قضايا وآراء

"حكايات من زمن الأسطورة " للناصر التومي

والحكايات العجيبة وما أشبه ذلك" (1)، ومن الناحية الشكلية فالأسطورة والحكاية تنحدر من أصول شفهية . والزمن الأسطوري يضفي على الأسطورة قداسة ما لأنه زمن الخلق، وتحول الأسطورة إلى حكاية يدلل على انتفاء الخلق والتكوين للكائنات الخارقة التي تعد "تاريخا حقيقيا للمجتمعات البدائية وتحويلها إلى التاريخ الخاطئ للمجتمعات إذ تتداخل فيه افعال الآلهة بأفعال البشر".

 

 وتبقى الأسطورة  حاجة وجدانية للمبدع . وهي مصدر من مصادر الإبداع لا يكاد مجتمع بشري يخلو منها في تصوراته وفي  حلمه نحو إعادة تمثيل الواقع بصورة منشودة . والأسطورة تفتح آفاق التخييل في النص فضلا عن كونها تجربة الإنسان في حالته البدئية قبل أن ينخرط في آلية العصر الحديث كجزء من آلة لا تبرز إلا السطح .

 

"حكايات من زمن الأسطورة" (2) هي مجموعة قصصية بمثابة  قراءة التاريخ الذي يمتزج فيه الواقع بالاسطورة، و هي عودة إلى الأساطير كتوق للحلم الذي يعيد التوازن للواقع ، ومن ثمة عاد الناصر التومي عبر مجموعة من القصص إلى تاريخ قرطاج، ورموزه النسائية لإعادة بناء صورة المرأة في عمقها التاريخي والحضاري . وبما أن الواقع وحده ما عاد قادرا على تفسير التاريخ فإن للأسطورة دور مركزي  في نحت كتابة  تنطوي على جوانب كبيرة من التخييل والتخيل .

 

التحفيز التأليفي

لقد كان لا بد من حافز تأليفي لإيجاد ذلك الرابط الذي يمهد للكاتب إعادة كتابة قصص  الشخصيات النسائية المعروفة في تاريخ قرطاج عبر القصة الأولى وهي "عاشق العظمة" . هذا العاشق لقرطاج والذي صوره الراوي على أنه مهوس بأمجاد الماضي هو في الحقيقة ظل الكاتب، فالكاتب يبحث عن ظله الغائب في مساحة الواقع، ويعود إلى ذاته التاريخية باحثا عن ارتساماته وآثار الذاكرة عليه والبحث عن أفق عميق ينفذ به وعبره إلى حلمه.

 

فالذاكرة، هي صور الماضي التي خلفت بقايا الصور الشاهدة على الأحداث، والمكان هو الملاذ الذي يعود له " عاشق العظمة " ليرى من خلاله ما اندثر ولكنه ترك ذاكرته وراءه : " لقيته بعد سنوات عديدة، يجوب هضبة قرطاج بالطول والعرض، يتنقل بين أطلالها، ويتوقف طويلا بمسرحها ومعبد أشمون ..." ص3 . فالمكان شاهد على حقبة لها عمق ثقافي وفني، وللمكان دلالة روحية غير زائلة تتمثل في بقاء المعبد، ودلالة فنية من خلال المسرح الشاهد على أحداث وقصص وحكايات بالإمكان تجسدها في أي زمان ومكان . أما زمن الماضي فما هو إلا حلقة من حلقات الزمن، والعودة إلى تلك الحلقة هي عودة إلى منطق الأحداث وإعادة  فهمها: " وقد يخترق الزمن ويتحداه، وتأخذه الحمية فيلعن رومة، ويصرخ بشن حملة بونية رابعة عليها يكون هو أول جندي فيها، وينساب في سرد أحداث قرطاج المصيرية في صراعها مع رومة، وينساب في شرح وتحليل أسباب الانتصارات والهزائم " ص3 .

 

أما شخصية "عاشق العظمة" فهي تعرف بالجدية والهوس بماضي قرطاج لأنه مفتون بالصرح الشامخ عبر الأزمان، وبتعلم معنى المغامرة والبطولة ومصارعة الأهوال وطلب النصر عبر تقديم الأبناء قرابين لآلهة النصر واعتبار الهزيمة جريمة . فسبب هذا العشق المجنون لقرطاج هو تفصده من انتمائه لفئة المهزومين . فهو يعود للتاريخ لفهم منطق الحاضر الذي يجب أن يغذى بقيم التضحية والشغف بالنصر .

 

والعودة إلى تاريخ قرطاج عودة إلى الذاكرة النسائية والأنثوية : عليسة، صلامبو، صفينيبة والربة تانيت، وإلى الذاكرة الذكورية الشاهدة على خوض الحروب عودة إلى القائد التاريخي حنبعل . فإذا شخصيات الماضي هي ظلال وأطياف تتراءى في المكان وتبعث من جديد، وإذا قرطاج هي تلك الأنثى " قرطاج تلك الغادة، لم تكن تمتلك مقومات قبيلة ومع هذا قهرت رومة " .

 

إلا أن صوت عاشق قرطاج سرعان ما تحول نشازا يمجه العقل الحديث فوقع زجه في مستشفى الأمراض العقلية، فقوضت الخاتمة منطق الأحداث وجعلت من الذاكرة الحية صورة مرضية لأنها تحل الذاكرة محل الحاضر، وكان صوت الراوي هو صوت هذا العقل الذي يلوم الراوي على هذا الهوس وهذا التعلق المرضي بالماضي سيما وأنه كان يفسر حركات عاشق قرطاج على أنها غريبة وغير معقولة . ولكننا نفهم من خلاله أن الهذيان الكامن وراء العقل الواعي ما هو إلا خلاصة لتجربة المجموعة وإرثها المتقادم لإحياء قصص تتفرس في الماضي .

 

وبما أن عشق قرطاج هو عشق الراوي / الكاتب، وهو البحث عن ظله الهارب الذي لا يتجسد إلا في لحظات الإلهام، تلك اللحظات المنفلتة عن الزمن وتتلاعب بالزمن في آن فقد جسدت قصة " وهم الإلهام " ذلك الوهم الذي لا يعد حقيقة جلية للعقل الواعي بل العقل المكسو بالظلال والأطياف  حين تراءت للراوي ملهمة صاحبه "عاشق العظمة" وقد رسمها الكاتب من خلال زرقة بحر قرطاج وسماءها " فتاة رائعة الجمال دون أصباغ، ذات شعر ذهبي منسدل إلى نصف قامتها، سمائية العينين، يشع منها بريق مبهم، لباسها قد من قطعة واحدة يميل لونه إلى الزرقة البحرية، حافية القدمين " ص9 .

 

فهذه المرأة قادرة على سحر الراوي وجذبه إلى عوالمها المدهشة، تنفذ بخيال الراوي إلى عمق الماضي، والظهور الأسطوري لهذه المرأة هو حلم منشود، وهي رؤية خبيئة لن تتجسد إلى حين يطلع الراوي على قصص نساء قرطاج .

 

تجسد هذا الطيف كفكرة ورسم بديع يعيد إبداع الماضي المنقضي، وسلمته ظرفا به أربع قصص لشخصيات نسائية عاشت بين زمني تأسيس قرطاج وسقوطها وهي عليسة، صلامبو، صفينيبة، وسرناسة ، وكانت هي خامستهن "بربتوة " (المرأة التي اعتنقت المسيحية وكانت آخر عنقود الأسطورة)، وقد برر الكاتب في خاتمة القصة أن الراوي احتفظ بالقصة عقدين بعدما تأكد أن عاشق العظمة لن يفيق من جنونه والمرأة الملهمة لن تعود لتتراءى له من جديد .

 

قصص تاريخية لشخصيات نسائية قرطاجية 

يستدعي الكاتب شخصيات نسائية من المخيلة الأسطورية، ومن الذاكرة التاريخية  ويعيد كتابتها برؤية حديثة وبروح الدهشة والمغامرة . إذ يعود إلى أجواء الحكاية واكسسواراتها الأسطورية ليستلهم منها بعض الملامح ويعيد تشكيلها داخل النص القصصي . وحين يعود إلى الواقع التاريخي يبحث عن الصور العالقة في الذاكرة المخلفة لذلك الضوء الذي يهتدي به الراوي لإعطائها لمسات جمالية من خلال الاعتماد على  الوصف والرسم مستلهما بعض الرسومات والألوان والظلال .

 

في قصة "عليسة" يمتزج التاريخ الحقيقي بالتاريخ الأسطوري ؛ حيث وصف الكاتب عليسة وهي تتفقد البناء الشامخ، السور العالي الذي يحيط بقرطاج، فقد وصف الإطار الطبيعي المكون من هضبة قرطاج، والبحر، والغابة، وعكس صوت الموج كصوت سيكولوجي يرتد إلى أعماق التاريخ، كما وصف مشهد الموكب والحرس المحيطين بها . فعليسة كما قرطاج محصنة . ولكن هذا الانغلاق سرعان ما يستحيل إلى انفتاح حين يظهر جمع من الرجال البحارة هم ما تبقى من شعب طروادة طاردتهم العاصفة وأضاعت منهم أميرهم " أنياس" الذي ظهر حين أزاحت "فينوس" وشاحها. كان ذلك الأمير البحار بطل من أبطال الحرب الطروادية التي تغمرهم الآلهة برعايتها  بعد سبع سنوات من التشتت والمأساة بعدما أزالت الحرب وطنهم من الوجود، فرحبت بهم عليسة واستضافت البحار الأمير في قصرها . وقد حاكت "فينوس" قصة حب بين عليسة والبحار، في حين كان البحار  يمقت في قرارة نفسه أن يدنس آمال شعب طروادة بنزوة وقد وعدته الآلهة ببناء وطنه الجديد، ولكن نفحات الآلهة "فينوس" حولت هذا العشق إلى زواج رغم أن الأهالي عدوا في هذا الزواج انتقاصا لهم فالقرطاجيون بنوا مدينتهم والطرواد شعب مشرد . وقد ضاق الأمير بهذا الانتقاد فغادر قرطاج لتنفيذ وعد الآلهة واختار الرحيل، وإثر ذلك الرحيل اختارت عليسة أن تقدم جسدها قربانا لنار العشق فارتمت في اللهب . وتنفتح الحكاية على الأسطورة بما أن الآلهة ساهمت في تغيير مسار الأحداث، حيث كتبت فينوس قصة الحب والانتحار، ورصدت الآلهة وعدها بإعادة لم شتات الشعب الطروادي المشتت .

 

في قصة " صلامبو "، كانت "صلامبو" هي عذراء الربة تانيت التي قررت مواجهة المرتزقة الذين عزموا على اقتحام المدينة حين لم يتسلموا أجورهم من السلطة الحاكمة . صلامبو التي كانت أشرف وأقدس كائن بالمدينة بعد الآلهة " ابنة عبد ملقرت قائد قوات قرطاج العظيم " ص32، أوعزت للمرتزقة أن قرطاج لها مزايا عليهم بعدما كانوا قبائل متناحرة، وطلبت منهم التريث إلى حين يعود الازدهار للبلاد . وكانت لنبراتها السماوية البلسم الذي جعل ممثل المرتزقة "ماتو" يصغي إليها، ولكن بحركة مباغتة  أطلق القائد النوميدي " تارهوس " سهما أصاب ذراع ماتو"، فأقسم قادة المرتزقة على محو مدينة قرطاج . وبإيعاز من الاغريقي " سبنديوس " الذي كان يعمل في قصر صلامبو اندفع "ماتو" داخل معبد تانيت ونزع الوشاح المقدس عن تمثال ربة القمر والخصب تاركا هيكلها عاريا ، واقتحم مخدع عذراء تانيت، فتوعدته بأن الوشاح يحمل لعنة الربة تانيت، لكنه غادر رافعا راية الوشاح كراية النصر . وإثر عودة القائد "عبدعملقرت" من صقلية لرفع حصار المرتزقة عن قرطاج، تنكرت "صلامبو" في زي الجنود القرطاجية متتبعة آثار "ماتو"، وحين علمت بمقر معسكره ووصلت إلى خيمته أدرك هذا الأخير أنه لم يعد بحاجة لهذا الوشاح ولا بخراب قرطاج بل باغتصاب "صلامبو"، واقتحم عبد عملقرت معسكر "ماتو" وفرت "صلامبو" ومعها الوشاح . وإثر معارك ضارية مع المرتزقة وأظهرت قرطاج تفوقا على المرتزقة انحاز القائد النوميدي "نارهواس" لقرطاج، ووصلت "صلامبو" على ظهر جواد حاملة الوشاح المقدس " بينما القائد عملقرت يحدق في رقبة ابنته وعرف الحقيقة المرة، فغياب العقد يعني فقدان العذرية . فنادى من فوره "نارهواس" وبشره بقبول خطبته لعذراء قرطاج، وتمت المراسم في نفس المكان، فقدموا إلى صلامبو رمحا سلمته لخطيبها، وربطوا إبهاميهما بسير من جلد البقر، ونثروا القمح على رأسيهما، إنه عقد لا ينفصم إلا بقضاء الآلهة  " ص39 . وفي يوم الزفاف الذي أقتيد فيه "ماتو" ليعذب ويموت تحت التعذيب تناولت "صلامبو" بدورها جرعة واحدة من كأس أمامها وهوت ميتة . وقد فسر هذا الموت على أن لعنة الوشاح شملت من أساء للآلهة ومن أعاد الاطمئنان إلى المدينة . فالآلهة تلعب دورا أساسيا في الحكايات الأسطورية : " تمثل الاسطورة تاريخ لأفعال كائنات خارقة وأن هذا التاريخ يمثل مطلق الحقيقة لأنه في ارتباط بالواقع " (3)

 

في قصة " صفنيبة الجميلة " تبدو "صفينيبة" قلقة على غياب زوجها أمير ماسيصولة لبضعة أيام لمفاوضة الرومان على السلم رفقة والدها عزربعل . وقد تزوجت صفنيبة من سفاكس  الحليف الشهم لقرطاج والذي يحكم مملكة ماسيصولة نوميدي الغرب، وكان مسنسن نوميدي الشرق الذي امتد سلطانه على كامل الأراضي النوميدية قد حاول الإطاحة بسفاكس لكنه هزمه أشر هزيمة، ثم حاول الزواج من صفنيبة لكي يفصل سفاكس عن قرطاج، ولكن وقع الاختيار على سفاكس كحليف رغم تخطيه العقد الخامس من عمره ، ورفض مسنسن المتربص بقرطاج . وحين وصلت أنباء الزواج لمسنسن صار هذا الأخير يخطط للقضاء على قرطاج ومملكة ماسيصولة في آن .

 

وإثر عودة سفاكس وعزربعل علمت صفنيبة أن شيبون الافريقي خدعهما وأحرق معسكراتهما وقتل منهم الكثير . وتعقب مسنسن سفاكس ولاحقه في مملكته، واتصل بقناصلة رومة ليقهر سفاكس، واستقرت "صفنيبة" في قصر كرطة في انتطار التعبئة الكبرى التي شرع زوجها في القيام بها، ولكن انتهت الحرب بهزيمة نكراء والقضاء نهائيا على سفاكس، و هرع مسنسن إلى قصر كرطة حيث صفنيبة للزواج بها، لكنه جوبه بطلب حليفه القائد الروماني شيبون الافريقي برغبته في تسليمه "صفنيبة" مع بقية السبايا . فقرر الزواج بها ليلة واحدة وتسليمها، لكن "صفنيبة اختارت أن تطعن جسدها بخنجر فداء لروح قرطاج . فهذه القصة تخلو من حضور الآلهة وحولت مصير الشخصية التراجيدي بيد الإنسان الذي يحل الوطن محل الآلهة .

 

في قصة "سرناسة"، تبدو "سرناسة" زوجة عزربعل تعاني آثار خيبة هزيمة قرطاج على يد "مسنسن " ولما رأت  أن قرطاج  تؤكل حية، استعدت للحرب وهي على علم أن صدامها مع روما آت لا محالة، سوى انتصرت على مسنسن أو انهزمت أمامه " ص56 . وكانت سرناسة تحفز زوجها لمجابهة سطوة روما، وترتقي إلى مدارج معبد اشمون المرمرية لتتضرع بخشوع لعزة قرطاج  وتنشد مع الكهنة نشيد الخلاص، وتقدم أولادها نذورا للرب أشمون فداء لعزة قرطاج . في حين  تعودت قرطاج على تقديم القرابين من أبناء الرقيق . وحين سمع عزربعل بخبر نذر ولديه كقرابين أقر أن الهزيمة أكبر من تقديم القرابين، لكن "سرناسة خاطبت الشعب مذكرة إياهم ببسالة مدينتهم وعظمتها السابقة وتضحيات أهلها وانتصارات قرطاج، فكانت المقاومة وعجز الرومان على شلها، ولكن نتيجة الحرب كانت لصالح الرومان وسقطت قرطاج " والتجأ القائد عزربعل إلى معبد اشمون ومنه استسلم إلى شيبون، أما زوجه "سرناسة فقد تزينت، وخرجت بإبنيها إثره  والقت نظرة أخيرة إلى الخراب الذي طالما أرهبها في يقظتها " ص71 وبسرعة رمت بنفسها وبإبنيها في النار تكفيرا على هزيمة زوجها . فتبدو أسباب الهزيمة مقترنة ضمنيا بلعنة الرب أشمون لأن عزربعل رفض تحويل إبنيه كقرابين له، فالهزيمة ما هي إلا عقاب ولعنة، وقيام "سرناسة" بتقديم نفسها وإبنيها كقرابين هي رغبة منها في إرضاء الآلهة لتعيد المجد لقرطاج . فالآلهة هي مصدر الخلاص واللعنة .

 

ـ في قصة "بربتوه وفرجة الموت" كانت "بربتوه من عائلة ارستقراطية من طبربوـ تمينوس  . اعتنقت المسيحية من وفد من المسيحيين المتخفين العاملين في الفلاحة والتجارة في المدينة، ونهلت من الدين الجديد المحظور . وقدمت المساعدة للمسيحين المعدمين وحذرتهم من مكر اليهود المتربصين بهم . تبدو لنا "بربتوه" في أول  القصة داخل قبو كالقبر حيطانه باهتة ومتآكلة والشمس لا تنفذ إليه  . تهدهد رضيعها ثم تفترش القش لتنام  حيث الزمن متوقف في الظلام الدامس،  وهناك سمعت صوت أنثوي يبتهل للرب لتجد فليستان رفيقتها المتنصلة من أدران الوثنية تتهجد في القبو .  استبدل الظلام الزاحف على المكان بالنور المنبلج من النفس، ولكن حراس القبو كانوا يمنعون عنهما الطعام . وعلى مر الأيام صار القبو لا يتسع إلا لرجال تعلو صرخات تعذيبهم، وبعد أيام أخرجت من القبو إلى حيث ينتظرها زوجها حاثا إياها على عدم اعتناق المسيحية او اعتناقها سرا ليتسنى لها الخروج، وحين رفضت أخذ الطفل لينشأ خارج ظلام القبو . تقدم منها حارسان ودفعاها مع رفيقتها إلى عربة وهناك تعرفت على المساجين الرجال الأربعة لنقلهم حيث المصير المجهول . أودعوا في سجن رهيب وقد غللوا بالقيود الحديدية الثقيلة . تتشابه الأيام في ظلمة سراديب السجن ليسلموا كوليمة للنمور الجائعة .

 

أسلوب الكاتب في تناول " حكايات من زمن الأسطورة "

تخلو هذه القصص  من ذلك الخيال الذي يتلاعب بالزمن من أجل إعادة تلك الوقائع الأسطورية في مساحة الحاضر، وإنما هو عودة إلى الذاكرة لإعادة كتابة التاريخ ببث بعض الخيال، وذلك بالبحث عن تفاصيل الحكايات وإعطائها أبعادا درامية وإنسانية، وما العودة إلى ذلك المزج بين الوقائع التاريخية والأسطورية، إلا استحواذ الأسطورة على ملاذ الخيال، وبالتالي قراءة التاريخ إبداعيا وفنيا .

 

وهذه الحكايات القادمة من زمن الأسطورة والتي احتفظت بها الذاكرة التاريخية . التبست بالأحداث التاريخية ونفث فيها الخيال، ولكن تنبلج صورة المرأة التي تؤثر الموت على الهزيمة والخنوع ومسخ الذات . وبما أن الحكايات تحكي بأسالب مختلفة تتحول إلى "ما يشبه الأساطير" لتعبر عن تمثل المجموعة لتاريخها . فالثابت أن هذه الحكايات الأسطورية أخترعت الأحداث اللصيقة بحياة الشخصيات النسائية التاريخية، والمرأة في هذه القصص تستعيض بالعقاب لكي لا تهدر عزتها، وهي تعرض للعقاب إزاء ذنوب لم تقترفها . فهي لم تعاقب لذنب اقترفته بل إن شخصيتها التي بنيت على قيم الشرف هي التي جعلتها ترفض أن تعيش ململمة هزيمتها . وبما أن منطق هذه الحكايات منسجم مع منطق التاريخ الحقيقي فإن الأسطورة هنا هي إضافة العناصر المرغوب فيها والتي يجد فيها الراوي لهذه القصص أبعاده الغائبة .  وهذه الحكايات التي صيغت قصصيا انتهت نهايات شخصياتها بصورة تراجيدية فهي أقرب إلى الخرافة التي ينتهي أبطالها نهايات بشكل تراجيدي على عكس أبطال الحكاية . 

 

تناسل الأساطير

 رغم أن قصص نساء قرطاج اكتملت في هذا العمل القصصي إلا أن الذاكرة الأسطورية لتاريخ المرأة  لم تكتمل  إذ تنتهي هذه المجموعة القصصية بقصة " الغريبة " التي  انبرت للراوي وهو في حالة تأمل للجزيرة الساكنة .  هذه الغريبة لا تحكي إحدى حكايات قرطاج القديمة بل حكاية الجزيرة وحكاية الغريبة  " تلك التي توسطت الجزيرة ويحج إليها اليهود منذ ألفي سنة "، ظهورها عارية ما جعل الراوي يخمن أنها تعتنق مذهب الإباحية أو تحاكي صورة حواء في الجنة، لكنها أقرت بأنها لا هذا ولا ذاك فهي الغريبة منذ بعثها .

 

ظهورها الأسطوري استقدمته حالة نفسية خاصة للراوي وهو يهيم في تخيلات لا أول لها ولا آخر" أغلبها لا يمت إلى عالم الحقيقة والواقع بصلة، إنما هي شطحات الروح نحو عالما أكثر اتساعا "ص89 .

 

لقد استقدمتها حالة فنية إثر سماع حكايات سيدات قرطاج . فالذهن وهو يسترجع حكايات العشق والبوح والرحيل، فتتشكل فيه صورة الغريبة  كالرؤيا التي تتخفى وراء ظلال البحر ورؤية ترصد روعة المشهد وترسمه قصة موحية ." حدث ذلك في إحدى سياحاتي بالجزيرة ليلا والفصل صيفا، وأنا في تنقل بين شاطئ البحر وبساتين الجزيرة التي حافظت على عذريتها . كنت أعتلي إحدى الصخور البحرية، أقلب النظر  بين قبة السماء ولمعان  صفحة مياه البحر لانعكاس بهرة القمر عليه  بين اليابسة "ص89.

 

وإذا السماء انعكاس للبحر في مكنوناتها، وإذا ماهية الراوي عودة إلى الأعماق للصعود نحو عالم أسطوري، حيث يبني واقعا مختلفا عبر القصة . الصورة تشكلت في ذهن الراوي وحاك متمماتها عبر قصص النساء وأرسى العلاقة الرابطة بين مشاهدها : " رائعة الجمال كانت، تتوسط رمثا قد من أصفاد البحر ومرجانه، يوحي مرآها بأنها من عرائس البحر أو من جنياته، أو هي ربة الحب والجمال "فينوس" ابنة رمزي السماء والماء، وهي تحتفل بيوم ميلادها البهيج، كان شعرها الفاحم ينسبل على كامل جسدها وكأنه سرح في التو واللحظة، ذات تكوين لطيف وقد ممشوق" ص91

 

الغريبة التي تلتحف الفضاء وكانت قادرة على إشفاء طفل صغير عبر إقامة الصلاة عليه ومسح وجهه وجسده براحتيها .  ابتهج بها السكان وقدموا لها الهدايا وخيمة من وبر الجمال " اندلعت النار فيها وتسربت إلى الحمل فالأعشاب والأشجار، وتصاعد اللهب عاليا، وإذا بالمكان بعود ساعات قلائل بلقع بعد جنة وحياة " ص94، فنسب اليهود أمر الغريبة إلى ديانتهم، وتقوم الجماعات اليهودية بالحج لها تبركا بها .

 

فالغريبة هي الغريبة عن المكان ولأنها حملت سرها معها وفي عودتها وسردها لحكايتها فهي تغادر المكان في اتجاه المجهول إذ لا شيء يشدها إلى هذه الأرض عدا استحضار حكاية الماضي .

 

تنكشف صورة المرأة في "حكايات من زمن الأسطورة " من خلال مصدر الأسطورة، ولكن صهرها في نسيج هذا العمل القصصي ما يجعل الكاتب يقيم طقسا كاملا يحيل إلى حالات وأحداث وبناء مناخات نفسية وتاريخية .

 

..................

(1) : محمد عجينة، موسوعة أساطير العرب في الجاهلية ودلالاتها، دار الفرابي بيروت، الطبعة الاولى 1994، ص71 .

(2) حكايات من زمن الأسطورة، م ق، الناصر التومي، دار سحر للنشر،1999، الطبعة الأولى .

(3)mircea eliade : aspect du mythe , p32   

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1296 الاحد 24/01/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم