قضايا وآراء

دير الزور... فنانون يرسمون حكايات مدينتهم

الفرات الذي يجري معه أين ما حل أقدم مواطن البشرية وأوسعها تراثاً وتاريخ  والتي اقترن اسمها باسمه فأطلق عليها (لؤلؤة الفرات)، المدينة التي عُدت بأنها أهم مركز حضاري وتجاري يربط بين الإمبراطورية الرومانية والهند قبل ان تستولي عليها الملكة زنوبيا لتضمها الى مملكتها الواسعة (تدمر)، دير الزور لم تبخل على الواقع العربي الفني بأجيال اثبتوا بتميز معالم مواهبهم وقدراتهم في التعبير عن الذات الحساسة التي يمتلكها أهالي هذه المنطقة، في المعرض الفني الذي انقل اليوم لمحات عنه للقراء يتربع خيرة فناني الرسم والتشكيل والنحت في  دير الزور كي يجسدوا واقع المدينة الغني بالحياة الاجتماعية المترابطة كسلسلة غير منقطعة مع ماضي المدينة وأرثها البشري، المعرض الفني الخاص بفناني دير الزور كان تحت رعاية وزارة الثقافة السورية – اتحاد الفنانين التشكيليين في محاولة لإبراز نتاجات الفنانين إلى العاصمة السورية دمشق وفسح المجال أمام المهتمين والمتتبعين للحركة الفنية بكشف إبداعات شريحة مهمة من الفنانين السوريين البعيدين عن العاصمة ومعرفة مكامن تركيز فكرهم واستنتاج الذائقة الرسمية والتشكيلية والنحتية لديهم.

 

2037-nasyf وعن المعرض الذي أقيم بمشاركة  39 فناناً، شارك منهم 5 فنانين بمعروضات نحتية، صرح لنا رئيس اتحاد التشكيليين السوريين الفنان الأستاذ حيدر يازجي قائلاً: " إن معرض فناني دير الزور له خصوصية كون هذا المعرض يقدم فنانين بعيدين بعض الشيء عن الحركة الفنية السريعة والمتحركة بصورة انسيابية وايجابية في العاصمة دمشق، إذ كما تعلم أن هناك أكثر من افتتاح لمعرض فني واحد في الأسبوع وخلال اليوم الواحد تستطيع أن تجد أكثر من أمسية ثقافية وفنية وهذا ما يجعل الجمهور هنا بعيد عن الإنتاج الفني والثقافي في المحافظات، فناني دير الزور ليسوا بعيدين بالمعنى الحسي بل بالمعنى الجغرافي هم اليوم يصورون لوحة بالغة الروعة عبرت عن تاريخ مدينة دير الزور بأهلها وعاداتهم والأماكن المشهورة في المدينة ولم يبخلوا في تصوير حتى ما تتميز به هذه المدينة من نباتات قد تفتقر لها مدن أخرى، الأعمال التي جاء بها الفنانون التي توزعت ما بين الأعمال الأكاديمية والحرة والفطرية والعفوية ستثبت لك النكهة الخاصة لهذه المدينة ولفنانيها، وانا أشيد كثيرا بالأعمال التشكيلية التي أشاهدها في المعرض لأنني التمس فيها تطورا واضحا في تشكيل الفكرة علاوة على تشكيل المادة حجماً وصورة، قد تشاهد أيضا أعمارا مختلفة مشاركة ضمن هذا المعرض لكنك لن تستطيع أن تقسم الأعمال وترجعها إلى أعمار رساميها، أنهم بالفعل يشكلون فسيفساء حالمة بالمزيد من التشكل والكبر".

 

2036-eydalnazhanوكان الأستاذ حيدر يازجي قد خفف عني كثيراً من حمل إكمال وصف المعرض لأنه أوفى الحق بل وأعطى رؤية نقدية يستحقها الفنانون المشاركون واللذين التقيت ببعض منهم حيث كان في مقدمتهم الفنان عيد النزهان رئيس فرع اتحاد التشكيليين في دير الزور الذي قال: " يشكل لي هذا المعرض شخصيا حالة فريدة، إذ انه يقام في دمشق ضمن زحمة المعارض التي تقام في أكثر من (غاليري)، إن اهتمام الصحافة والقنوات والنقاد بهذا المعرض يضعني وكل فناني دير الزور المشاركين أمام اختبارات صعبة في المستقبل، أنني أحاول ان يكون هذا المعرض عادة سنوية تنطلق من دير الزور نحو العاصمة ثم تنتقل إلى كل محافظات الحبيبة سورية، أما بالنسبة إلى مشاركتي في المعرض فإنني ارتأيت ان أقدم لوحتين تعبران عن الأزياء الخاصة بأهل دير الزور نساء ورجالاً  لما تملكه هذه الأزياء من محبة كبيرة في نفسي"، أما الفنان فاتح منديل والذي احترف الرسم منذ العام 1987 فكان له قول مماثل لما قاله الفنان عيد النزهان لكنه أشار إلى أهمية إقامة مثل هذه المعارض لأنها تزيد من حظوظ فناني المحافظات بالانتشار والشهرة ويعتبر لوحته التي صورت مدينة دير الزور القديمة (دير العتيق) لوحة قريبة من قلبه لأنها تمثل مدينة صباه وشبابه مدينة أبناءه مثلما كانت مدينة أجداده، وعن (شجرة الغَرب) قال الفنان خالد الخالد :" شاركت في المعرض بلوحتين فنيتين حملتا إشارة بالغة الأهمية عن شجرة الغَرب وهي شجرة تنبت فقط على ضفاف نهر الفرات في مدينة دير الزور ولا تنبت في أي مكان آخر في العالم، حيث يعتقد أنها من الأشجار القديمة التي لم تندثر بفعل كل التغيرات المناخية والطبيعية التي حدثت على ارض مدينة دير الزور، أنا اعتقد ان هذه الشجرة هي هوية من هويات دير الزور المعروفة"، أما الفنانة رزان عبدالحميد فقد حاولت من خلال مشاركتها في المعرض إيجاد زاوية خاصة للمرأة بعيداً عن الكبت والحرمان والرؤية الناقصة لها من قبل المجتمع، تقول الفنان رزان عبدالحميد: " إن دخول لوحتي الخارجة عن نمط لوحات المعرض والتي أظهرت فيها المرأة بلباس خفيف هي دلالة على أن المرأة تستطيع أن ترسم أكثر من زهرة حمراء وأنها كمثل الرجل في الدخول الى تفاصيل دقيقة من حياة البشر، وتصوير هذه التفاصيل بتجريد لا يمتثل لقانون محدد ولا تهمه أي حواجز، المعرض الذي تزوره اليوم وتكتب عنه يمثل مدرسة تقدم أكثر من درس يختلف كل عن الآخر لكنها تصب في النهاية نحو اتجاه واحد هو اتجاه الفن" .

 

وعن التشكيل الذي حضي باهتمام واضح للزوار تحدث لنا الفنان طارق عمار عن تجربته في إنتاج عمل ضخم يحمل أسم (الأسرار العميقة) والذي يتكون من سلسلة مفتوحة من المنحوتات وجدت أنها تمثل حالة تكوّن البشرية منذ صغر حجمها وعقلها إلى تطورها الجسماني والعقلي والقلبي وتداخل الأحزان والأفراح في حياتها واحتياجها إلى الحب وفرض الكراهية عليها وتماسها مع الضعف والحاجة واختلاس التكامل من ثقوب النسيان، يقول الفنان طارق عمار: " ان المنحوتتين المعروضتان اليوم عبارة عن جزء من سلسلة منحوتات تزيد عن 25 منحوتة تنطلق من النشأة الأولى لتكوّن الإنسان وتمر عبر مراحل حياته المختلفة، وأسميتها بـ (الأسرار العميقة) لأنها تعطي انفراد تام لشخصية إنسان واحد ضمن منظومة البشرية لا يعلم أحد عنه شيء، اللوحتان هما الجزء الخامس والسادس من هذه السلسلة، وحين أُخبرت أن عليّ المشاركة في المعرض اخترت هاتين اللوحتين اللتين تعبران عن حاجة الرجل للمرأة في الظروف التي تكون فيها إرادة الرجل مرهونة بوجود المرأة ".

 

دير الزور أعطتني صورة زاهية لأحلام فنانين يطمحون بأن يكونوا على الأقل ضمن الحركة الثقافية الفنية السورية الكبيرة بتواجد يشار له بالبنان، وتبقى أحلامهم النبيلة في أن يكونوا سفراء سورية إلى العرب وسفراء العرب إلى العالم تنتظر التحقيق.

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1299 الاربعاء 27/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم