قضايا وآراء

هل أُغلقت الصّالة؟ .. فلسفة السّينما دون سينما

وقد أدى تطوّرها إلى بروز تساؤلات مهمّة لعلّ أبرزها: هل بلغت فلسفة السينما مبلغ التوقع منها؟ وهل صحيح أنها عرّضت للخطر علاقتها بعلم الدراسات السينمائية؟ .

 يهتمّ الفلاسفة بالأفلام لأسباب مختلفة؛ فمنها ما هو تعليمي، ومنها ما هو غير ذلك. وقد جذبت سينما هوليود  مؤخّرا الطلاب إلى الفلسفة، أو على الأقل ساعدتهم على  احتواء قضايا فلسفية أكبر مما تبدو عليه تلك القضايا في شكلها النظري المجرّد البعيد عن العالم الذي يعيشون فيه.

 إنّ إطلاق فيلم ماتركس -  على الرغم مما يعانيه الفيلم نفسه من ضعف داخلي في التمييز بين  عالم افتراضي وعالم حقيقي-  جعله بالتأكيد أسهل من استيعاب درس فلسفي في الموضوع ذاته ؛فالطلبة الذين درجوا على رفض الفكرة التي تشكك بوجود الواقع وتعدّه حلمًا فحسب - وهي الفرضية التي ساقها ديكارت في سياق بحثه عن الحقيقة التي لا يمكن الشكّ فيها- صاروا الآن بفضل الفيلم الأخير يدركون جدية الفرضية الديكارتية. والأمر نفسه يقال عن فيلم تقرير الأقلية Minority Report الذي يمكن أن يشكّل بداية جيدة لمناقشة التوافق بين الحتمية والإرادة الحرّة.

ولا عجب حينئذٍ أن يخصّص بعض الفلاسفة الأفلام السينمائية لتجسيد نظرياتهم   الفلسفية أو لاختبارها.

 غير أنّ الأمور ليست دائما بهذه الجدية، فثمّة فلاسفة إنّما يشاهدون الأفلام في أوقات الفراغ لإنعاش الذهن فقط.

يتركز اهتمامي في هذه المقالة على فلسفة السينما بمعناها الضيق،ولاسيّما علاقتها المفترضة بالدراسات السينمائية. ويمكن القول إن فلسفة السينما تهتمّ بالأفلام التي تطرح قضايا نظرية، وتنظر في فهمنا لهذا الفن بوصفه وسيطا إدراكيا أو جماليا. لكن الحقيقة أن ثمّة تداخلا كبيرا بين نظريات السينما الكلاسيكية والدراسة الفلسفية للسينما من حيث تناولهما مجموعة متماثلة من الأسئلة نحو: ما السينما ؟ هل تقدم السينما فنّا ؟ ما الميزّات الجمالية التي تنفرد بها السينما ؟ وغير ذلك من الأسئلة. وهذا يعني أن علماء السينما الكلاسيكيين والفلاسفة التحليليين يحاولون كلّ بطريقته الإجابة عن هذه الأسئلة وهم يتفقون- أعرفوا ذلك أم لم يعرفوه- على نقطة محددة: إذا افترضنا أن السينما فن، فما معنى أن تكون فنا ؟

و اللافت في فلسفة السينما- كما تتجلى في الفلسفة التحليلية analytic philosophy- أمران، الأول: أنها تتبع منهجا بديلا للدراسات السينمائية المشبّعة بالتحليل النفسي psychoanalysis مفضلة عليه البناء على نتائج علم النفس المعرفيcognitive psychology، والثاني أنها تؤكد ضرورة أن يقدم علماء السينما آراءهم وحججهم بوضوح وصرامة مفهومية أكثر.

لقد كانت العلاقة بين الفلسفة والسينما علاقة تفاعلية أكثر مما هي عليه اليوم، فالحقلان يؤثّران في بعضهما بغض النظر عن وصولهما بالضرورة إلى اتفاق. ومع ذلك لا يزال الكثير من العلماء أتباع الفيلسوف الأمريكي  Stanley Cavell  والكثير من أتباع أندريه بازن Andre Bazin الذين يتناولون السينما بوصفها وسطًا فوتوغرافيًّا فحسب.

لقد وصل الحوار بين الدراسات السينمائية وفلسفة السينما إلى طريق مسدود: فلا يبدو أن واحدًا منهما مهتم بما يقوله الآخر. فالأسئلة النظرية التي ذكرتها آنفا لن تشغل الكثير من علماء السينما المعاصرين؛فهؤلاء- ولاسيّما من يميلون أكثر إلى الدراسات الإعلامية الثقافية- يفضّلون إعطاء الأولوية لمقاربة مجموعة مختلفة من القضايا التي تظهر في مجالات بحثية مختلفة كالدراسات المتعلقة بالهويات الجنسية الفرعية أو "الشاذة" queer study، والعولمة، والسياسات المتعلقة بالهوية الثقافية cultural identity politics، وتقنيات الإعلام الجديدة ؛كتوظيف الكمبيوتر في صناعة السينما وغير ذلك. ويلاحظ أن الطلاب ينجذبون بشكل سهل إلى مثل هذه المواضيع.

ويبدو لي أن أسباب عدّة جعلت العلماء ينصرفون عن الاستماع إلى ما يقوله الفلاسفة حول السينما؛كافتقار المقاربة الفلسفية للأفلام السينمائية أحيانا إلى قدرٍ كافٍ من الأمثلة والمعطيات التجريبية التي يجب الاستناد إليها فتخفق المقاربة الفلسفية في توضيح الظواهر ذات العلاقة.

و أشير هنا إلى أنني اشتركت ذات مرّة في مناقشة تختصّ بتعريف البرنامج الوثائقي، فأظهرت المداخلات الفلسفية تضاربا واختلاطا في أصحاب المواقف الشكّيّة الذين ينتمون إلى ما بعد الحداثة postmodernist skeptics  وكلامهم على الفيلم الوثائقي من حيث موضوعيته أو عدمها. و تقتضي الأمانة أن أقول إن هؤلاء الشكاكين تخلَّوْا عن مقولة الموضوعية والمصداقية في الأفلام الوثائقية بكلّ بسهولة.

وتحتاج الفلسفة، بوصفها لغة شارحة  meta-discipline اتساقًا تصوريًا ومنطقيّا وقدرًا من المعطيات التجريبية.

 وقد يكون من غير المعقول أن نطلب من الفلاسفة أن يكونوا علماء في السينما لكن عليهم أن يكونوا على صلة بالمجال الذي يكتبون عنه على الأقل. وإلا فإنني أعتقد أنه لن يكون عند العلماء اهتمام بالمساهمة في المناقشات الفلسفية أو في دحض الادّعاءات الفلسفية حول الأفلام.

وقد يكون هناك سبب آخر يفسّر لنا لماذا لم يتواصل علماء السينما مع أعمال فلاسفة السينما، وهو أن فلاسفة السينما يظهرون في بعض آرائهم عن السينما متأخرين عمّا تحقق في ميدان الدراسات السينمائيّة. ومن الأمثلة على ذلك تشكيكهم في السينما بوصفها شكلا فنيا أو تشكيكهم في وجود مؤلف سينمائي.

 إن ما يثير اهتمام علماء السينما ليس ما يجعل السينما فنّا، لكن كيف ومتى تصبح السينما فنّا،أو متى تحقق منزلة الفنّ؟ فعلماء السينما ليسوا مهووسين بالقدر نفسه "بتحديد الوسيط' الفني كما كانوا ذات يوم.و لا سيما بعد أن حدثت تحولات مهمة، وأخرى كرست فنّ السينما ورسخت معالمه بسبب نشأة بعض أنماط من النقد السينمائي كما في مجلة Cahiers du (3) عدا عوامل أخرى منها،كثرة المهرجانات السينمائية.

و إذا كان الأمر كذلك، فعلى الفلاسفة أن يجيبوا عن هذا السؤال:  ماذا الذي يشير إليه فنّ السينما art cinema بالضبط؟ وما العلاقة بين هذا 'الفن' والأنواع الأخرى من 'الفنون'؟

في الملتقى الأمريكي القومي لعلم الجمال الذي عقد في أكتوبر/تشرين الأول 2003، ناقشت بعض الأوراق المقدمة مواضيع في علم الجمال،وعلم وجود السينماontology film، والتقنيات أو التأثيرات الخاصّة كالمعالجة الرقمية digitalization. ومثل هذه الأبحاث غنيّة بالمعلومات المفيدة والمثيرة جدا. ومع ذلك فعلماء السينما يتجاهلون تحديد المنزلة الوجودية ontological لهذه التقنيات.

 ولا شك في أن ثمّة ميلا دائما لتأكيد التجديد التقني في الدراسات السينمائية، لكني أعتقد جازما بأنّ الفلاسفة يمكن أن يساهموا في مناقشة أهمية تقنيات السينما المتطورة حديثا بشكل مُتَروٍ أكثر، وأن يفحصوا الاتساق والصلابة الفكرية في كل موقف مؤيد أو معارض لهذه التقنيات.

ففي مقالة نُشرت مؤخّرا في نيويورك تايمز (1) جاء أن الفيلم المدمج يمكن أن يؤثّر  في المنزلة الانطلوجية ontological للفيلم السينمائي. وعلى الرغم من أننا بصدد مقال صحفي إلا أن المؤلف عرض بعض القضايا المثيرة التي قد تفتن بعض فلاسفة السينما ؛إذيدّعي المؤلّف أنّ الطبيعة التفاعلية في الفيلم أو الأسطوانة المدمجة والإغراء التجاري للنسخ "البديلة" أو تدخّل المخرج بالقطع "director's cut" غيّر الوضع الطبيعي أو المألوف للفرجة  السينمائية؛ فقد صار بوسعنا أن نبدأ  الفيلم وقت نشاء ونتوقّف حيث نشاء بفضل تقنية"الفصل" في القرص المدمج، كما يمكن أن نُنهي الفيلم بالطريقة التي نفضّل. وربّما صار عندنا قدرة أفضل على الوصول إلى مقاصد المخرجين أو أفكارهم  عبر الاطلاع على تعديل المشاهد والمقابلات التي ترافق غالبا نسخة الأسطوانة المدمجة.

 لقد أدهشني المؤلّف، عندما تحدث بنبرة رثاء واضحة قائلا: لقد "بتنا نملك سيطرة أكبر من اللازم ” بسبب ميزات الفيلم المدمج التي ذكرناها للتوّ في سياق كلامنا على التحول الجذري في الفرجة السينمائية. إنّ المؤلّف يعبّر عن مخاوفه ويتساءل: هل ستؤدّي التقنية الرقمية إلى ممارسة الانتقائية على الأفلام ""sampling عن طريق سحب الأجزاء من الأفلام المختلفة أو حذفها. هذه التغييرات، تباعا، ستحرّف أو تشوّه الوضع الطبيعيّ للفرجة السينمائية التي تتضمّن الجلوس في مسرح مظلم 90-120 دقيقة دون امتلاك القدرة على تغيير القصّة، مهما كان لدينا ميل لإنقاذ البطلة(!).

وأثار المؤلف نفسه نقطة جيدة حول الكيفية التي يجب أن نعرف بها النسخ الشرعية للفلم وأصالته بعد أن أعيد نسخه إلكترونيا متسائلا: هل نسخة المخرج أكثر أصالة من النسخة التي صدرت في دور العرض؟ على أيّ حال، إن المخاوف على المنزلة الأنطلوجية ontological للفيلم هي في رأيي ضعيفة. فالسينما، مثل الفنون الأخرى ومثل الروايات فيها نسخ متعدّدة ؛فثمّة طرق تمكّننا أن نقرّر- عن طريق فحص علاقة النسخ المتعددة بالنسخة الأصلية- للتأكد من أصالتها. وهذا أمر درج عليه مؤرخو السينما الذين ينشغلون بمسألة كهذه وهم يعلموننا كيف يتعقّبون ويقارنون بين الكثير من نسخ السينما.

و أشكّ في أن تكون مثل هذه الممارسة مختلفة كثيرا عما هو معمول به في صناعة النشر حين نتحدّث عن الطبعات المختلفة للكتاب ونقارنها بالمخطوطة الأصلية إذا كانت متوفرة لنعرف المقاصد الأصلية للكاتب. أما التدخل بعمل نهاية بديلة من الفيلم، وهل يخلق هذا التدخل فلما جديدا فسؤال لا يزال قيد البحث. ولكنني أجيب عن هذا السؤال بالنفي. فالفيلم المدمج، ما زال يعتمد الأصل ؛جماليا وأنطلوجيا – بمدى قربه منه وبعده عنه-، ودون ذلك لا معنى للقول إنه نسخة منه. ناهيك عن أنّ المشاهدين  لا يملكون القدر نفسه من السيطرة كما يهيئ لنا مؤلف المقالة ؛ فالنسخ البديلة محدودة -  عادة اثنتان -  وفي الحالين لسنا نحن الذين نخلق قصّة جديدة؛ بل منتجو الأفلام.

 أما القلق النابع من قدرة المشاهدين في الوقت الحاضر على مشاهدة الفيلم حيث يريدون فلا يختلف عمّا يفعله القارئ  عند قراءة الكتاب من النهاية، أو عندما يتوقّف عن القراءة في المنتصف. صحيح أن هذا التصرف ليس هو ما نتوقعه من القراء لكنّه شيء يفعلونه على كل حال. و ما زلت أتذكّر  كيف كانت بعض كتب الفلسفة تحذّرنا في مقدمة الكتاب من الحجج الفلسفية المتخصصة،وكيف يترك لنا مؤلفوها الحرية لتجاوز فصل أو فصلين منه.فهل غيّر ذلك المنزلة الانطلوجية للكتاب الفلسفي؟ لا أعتقد. إذا كان الأمر كذلك، فإن أنماطا مختلفة من تجارب المشاهدة لن تغيّر  الطبيعة الوجودية للفلم.

وإلى أن يعيد فلاسفة السينما تقديم أنفسهم إلى علماء السينما المعاصرين (والعكس بالعكس)، دعنا نتمنّى أن تبقى الصالة مفتوحة.

على الفلاسفة أن يعيروا انتباها أكبر للأفلام، وإلى ما ينجزه علماء السينما، وربما عليهم-كما اقترحت مقالة مجلة نيو يورك تايمز- الانتباه إلى الطرق التي توزّع بها المنتجات الثقافية وحتى إلى طرق تلقيها أو استهلاكها من الجمهور.

.................

1. Terrence Rafferty, “Everybody Gets a Cut: DVD’s give viewers dozens of choices – and that’s the problem,” New York Times Magazine, May 4, 2003: 58-61. Noël Carroll brought this article to my attention.(author)

(1) ستانلي كافيل فيلسوف وعالم جمال أمريكي معاصر. اندريه بازن ناقد سينمائي فرنسي توفي العام1956. (المترجم)

(2) مجلة سينمائية نقدية فرنسية أسسها كل من اندريه بازن وجاك دانيول فالكروز عام1951.(المترجم)

* جين شوا  Jinhee Choi أستاذة مساعدة في قسم الدراسات السينمائية جامعة كارلنتون في كندا عنوان مقالها على شبكة الانترنت:

 ((Is the Balcony Closed? Philosophy of Film sans Film

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1301 الجمعة 29/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم