قضايا وآراء

مقالتان عن حقيقة العرب قبل الإسلام: وجهة نظر ووجهة نظر معاكسة

"انقراض الحضارة العرب?ة" قال?ا أدون?س في مجمل محاضرة وحوار في كردستان العراق. كلمة كان عل?نا جم?عا قول?ا قبله. ولكن ما حصل عكس ذلك. فقد توالت ردود الفعل المعاد?ة في معظم?ا، والتي تدافع عن القوم?ة العرب?ة والأمة العرب?ة.

و ?طرح السؤال ?نا إلى جم?ع الذ?ن ردوا علنا، أو في مجالس نم?مت?م المغلقة، ?ل من أحد من?م ?عتقد غ?ر ذلك، أقصد غ?ر ما قاله  أدون?س؟ وأز?د - بل وأزاود بقناعة - ?ل كان للعرب حضارة بالمعنى الحق?قي للكلمة؟.

لنعد للبدا?ة .. العرب في باد?ت?م قبل الإسلام قبائل متناحرة، وعصابات تن?ب قوافل القبائل الأخرى .. لا شيء سوى خ?ام متنقلة للرعي، وحاضرت?ن صغ?رت?ن، ?ما مكة و?ثرب، اللتان كانتا تتع?شان من التجارة مع الحضارات المجاورة .. و?ي بالتأك?د ل?ست حضارات عرب?ة .. بل حضارات سور?ة في كامل سور?ة الكبرى، وحضارة فارس وال?ند وغ?ر?ا من حضارات تلك المنطقة، والتي كانت في تلك الفترة حضارات حق?ق?ة، تملك كل مقومات الحضارة. ف?ما كان العربي لا ?ملك سوى جماله ?جول ب?ا محملا بضاعة تلك الحضارات .. ل?بيع?ا في مكان آخر و?ترك الفتات لجماعته .. لم ?كن من صرح قائم حق?قي سوى بناء الكعبة و?و قطعة مربعة مبنية بالحجر الأسود قدس?ا العرب قبل الإسلام وبعده.  ولكن?ا لا تقترب من أن تكون كسور الص?ن، أو معابد وقصور و??اكل السومر??ن والبابل??ن والأوغار?ت?ن والكلدان??ن. وكل?ا حضارات سور?ة بنت ممالك وحواضر، وغزت البلاد من جم?ع أطراف?ا، وأخضعت الممالك، ثم ان?ارت ل?حل محل?ا ممالك أخرى. وكذلك الأمر بالنسبة لمصر.

وكان العربان في تلك الفترة مازالوا ?قومون بم?مت?م التجار?ة، دون رغبة في تأس?س حضارة أو مدن?ة حتى. فلا تمد?دات للم?اه، ولا أماكن للاستحمام، ولا شيء من ح?اة الرفا??ة التي عاشت?ا الحضارات الأخرى، سور?ة، ووادي الرافد?ن، ومصر الفرعون?ة، والممالك والامبراطور?ات الأخرى التي تنتمي إلى أعراق أخرى.

ثم جاء محمد، وجاءت رسالة الإسلام. وربح محمد معركته مع قر?ش. وبدأ ?خرج للغزو لنشر دعوته، ولتأم?ن موارد مال?ة للدولة التي ?نوي تأس?س?ا. وأسس?ا فعلا.

و مات محمد، فتأسست دولة الخلافة الراشد?ة، التي غزت ونجحت بغزوات?ا.  وبدأت الحضارة الإسلام?ة تتكون لتصبح حضارة ش?ئا فش?ئا، إلى أن أصبحت الحضارة الأولى في قرون عد?دة.  ولكن?ا لم تكن حضارة عرب?ة بل كانت حضارة إسلام?ة.  وقول محمد أن "لا فرق ب?ن عربي وأعجمي إلا بالتقوى"  كانت أساس كل شيء، فوزراء الخلافة التي استأثر ب?ا آل الب?ت وأولاد عمومت?م خروجا عن قول الرسول، ?ؤلاء الوزراء بدأوا ?تسللون مع صعود الخلافة العباس?ة، من أقوام أخرى غ?ر عرب?ة كالفرس، والأتراك، والأكراد، إلى أن جاء ?وم كانت الخلافة الإسلام?ة عبارة عن خل?ط عرقي لم ?سبق لحضارة أن ضمت مثله ب?ن خاصت?ا وعل?ة قوم?ا.

انت?ت الخلافة في ?د العثمان??ن. و?ذا ?عني انت?اء دور الأعراب المسلم?ن كخلفاء وتسلم الأتراك الخلافة. معتمد?ن على قول محمد ذاك. وس?طر الأتراك س?طرة مطلقة على الخلافة، بعد أن كانت أجناس أخرى مختلطة قد س?طرت، ولفترات طو?لة، س?طرة جزئ?ة عل??ا. و?ذا ?عني أنه لا دور لحضارة عرب?ة طوال فترة الخلافة الإسلام?ة، مستثن?ن الحكم الأموي الذي كان عرب?ا صرفا حسب تفس?رنا لكلمة عربي ?نا، بل دور حضارة إسلام?ة ?جلس على عرش?ا رجل عربي ?نتمي إلى عائلة محمد وأبناء عمومته.

جاءت الحرب العالم?ة، وقرر الغرب اختراع شيء اسمه القوم?ة العرب?ة. أغروا به أحفاد الخلفاء المسلم?ن وذر?ت?م بأن?م قوم?ة وبأن كل من خضع لسلطت?م حتى ن?ا?ة الخلافة العثمان?ة من أراض، خلاف الأراضي الترك?ة، ?م عرب ?نتمون إلى قوم?ة واحدة، وأمة واحدة ?ي القوم?ة العرب?ة. وكانت الغا?ة الأساس?ة إضعاف الإمبراطور?ة العثمان?ة وربح الحرب. وبدأ الحد?ث عن القوم?ة العرب?ة ..في منتصف القرن الماضي.

إذن العرب منقرضون أساسا. و?م ل?سوا أولئك الذ?ن خرجوا من الجز?رة العرب?ة غاز?ن أقواما أخرى، من?م سكان سور?ة الكبرى بثقافت?م العال?ة وحضارت?م العر?قة، وسكان مصر، وأ?ضا بحضارت?م الفرعون?ة العر?قة. لقد انقرضوا مذ بدأوا ?قتتلون ب?ن بعض?م بعضا من أجل السلطة العل?ا "الخلافة".  ومنذ بدؤوا بسع??م للنفوذ والسلطة. ومذ طمعوا بأراضي الغ?ر وممتلكات?م وبنسائ?م .

القوم?ة العرب?ة الحال?ة، أو من نطلق عل??م عربا ال?وم، ?م اختراع بر?طاني فرنسي ضحكوا به على لحى بعض أحفاد محمد وأولاد عمومه.

?لا فكر مثقفونا، قبل بدء ال?جوم على أدون?س، في جملة قال?ا عن ثقة من ?م العرب أساسا؟ .. و?ل فكروا بالتفر?ق ب?ن أمة عرب?ة، وخلافة إسلام?ة.

الجز?رة العرب?ة ?ي موطن العرب الأوائل .. وف??ا تأسست الآن المملكة العرب?ة السعود?ة بد?ن?ا الو?ابي .. و?ي تحتضر .. بل ?ي على فراش الموت .. ولكن تلك الحضارات التي غزو?ا في بدا?ة امتدادات الإسلام، لا ?مكن أن تنقرض لأن?ا تحمل إرثا حضار?ا عر?قا، لا ?مكن أن ?زول بسرعة. وإذا كان الحكام الآن ?قفون في وج? عودته لتلك المكانة، معتمدا على إرثه الحضاري، فلن ?دوم ?ذا إلى الأبد.

لسور?ا الكبرى حضارت?ا، ولمصر حضارت?ا، وللعراق حضارته.. وللسعود?ة بترول?ا الذي ستغرق في قاره الأسود.

فكروا قل?لا، قبل أن تنتابكم الحم?ة العرب?ة. فكروا ب?دوء ف?ما قلت، ثم ابدأوا أ?ضا بال?جوم علي.

-  عن موقع مجلة ألف

 

2 - العرب قبل الإسلام: صورة عامة /  صالح الرزوق

يذكر بلياييف أن الأرض التي استوطن?ا العرب قبل الإسلام محدودة ب?ن علامت?ن ?ما: بحر فارس في الشرق، وبحر القلزم) أو الأحمرحال?ا (في الغرب . و?ذا ?عني أن باد?ة الشام ?ي النصف الثاني لشبـه الجز?رة العرب?ة، و?ي لا تدخل في الحدود الس?اس?ة لأي من الفرس أو الب?زنط??ن . وحسب المراجع ال?ونان?ة والرومان?ة القد?مة ?مكن تقس?م منطقة نفوذ العرب إلى 3 أقسام :

1 - القسم الصخري في الشمال، و?متد في جنوب غرب باد?ة الشام. 2 - بلاد ال?من السع?د. 3 - القسم الصحراوي والذي تمركز ف?ـه البدو.

و لكن للمؤرخ?ن العرب القدماء وج?ة نظر أخرى، ح?ث أن بلاد?م كانت تتضمن 5 أقسام ?ي: ت?امة والحجاز ونجد والعروض وأخ?را ال?من. و?ز?د عل??ا ابن حوقل في وقت لاحق: باد?ة العراق وباد?ة الجز?رة وباد?ة الشام كما ورد في كتابـه صورة الأرض. و?ذكر أحمد أم?ن في (فجر الإسلام):  إن العرب سكنوا مناطق خارج حدود جز?رت?م والتي تنقسم أصلا إلى 3 مناطق: صحراو?ة رمل?ة و?نتشر ف??ا البدو، وصحراو?ة منزرعة في الشتاء وجدباء في الص?ف و?ي إلى جنوب سابقت?ا، ثم أخ?را صخر?ة و?ي الحرات التي كانت تمتد من حوران (في جنوب سوريا على مقربة من جبل الدروز)  وحتى المد?نة المنورة، وتعتبر ذات مناخ معتدل.

و ?ؤكد ذلك جمال زكر?ا قاسم و?قول: إن العرب غادروا موطن?م الأول منذ فجر التار?خ بسبب الظروف الجغراف?ة والطب?ع?ة (و?قصد ?نا دورة الر?اح الموسم?ة، (وتب?ن الحفر?ات أن ?ناك أكثر من علاقة ب?ن جنوب الجز?رة وشرق أفر?ق?ا) . وكانت للعرب في القارة السمراء مملكة مستقلة، استوطن?ا الم?اجرون، ?ي مملكة أكسوم (1) .

و من المؤكد أن للعرب وعاء حضار?ا ?ضم تراث الشعوب السابقة، و?ذا ?و شأن جم?ع الأمم كالفرنس??ن الذ?ن ?ضموا النورماند??ن، والألمان الذ?ن ?ضموا الجرمان، والأنغلوسكسون الذ?ن ?ضموا الطوق البشري والثقافي لكل من شعوب الجوت والإنكل?ز والساكسون. وكما تذكر المراجع: إن الإنكل?ز عبارة عن تفرعات غر?بة ناجمة من قبائل ال?ون المتوحشة التي استنجدت بالجرمان??ن لمقاومة الاستعمار الروماني (2) . ولكن دائما ?ناك إثن?ات بشكل ج?وب داخل أ?ة أمة، بح?ث ?توجب عل??م التعا?ش المشترك ضمن قانون الس?ادة أو الخطاب، كما ?و الحال مع الجال?ات الجزائر?ة في فرنسا والترك?ة في ألمان?ا أو حتى ال?ند?ة في بر?طان?ا، و?كذا دوال?ك...  إنما دون أن تصل الصورة إلى مرحلة الكونفدرال?ة.

و بالنسبة للجز?رة العرب?ة في القرن?ن الخامس والسادس للم?لاد، توجد صورتان أساس?تان:الأولى تتحدث عن مجتمع قبلي ورعوي مع ح?اة ?امش?ة تحتفظ بمسافة للرعب من الحضارة، ولكن مع بعض الحواضر غ?ر المستقرة التي تع?ش على الاقتصاد الزراعي ومشتقاتـه مثل الطائف و?ثرب في الحجاز، وال?مامة وحضرموت  وسواحل عمان وال?من. والثان?ة تعتقد أن الح?اة الروح?ة لعرب الجنوب والوسط كانت ناضجة، وفي مرحلة تقدم عقائدي وإ?د?ولوجي، بمعنى أنها تبنت تصورات خاصة عن جم?ور?ات فاضلة ومصغرة ومعدلة من النمط الأساسي لفجر الحضارة ومنبع الحكمة. لقد تكونت لدى العرب قبل الإسلام مجتمعات تؤمن بالديمقراطية والتعددية، وبحوزتنا أكثر من دليل يشير إلى نموذج قبلي وطائفي على الطريقة البلقانية في العصر الحديث.  ومنها الأشكال التجريدية للآلهة المعروفة يومذاك والتي لها ملامح أشخاص أو أنها من غير قسمات، أو أنها ذات صور بشرية أو طوطمية، وربما من غير شكل أحيانا أو لها مجسمات وأبعاد في الفراغ .  وأقرب مثال عنها الكعبة المشرفة،  فقد قال عباس العقاد في كتابه مطلع النور إن لدى العرب سبع بيوت مقدسة ولكن النبي (ص)  ?دم?ا ولم ?ترك غ?ر واحدة، و?ي المعروفة الآن، والتي تختزل الخطاب الإسلامي وسطوتـه وسلطتـه.  وهنا يجب أن نلاحظ مقدار الاختلاف في المخيلة العربية عن مخيلة شعوب الشرق الأقصى . فالمجتمع العربي نهاري بطبعه ويميل إلى الصراحة وعدم التكتم مثل مدينة أثينا، ويهتم غالبا بالاستاطيقا والسكون، وانعكس ذلك على صور الآلهة الجامدة والثقيلة والمتجهمة، بعكس الشعوب التي عاشت في شبه القارة الهندية وما بعد، وغلبت عليها القيم الروحية والعرفانية، حيث يمكن لأي مؤمن أن يتخيل إلها ملونا وله فائض من الأذرع والعيون، كما تقتضي فروض الأفكار الرومنسية. 

لقد كان الإسلام في ن?ا?ة المطاف  بمثابة تحديث رومنسي لأفكار رمزية سابقة، وعقلا مركز?ا له بن?ة خطية لا تزال قائمة في أشكال سر?ة نشاطها تحت الأرض، وتدعو إلى الفريضة الغائبة .. الجهاد. و?مكن العودة إلى دراسة و?ب روم?ة عن الرحلة في الشعر الجا?لي ليتأكد لنا كم كان عمود القص?دة ?رتكز على بناء درامي، و?ذا بدوره مجرد منطق تسلسلي لا ?خلو من بلاغة تصو?ر?ة تدل على مصادر?ا: إن?ا مصادر كت?مة للمصموت عنـه، وتنتشر في الشعور واللاشعور. وهو الذي مهد لخطاب عجيب ومؤثر ابتكر أنتلجنسيا لها خطاب اتباعي، وعسكرتاريا ذات مرجعية تجارية (على الأغلب)، أو عرقية وقبلية أحيانا.

و من أول نظرة ننتبه أن البن?ة الاجتماع?ة عند العرب لا تخلو من التعق?د المد?ني إنما في إطار بدوي.  فبالنسبة لعقود النكاح اشترطت بعض النساء العصمة وهذا يعني ببساطة أن تبادر الزوج بالطلاق.  وقد وصل الأمر عند المؤرخ?ن إلى اكتشاف نظام جم?وري مصغر في التشك?ل القبائلي، مع رسم مخططات لمدن عائمة فوق شبكة من القنوات والمرافق الصح?ة الخاصة.  وكانت ?ناك علاوة على ذلك محم?ات طب?ع?ة لص?انة الثروات: من كلأ وم?اه وبسات?ن.

أما اللغة فقد كانت متشابهة  وبشكلين: حم?ر?ة، و?ي اللغة الأولى، أو القلم الأول، وحجاز?ة و?ي لغة بني إسماع?ل، وكان الفرق بينهما في المفردات وليس في البنية، (بعكس لغت?ن أوروب?ت?ن متجاورت?ن مثلا:  كالفرنس?ة التي ل?ا أساس لات?ني، والإنكل?ز?ة التي بزغت من ل?جات جرمان?ة).  وربما كان المناخ ?و السبب في الاختلاف، ح?ث أن اللغة في ال?من مصمتة وقاس?ة، ولكن?ا في الحجاز ممدودة. واعتمدت اللغة في توس?ع نطاق?ا الدلالي (كما ?قول الش?خ محمد الخضري في محاضراته عن تاريخ الأمم الإسلامية) على أسلوب: الترادف والترابط والتعر?ب، و?ذا ?عني باختصار است?راد المفردات من ثقافات أجنب?ة ثم تبن??ا. وبودي أن أنوه بما قال? شتراوس (كلود ل?في) عن معنى العرق في التار?خ: إنـه رفض متبادل لمنظومة من الق?م والأشكال الاجتماعية، و?ذا ?و مبدأ التنوع . إن عدم الانسجام ?عتبره شتراوس الملاك الحارس للتنوع الثقافي.  و?كذا تنشأ فكرة التقابل والتوازي في الأفكار، ولكن حتما ل?س في الواقع. ثم ?ض?ف بما معناه: إن أنطولوج?ا الشعوب محكومة بأسال?ب التعب?ر عن?ا، و?ي دائما راشدة ولكن أح?انا لا تجد من ?سمح ل?ا بالإشراق أو النشاط الألسني ج?ارا.

لقد كان المخاض جا?زا للانعطاف من الم?ثولوج?ا إلى الحداثة، ومن البداوة إلى الزراعة، وما ?ترتب على ذلك من ن?ضة معمار?ة وصناع?ة في مجال الري ون?ضة س?اس?ة كانت ?ي الماك?نة التي صنعت الدولة . وربما كانت ?ذه إشارة إلى البن?ة الطبق?ة للمجتمع التي تتركب على أساس من ق?مة العمل وجو?ر الج?د البشري، وفي ثلاث شرائح إنتاج?ة ?ي: الزراعة والم?ن ال?دو?ة ثم البداوة وترب?ة الماش?ة . و?ي نفس البن?ة التي تعرضت في المرحلة الجا?ل?ة الأخ?رة إلى سلسلة من التحولات، كانت ?ي التعب?ر المادي عن أزمة في الخطاب وأزمة في البن?ة، ومن ?نا نجمت الضرورة  للانقطاع المعرفي والاجتماعي بأسال?ب ثور?ة كان في مقدمت?ا د?كتاتور?ة البرول?تار?ا الإسلام?ة.

و حسب المنطق إن الصعود الروحي والوجداني لشعوب ?ذه المناطق كانت بحاجة إلى ترم?م اجتماعي . وقد فرضت المصلحة الاقتصاد?ة نوعا من التحول (بعد الاحتكاك مع القوى الدول?ة – أو البول?س االدولي بالمصطلح القانوني المعاصر).

و ?ذا عبر عن نفس? بالانتقال من موضوعة الاكتفاء الذاتي (نلبس ونأكل مما ننتج) إلى موضوعة الاقتصاد البضاعي والشروع بالتبادل النقدي، أو الدخول في مرحلة اقتصاد?ات السوق. وكان ?ذا برأي المفكر حس?ن مروة إشارة أولى للقضاء على المشاع والبداوة تم??دا لبناء بورجواز?ة كب?رة صناع?ة وزراع?ة تدعم?ا الملك?ة الخاصة لوسائل الإنتاج (3). غ?ر أن ذلك لم ?كن ممكنا من غ?ر ابتكار أسال?ب محل?ة لترش?د الثروة المائ?ة والح?وان?ة، ودفع?ا من منطق الخصوبة الأمومي إلى منطق الإنتاج الحربي المذكر، العصابي والمأزوم أو المركزي.

و أعتقد أن العرب في ?ذ الطور المبكر كانوا ?ت??أون لحمل أعباء الرسالة، وللتبش?ر بحضارة تآزر في ص?اغت?ا الوجدان والضم?ر (أو اللاوعي والذات)، مع ظروف موضوع?ة من?ا الضغط الدولي والطب?عة المحفوفة بالمخاطر والاحت?اجات الأساس?ة. فمع اقتراب فجر الإسلام (كما ?ذكر أحمد أم?ن) أصبح من المفروض على عرب شب? الجز?رة الانقسام إلى شعبت?ن:

1 - أسلوب الإنتاج الزراعي، و?تطلب أدوات للانتاج كالمحراث والسلال والحبال وقنوات الري وأوع?ة استخراج الم?اه وحفر الآبار وما إلى ذلك (وهو قطاع ?طلق عل?? اسم أ?ل الفلاحة)  (4).

2 - أسلوب الإنتاج الصناعي، وقد انتشر في مكة (المعروفة بأن?ا واد غ?ر ذي زرع كما ورد في القرآن الكريم).  وتركز  ذلك ب?د أ?ل الم?ن الذ?ن قاموا بص?ر وتنق?ة الحد?د وبرم الحبال أو قطع القصب والخشب من أجل تأم?ن نقل البضائع وتحم?ل?ا وسوى ذلك . وتعتبر ?ذه الدائرة الرابط ب?ن تقن?ات الطب?عة الخام للبداوة مع تقن?ات الاقتصاد المنزلي (مثل الاستفادة من الطرفاء والأثل في صناعة الحبال وال?وادج والأواني وتقط?ر العطور والأصبغة وح?اكة المنسوجات وغ?ره).  وبالنت?جة ارتبطت شعوب المنطقة بنوع من التبادل التجاري، مع نشاط لتجارة داخل?ة (ب?ن القبائل والحواضر)، وتجارة خارج?ة ( للتبادل الع?ني والنقدي)، و?ذا شمل الاست?راد والتصد?ر على أساس سلعي. ومع انعطافة القرن السادس للم?لاد كانت المنطقة تعوم على فائض من الحنطة (في الطائف) والثمار الأساس?ة والمحاص?ل ( ?ثرب) لذلك قا?ضت أو أنها صدرت السمن والعسل والتمر والت?ن والبقول.

إن الصورة العامة لتلك الفترة تعتمد على نشاط إنتاجي واست?لاكي، ثم نشاط تبادلي وتحو?لي.  وفي الواقع، وبرأيي الشخصي إن الإفراط في ?ذا  المخاض ?و المسؤول عن انتقال الدورة الإسلام?ة من العقائد إلى النظام أو الدولة . وكما ?رى الأستاذ م?ثم الجنابي: لقد حسم أصحاب رؤوس الأموال الجولة منذ ن?ا?ة الع?د الراشدي، فاستبعدوا من الصورة الطبقات الصغ?رة "  المدحورة " ( التي اختصت بالنشاط المكبوت والمعارض، الباطني والتراج?دي)، وذلك لمصلحة الانتشار العصبي  المدعوم بأخلاق الإنتاج?ات الكومبرادور?ة والرأسمال?ة، مع أن رموزه أو صوره كانت أصلا ممن التحق بالدعوة بعد فتح مكة (5).

و وصل المجتمع الجا?لي إلى مرحلة متقدمة من تقس?م العمل وربط العائدات بنمط الإنتاج وبن?ت? وتوج?ات?.  وكان ?ناك تداخل في الاختصاصات بسبب التنافس ب?ن الحواضر، ففي ?ثرب (التي غلب عل??ا النشاط الزراعي) كان ?ناك سوق للصاغة، وفي مكة (التي غلبت عل??ا صناعة الأسلحة والفخّار)  كان ?ناك سوق للأسرّة والأرائك.

و برزت حاجة العرب إلى الدعوة الإسلام?ة،  فقط،  لإلغاء التعدد?ة في الولاء والنشاط لمصلحة نمط ?شترك ف?? رأس المال الطب?عي والمدخرات والثروات الباطن?ة والأنشطة الزراع?ة والصناع?ة والتجار?ة في بن?ة واحدة، مع تعد?ل جو?ري لنظام العبود?ة والرق، بح?ث تصبح ال?د العاملة ل?س جزءا من رأس المال الإنتاجي والترف??ي فقط، ولكن أ?ضا جزءا من المصادر الإنتاجية . وتش?ر الدراسات إلى أن طبقة العب?د عند العرب في الجا?ل?ة واسعة، وغ?ر الزنوج والأحباش الذ?ن قايضت ب?م من أفر?ق?ا لتبدأ عصر التجارة بالرق?ق طبقا للنموذج الأمر?كي في القرن المنصرم، كان ?ناك عب?د من الأروام  والفرس ومن سبا?ا الحروب والغزوات.  فالعرب لم ?كونوا مشغول?ن بالصراع ف?ما ب?ن?م على الكلأ والماء فقط، ولكن تنافسوا على مطامع توسع?ة في الجوار.

لقد رسم المؤرخون صورة حز?نة للعرب البدو، وقفزوا من فوق الحقائق المعروفة، والتي ?لخص?ا أحمد أم?ن في مثلث الخصوبة والمثاقفة: التجارة وحواضر التخوم والج?وب النصران?ة وال??ود?ة.  وحري بنا الإشارة إلى الغ?تو ال??ودي الذي هو وراء ?ثرب كما ?ي الحال بالنسبة للغ?تو ال??ودي الذي كان ?ح?ط بوارسو في القرن العشر?ن.

ومن نافلة القول إن? سبق الدعوة للإسلام تدفق المنتوجات الصناع?ة الرخ?صة، التي فاضت من حدود الجز?رة العرب?ة وحواضر?ا، وشكل ?ذا برأي (كوتلوف) قوسا من رؤوس الأموال الآخذة بالتوسع تم??دا لل??منة، وربما الاستعمار  المباشر (6).

و ?ذكر المؤرخ والباحث ?وسف ز?دان: إن العرب وإرسال?ات?م التجار?ة الصغ?رة (المان?فاكتورات وال?د العاملة) وصلت منذ ع?د كر?لوس إلى دمشق وحلب والإسكندر?ة، وشكلت ?ناك مع السر?ان مستوطنات أو أح?اء – غ?تو (7).  وكانت تلك الفترة عصرا للأزمات الساخنة ف?ما ?خص اعتماد نسخ الإنج?ل وتحد?د علاقت?ا مع التعال?م ال??ود?ة ثم الانقسام في الكن?سة ب?ن المشرق والمغرب.

و من وج?ة نظر تار?خ?ة، اعتمد العرب في ن?ضت?م الأولى (عند منعطف القرن الخامس – السادس للم?لاد) على قانون السوق، ثم مع دخول الدعوة إلى ح?ز التنف?ذ، شرعت قوان?ن المجتمع في تبني نموذج الأخلاق العسكر?ة. ومن الواضح أن حروب الدولة الأمو?ة سارت باتجا??ن: في الداخل لدمج اقتصاد السوق مع قوان?ن الكومونة، وإلى الخارج بغرض التوسع (الفتوحات العرب?ة) لترفع را?ة الإسلام.  ولكن مع استل?ام تجربة حواضر التخوم  القد?مة (مثل الح?رة و?لم جرا)،  ول?س حواضر المركز أو كومونات? ( مثل ?ثرب ومكة وسوى ذلك).

من ناح?ة الخطاب كان الإسلام تظ??را لصورة دف?نة في الوجدان السابق عل??، ولا شك أن? لم ?ختلق البن?ة اختلاقا، لقد حاول أن ?عبر عن?ا، أو بالأصح أن ?نقل مفردات الذ?ن ومفردات الخ?ال من حالة تفرّق واست?لاك بضاعي إلى حالة  توح?د وإنتاج ثم تبش?ر، ووظف العسكرتار?ا ل?ذه الغا?ة. وإن الخدعة القد?مة التي حاولت تمر?ر صورة مفككة عن أقوام تابعة لسلسلة من الأوثان، تبدو بع?دة عن الصواب، ?ذا لو احتمكنا إلى التاريخ وأحفورات?.

حقا، إن لدى العرب أوثانا ?ي الصورة الأصل?ة عن الغضب المكبوت من ق?ر الباد?ة وق?ر الطقس الدولي.  ولكن?ا من غ?ر شك ?ي أوثان مركبة، وتندمج في معنا?ا بالس?اق، وبالرعب الناجم من الض?اع عند مفرق الحضارت، وعند  أبواب مفتوحة على اخت?ار ?صعب إنجازه: ?ل ?جب الانح?از للذات الكل?ة أم لدعوة الموضوع المفروضة من أعلى، ومن خلف ستار الد?الكت?ك. و?ل ?مكن استثمار دعوات ذات – الموضوع لتجاوز معضلة التناحر ب?ن الواقع والممكن.

في الحق?قة إن الأطروحة المضادة للعرق العربي (و?ذا بخلاف المفا??م الإ?د?ولوج?ة التي استثمرت الواقع، والفارق جو?ري ب?ن ما ?و فوق – ومثالي أو س?اسي، وما ?و تحت – مادي وغ?ر مفترض)، تستند إلى البلاغ?ات القسر?ة التي تسد أساسا النقص المعنوي بفانتاز?ا مر?ضة.

 ولكن استطاع الإسلام أن ?حول المكبوت إلى مرتبة الضمائر المست?قظة، وضغط  باتجاه الاختلاف المؤجل، و?و الحداثة المركز?ة بمف?وم?ا الأوروبي، ولتحق?ق ذلك قام بإلغاء تلك الأوثان المتعددة ثم عاود ترك?ب?ا في وس?ط واحد، وفي طقوس متجانسة.

 

..........................

?وامش:

1 - انظر: تار?خ العرب في أفر?ق?ة لجمال زكر?ا قاسم. مجلة قضا?ا عرب?ة، ع 6، حز?ران 1980، ص 166 وما بعد.

2 – انطر التفاصيل في كتاب A Silver Sea  للمؤرخ Arthur Bryant، لندن، 1985 .

3 - انظر: حس?ن مروة في كتابه النزعات الماد?ة في الفلسفة العرب?ة الإسلام?ة ج1 .  وجد?ر بالتنو?? أن ?ذا العرض التار?خي مد?ن ل? بقسم كب?ر من المعلومات، بالإضافة إلى كتاب فجر الإسلام لأحمد أم?ن، منشورات دار الكتاب العربي، وأد?ان ومعتقدات العرب في الجا?ل?ة لسل?م الحوت و?و من منشوات دار الن?ار بب?روت1981 .

4 - التفاص?ل مذكورة في محاضرات لم تنشر ألقا?ا المرحوم محمد نذ?ر سنكري في جامعة حلب عام 1980 .

5 - تجد وج?ة نظر م?ثم الجنابي في سلسلة من المقالات التي كتب?ا في صح?فة المثقف، وف??ا ?تناول الوج? الآخر من نشاط  بعض الصحابة (ض)، مع تحل?ل لانتمائ?م الطبقي وأصول?م التار?خ?ة. البحث مدعوم من الصندوق الروسي للبحوث العلمية.

6 - انظر ص 7 من كتاب: تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي للكاتب ل.  ن.  كوتلوف.

7 - انظر موقع الباحث ?وسف ز?دان على الإنترنت.

صالح الرزوق - 2010

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1297 الاثنين 25/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم