" المشئوم وتسليمها لقمة سائغة ليهود الشتات. إنها تلك المملكة الاستعمارية التي لم يكن يغيب عنها الشمس من أقصى الشرق حتى أقصى الغرب من العالم التي سرقتها ونهبتها واغتصبت خيراتها من أجل ثرائها ومصالحها هي، وهي ذاتها التي تتحدث اليوم عن الحقوق وتنتقد الحكومات وتتبنى الحركات الثورية وتأوي لديها المجرمين والمخربين وتعطيهم الأمان في ديارها.. لم تتغير أجندتها الاستعمارية ولم تعتذر يوماً عن كل ما اقترفتها من مجازر ولصوصية واستعباد لشعوب الأرض.

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم