قضايا وآراء
جداول تحترق .. صياغات التحاو مع الاحداث .. قراءة في شعر العراقي"باقر السماوي"
يغذ الخطى نحو الشيء الأسمى في بناء ذائقة جماعية تستعذب الأجمل والابهى ... وفي (جداول تحترق) للشاعر باقر السماوي ينحو الشعر صوب التفاعل مع المتلقي كمجموعة نصوص لها حواريتها التي تسعى لأن تترك أثراً .
تضم المجموعة العديد من النصوص التي تراوح بين القصيدة العمودية والشعر الحر . وهو يجيد القصيدة العمودية ويستطيع مجاراة هيبتها ورفلها على خمائل ذائقة المحبين لها والمجاهرين بخلودها . ومن هنا ندخل إلى مدينته النصية ونجوس حساسية الشعر لديه بتواشجه مع المشاعر الذاتية (الوجدان ) والحياة اليومية (الواقع) ، والتعبير الوطني (الانشداد الغريزي للأرض) .
في نص "أمي" الذي يقطر أحاسيس تتوشح باللوعة وتبوح بما يعتري الإنسان ساعة الحنين إلى الطفولة ، التعبير الأمثل للإفضاء بالمكنونات يتمكن النص من التعالق مع المتلقي والتأثير فيه عبر حوار المشاعر التي تتبادل أمكنتها عبر التداخل الصوري والامتزاجي التخيلي للاثنين (المتلقي والنص) حيث يأخذ المتلقي دور استرجاع الذكريات والتوجه حنيناً إلى ألام وفتح ملفات الذكرى بالأحداث والصور والحوارات والأحاديث . يغدو النص فاتحاً لشريط ذكريات المتلقي فيأخذ النص دوره ونجاحه ؛ عبر الشعر الذي يكتبه الشاعر في خطابه الفردي لأمه في ذكراها وتذكرها بعد أن كبر وغدا أباً وصار له أولاد يسألونه عنها ويبغون التعرف على خصالها الامومية من خلال تفسير وتعبير الأب الذي عاش السنين معها فنهل من عطفها وحنانها وحنوّها :
يمزقني الشعر والمفردات
فماذا سأكتبُ إن تعتبي ؟
وماذا أقول إذا ما هَمت
دموعٌ على خدّكِ الطيّبِ
أنا مخطىءٌ في حساب السنين
وقصّرتُ في حقّكِ ، فاطلبي
صغاري بالأمس قالوا أبي :
تعبنا ، فخذنا إليها .. أبي
ص64
وتأخذ الحالة الوجدانية حيزاً في مضمار انطلاقة الشاعر في تدوينه النصي وهي إحدى الحالات التي كتب فيها شعراء المهجر إذ راحوا يغورون في أعماق النفس باحثين عن جدوى الحياة وتأثير الأحداث على المسار البشري من الداخل فكانت بنصوص خلجات تأملٍ وتصوير للوجود :
ربَّ أحلامٍ نمت في خافقي
أصبحت كابوس .. تغتال ألغدا
ونداءات جبيبٍ عاشقٍ
ما تبقى من إلا .. والصدى
قد طويت الآن أيامي وما
قرَّبَ الدهرُ إليك الموعدا
ثم أيقنتُ باني محبطٌ
وجراح الحب قد ضاعت سدى
ص62
وللعاطفة والرومانسية المبنية على معادلة الحبيب والحبيبة يأخذ نص " جداول تحترق " الذي تحمل المجموعة عنوانها ، وهو من النصوص الرصينة التي تعتمد معادلة الحبيب على أساس إرهاصات وخلجات واختراقات الحبيبين وتقديم تصور عن ومن العشق وما اعتراه وقد اتخذ الشاعر اسم " ليلى " كمعادل موضوعي لليلى قيس ، ما يعطي شعور أنه معادل لقيس بلوعته وجواه ، ومعاناته وصبره . ومثلما حاور قيس النجوم والشمس والتلال والانقسام والمرابع فان شاعر جداول تحترق يخطو على ذات الأديم من الشوق والجوى الذي خطا عليه قيس وجموع العشاق المتلظّين بنار الحب والفراق :
جاءت تقلب بالأوراق والصور
ملا الذي كان قبل الآن ، فانتحري
مرت سنينك يا ليلى على عجلٍ
فارمِ وريقاتكِ الثكلى ولا تذري
ابكي اشتياقاً ولا ابكي لفاتنةٍ
نأت ولم تبقِ لي شيئاً سوى الصور
ما الليل بعدكِ إلا بعض ملحمتي
اشكو هواكِ لنجمٍ غاب أو قمرُ
ص45
وليس ببعيد يثير نص " النار والحطب " مكمن الحب فيتعالى صوت الشاعر العاشق في مخاطبته للحبيبة ؛ فهو هنا يمارس دور الأستاذ المجرّب فينهال بنصائحه على العاشقة التي تبدو قليلة التجربة بحيث راحت تبكي من أول مخالفة موعد أو فراق وقتي ، أو هي الحبيبة التي غابت لزمن ثم عادت معتقدة أن الحبيب سيكون أكثر شوقاً واشد لوعة سيرتمي على صدر انتظارها يبكي نضوب صبره واحتراق مضاربه ، لكنها تواجه برجل كفر بهذا الحب ، وعلمته أيام الفراق أن الجلد ونكران هجر الحبيب هما الترياق الذي يقيه الموت البطيء أو التعثّر في مطبّات قسوة الانتظار :
كفي دموعك إني في الهوى تعبُ
يكاد يذبح قلب العاشق العتب
إني سئمت جرا الصمت فاتنتي
ما زال فيها سعير الهجير يلتهب
ماضٍ وأيقظ في الأضلاع منكِ هوى
يقض من مضجعي ، والشوق يضطربُ
ص39
ويقف عند حالة إنسانية تمتزج فيها المواساة لمشاهدة عراقي من وطنه كفيف يبحث عن فرصة عمل يداري فيها عيشه الضائق ، وليبجل إنساناً لا يستسلم مصمماً على العمل والبحث حتى في أشد حالاته قسوة وألماً :
رجل وأغمض جفنه القدرُ
وبخطوه يتبرعمُ الظفرُ
قد صغت ملحة الكفاح لنا
وارى بقايا اليأس تنتحر
إن فارقت عيناك ضوءهما
لا يحتجب في الظلمةِ القمرُ
آليت أن تلج الوغى رجلاً
ومكافحاً يسعى إلى الظفَرٍ
ص24
الشعر الحر .. باب الدخول إلى الحداثة
وقف العديد من الشعراء موقف المعارض للشعر الحر إبان ظهوره كصرعة أدبية تمزق شرنقة قانون الشعر العمودي وصرامته وارثه القديم الذي يمتد قروناً إلى الوراء حتى بات ديوان العرب يكتب تاريخهم ويعرض مشاعرهم ويدون متطلباتهم وما يعترض سبيلهم في الحياة. وما لبثت هذه الصرعة من الحداثة أن أصبحت واقعاً ؛ وكان على الشعراء كي ما يستمروا على أديم الشعر سائرين أن يكتبوا على منوال مَن ابتدعوه فكتبوا وكتبوا .
وفي مجموعة "جداول تحترق" كان للشعر الحر وجوده على الصفحات ، وبموازاته في مقدرته على الثبات والتأثير مع الشعر العمودي ؛ وقد تعددت توجهات الشاعر في استخداماته له فكان للوطن وجود ، وللحب وجود ، وللمناسبات الإنسانية وجود كذلك للأحداث التي حفرت أسماءها على حركية الزمن . فكانت "إلى الصامدين في الأراضي المحتلة " ، وإلى " ضحايا المجاعة في أفريقيا " ، وإلى " مئات الأسرى المصريين الذين قتلوا ظلماً في معسكرات الأسر بعد نكسة حزيران 1967 " " ، وإلى " الضربات الأمريكية على بغداد يوم 17 / 12 / 1998 " ؛ وإلى " مليون ونصف طفل عراقي ذهبوا ضحية لعبة لأمم المتحدة وتوازن الصراعات " ، وإلى " لبنان والمقاومة اللبنانية " ، وإلى " العابرين إلى الضفة الأخرى من البحر فغي قوارب الموت " ويعني الذين يهربون من الأوطان بحثاً عن حياة أفضل ؛ وإلى " انتفاضة الأقصى " ، والى " الشهيد محمد الدرة " ، وإلى " خائنة " وإلى " امرأة هادئة تملك قليلاً من الشك " وإلى " طفلي سلام " .
وتتميز بعض النصوص في هذا المضمار فتكون إشارة إلى مقدرة الشاعر على التواصل مع هذا الضرب من الكتابة وتناول الأغراض بلغة مقتدرة تستطيع معالجة المواقف والاستئثار برغبة المتلقي .
في نص (لمحة من عصر الطرابيش) يتوجه الشاعر إلى عصر عتيم من حقبة متتالية هيمن فيها الحكم العثماني على ربوع الأمة رافعاً لواء الدين ، متمنطقاً بنطاق الورع فأدخل الشعوب العربية المنضوية قسراً تحت لوائه الزائف في غياهب عتيمة عاش فيها الإنسان العربي أعمى وأطرش إضافة إلى سلاسل الجهل والتخلف التي تكبّل حركته .
منذ أن حلَّ الطرابيش ضيوفاً في بلادي / ل أر شمساً .. ولا بر الزمان / كلما استرجع الماضي لوهلة / يتراءى الصولجان / حملوا التابوت والخنجر / والمخلب والناب / وناراً ودخان / وعرفنا كيف يمضي العمر فينا / ويموت الاقحوان / كيف نحيا في دهاليز البلاغات / وخبث الهذيان / كيف تمتص دمانا / ونغني في حنان / كيف نسعى لسلاطين الخلافة / حاملي نعش طموحات الزمان .
ص. 28
إن "جداول تحترق" من المجاميع الشعرية التي تنتمي إلى الشعر الذي يمكن أن نطلق عليه شعر استيعاب اللحظة عند الشاعر والتفاعل مع الأحداث وقد نجح الشاعر باقر السماوي في عرض ما كان يجول في خاطره من مواقف آثر عرضها خشية أن تحتشد في قلبه لتستحيل جموع آهات لا تكتب له سلامة البقاء . فهو يرميها على المتلقي كي يحصد هذا المتلقي شعراً جميلاً ، ويقف عند منعطفات الأحداث فيتملاها من خلال نظرة الشاعر .
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1303 الاحد 31/01/2010)