قضايا وآراء

السينيكية الامريكية، أو ما بعد الأمركة (1)

وأن تؤسس على الأرض أنبل معبد تم بناؤه لتسبيح وعبادة الأعلى والأقدس والحق، .. وسوف تكون أرضه عبارة عن نصف الكرة الأرضية، .. وسقفه السماء المرصعة بالنجوم .. وحشوده من المصلين عبارة عن اتحاد من جمهوريات عديدة تضم مئات من ملايين السعداء

عن مجلة ديموكراتيك ريفيو عام 1839 جوناوسوليفان من كتابPromised Land , Crusased State /A. McDougall .. وظل هذاالاعتقاد راسخا لدي الأمريكيين منذ جورج واشنطون عام 1776الى بوش عام 2008، فهل ما يزال الأمريكيون بكل انتماءاتهم الدينية والاثنية والثقافية، يعتقدون في مصيرهم المبين بالمعنى (البروتستانتي التطهيرى - التوراتي) الذي رسمه الآباء الأولون الطهرانيون للمجتمع المثالي منذ ما يسمىب عهدماي فلاور عام . 1620ومن حق العالم الذي عاني من ويلات السينيكية الامريكية اليوم، أن يتساءل عن المصيرالمبين الحقيقي لهذه الامبراطورية الكونية التي ستنهاريقينا، فهل ستذوي وحدها بعد أن ترتد الىعزلتها القديمة قبل الرئيس وودرو ويلسون . ؟ أم ستواصل جولاتها التوسعية لتزج بنفسها والبشرية معا في الجحيم والطوفان؟

 

تفكيك أمريكا من الداخل لفهمها من الخارج

بدأ متخصصو السياسة الأمريكية الخارجية في مراكزبحوث الولايات المتحدة وكندا وأوروبا وروسيا واليابان ومنظروالعلوم السياسية وفلسفتها، يتحدثون عن استخلاص العبر والتوقعات المنتظرة على المدى القريب في أمريكا من خلال اعادة درس ما بعد الاتحاد السوفياتي للعصرالجديد لما بعد الأمركة، باعتبارأن الولايات المتحدة كنظام امبراطوري، وكقوة عظمى اقتصادية قد انهارت، وكقوة عسكرية هي قاب قوسين أو أدنى من السقوط الأخير، أما اجتماعيا وثقافيا فهي لم تكن قط نموذجا حضاريا ولا ثقافيا بالمعنى الانساني لا لنفسها ولا لغيرها

ماهي الشخصية الأمريكية؟

لقد رافق ايجاد الولايات المتحدة على القارة الأمريكية الشمالية خصوصيات واستثناءات (ذكرت الكثيرمنها في مقالات سابقة)، أهمها ما يسمى ب الشخصية الأمريكية الخصوصية التي اصطلح عليها بشخصية الفرونتيير أو(الحدودي)، التي ولدت تلك الاندفاعية النفعية للرواد الأوائل لاجتياح الغرب الأوسط الأمريكي، ثم الغرب الأقصى، حتىالانتهاء بفتح القارة بنهاية القرن التاسع عشر، بالوصول النهائي الى المحيط الهادي

وقد اتسمت تلك الاندفاعية المهاجمة بكل ضروب النهب والتخريب، التي طالت الغابات والحيوانات - وخاصة الثيران والخيول البرية - وشملت البحث المحموم عن مناجم الذهب والفضة، كما وصفها جيدا المؤرخ والأنثروبولوجي الأمريكي والتر سكوت في كتابه الفرونتييرالعظيم حيث يخلص الى أن عقلية الفرونتيير، هي التي أضفت طابعها على سيكولوجية الأمريكيين الأوائل، وغذت افكارها وطبعت مؤسساتهاوأفرزت مناخا فكريا خصوصيا ولد - فلسفيا - المذهب البراغماتي كفلسفة او عقيدة اقتطافية هجينة لمزيج لقيط للفكرالنتشي الألماني في تعاليه وعنصريته وعدميته، وللبروتستانتية في تصهينها وتمجيدها لليهودية التلمودية، وانتقاءاتها الثيولوجية الكنسية الغربية، والنفعية الاقتصادية الأنجلوساكسونية في ماديتها وبرودتها ولا أخلاقيتها، ومن التطورية الداروينية السوسيولوجية: في طروحاتها للانتقاء الطبيعي، والبقاء للأقوى، أو الأصلح أوالأنفع التي أعطت على المستوى السيكولوجي، والاجتماعي عقلية the : bestالأمريكية، وهذه العقلية الخصوصية هي التي ولدت لاحقا بعضا مما يلي على سبيل المثال لا الحصر:

- انجرارالولايات المتحدة مبكرا، الى مراحل التراجع والفوضى بسبب حملها لميكروبية الانحطاط المبكر، بادئة بمرحلة التفكك الأولي، بسبب البؤس المتزايد حتى في مرحلة ازدهارها الاقتصادي لما يسمى ب أمريكا الأخرى الغير المرئية - التي لا يعلمها الا الله وطوكفيل Tocueville، كما أشاربكل ظرافة البروفسور أ. مكدوجل أستاذ التاريخ والعلاقات الدبلوماسية بجامعة بانسيلفانيا - وهي غيرأمريكا هوليود ولاس فيكاس وفرانك سيناترا، ومسلسلات دالاس

- 55 مليون من السكان يعيشون تحت عتبة الفقروالميزالعنصري والتفكك الاجتماعي، بسبب الفراغ الفوارق الطبقية المذهلة، والجريمة المنظمة والمخدرات والرشوة والمضاربات المالية الطفيلية الجشعة الهوداء التي أدت على مدار السنوات الى ما وصلت اليه الولايات المتحدة نفسها والعالم باسرها من كوارث اقتصادية لا يمكن حلها ولو بعث من جديد هوبزوهيوم وريكاردووليبرمان من قبورهم

- محاولة الحكومات المتلاحقة (جمهوريون وديموقراطيون) تجميل صورة أمريكا عبرتهريجات اللوبيات المستفيدة، - وقد أفردت لهذا الجانب بحثا مطولا، سابقا) وخاصة عبر الاعتماد على القوة التقنية للأسلحة لارهاب الدول المارقة علىالارادة الأمريكية (ولا تزال أمثلة مأساة نغازاكي وهيروشيما والمكسيك، وكوريا والفيتنام والعراق وأفغانستان واليمن والمهازل اللأخالاقية في استحداث حروب هوليودية جديدة على غرار11 سيبتمبر، وزلزال هايتي المريب، ولاغرابة في ذلك فان الحاجة أم الاختراع وما لايتم الوصول اليه بالمجابهة فمن حسن الفطن التوصل اليه بالحيل واللاأخلاق وتلك هي السياسة بمفهوم الدهائيات

- قمع الدول المتخلفة المجاورة من المكسيك، الى أقصى دويلة في أمريكا اللاتينية، عبرالانقلابات التي تدبرها المخابرات الأمريكية، حتى لا تتمتع بالسيادة لتبقى دائرة في فلك الهيمنة والتبعية والفقر

- ممارسة الضغوط اللاأخلاقية بالارهاب والضغوط على الهيئات والمنظمات الدولية الرئيسية مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، بخنق الدول الضعيفة عبرالقروض الربوية المجحفة، وجعلها تابعة دوما للقرارالأمريكي

- الرشاوى السياسية لحكومات العالم الثالث والضغوط على الحكام لقمع شعوبها

- تركيع الدول الخارجة عن السيطرة المباشرة عن طريق الاملاءات المذلة والبشعة كما قال كيسينغر في عام 1973 لقد حققنا عن طريق المنظمات الدولية ما لم نحققه عن طريق الحروب

ومن جهة ثانية، فان الباحث لايمكنه أن يعثر في تاريخ الولايات المتحدة القصير، على أية ثقافة، أوحضارة، منذ تاريخ وصول المجموعة الثانية الأكبر من البرتستانت البيوريتانيين (التطهيريين) الى شاطئ نيو انجلاند عام، 1620 كبداية حقيقية لمشروع البيض الاحلالي والاستيطاني، وان كان بعض المؤرخين الأمريكيين لا يعتبرونه كذلك، . .

فبينما نجد أن أوروبا العجوز، قد لعبت فيها الثقافة والايديولوجيات والفلسفات المتعارضة والمتقاطعة والمتقابسة دوراهاما في الحياة الاجتماعية والسياسية وفي العقد الاجتماعي عبرمسارها التاريخي الطويل، سواء في مرحلة أوروبا المسيحية أو عصرالأنواروالثورة الفرنسية، أوالنزاعات القومية والدينية، أو قيام الثورة الثورة الصناعية، ثم الثورة الماركسية الخ . . .

 

و لن نجد في تاريخ الولايات المتحدة الحضاري سوى:

- ملاحقة الهنود الحمر للاستيلاء على أراضيهم اما بخيارات الابادة الجماعية، أو بجهنم الاعتقالات في المحميات ومعاملتهم بأحط أنواع المعاملات التي لا تليق حتى بالحيوانات التي تتمتع بحماية المنظمات والجمعيات، ثم غلبة قانون الغاب بين البيض البيوريتنيين أنفسهم للاستحواذ على النصيب الأوفرمن الثروات المغتصبة من أصحابها الهنود الحمر

- اختزال القيم والمعنى والخيرو الجمال والحق والسعادة والحياة كلها، في اطار ضيق محصورفي مجالات الحبور الجنوني في تنمية أسواق الألوهيات الجديدة للمال وأسواقه ووحدانية وول ستريت (التي تبخرت فيها أموال الأمريكين بسحرساحرو بين عشية وضحاها في أواخر2008). . وعبرتنمية الممتلكات للأراضي والثروات المنهوبة التي أشادت بها امبراطورية هوليود وحولتها الى المناقب الأمريكية العظمىعبرأفلام رعاة البقروحياة الفارويست ولذة ابادة الهنود، والدخول في ملاحم حروب الكل ضد الكل والكل ضد الاشرار، وهؤلاء ضد الأطهار وهكذا في دوامة لا تنتهي(التي يبرع فيها أوباما الذي سيخلص في النهاية الجميع من الجميع) حيث انمحت من الصورة والمشهد الأمريكي كل ادعاءات الطهرية المسيحية في العلاقات الاجتماعية للمجتمع الأمريكي(الذي تزخر فيه أكبر تجمعات سوبرماركت للهرطقات الدينية في العالم وأكثرها عددا)، وتلك هي المرجعية التبريرية لمحاربة الأشرار وللحملات الخارجية ضد الشيوعيين والكونفوشيوسيين في الحرب الباردة، وهي ذاتها الحملة ضد الارهابيين المسلمين –على هدي صراع الحضارات وبث كل أنواع الفوضى الخلاقة في الزمن البوشي، والهدامة في الزمن الأوبامي، ونتساؤل في ما اذا كان يحق لرجل الشارع العادي أن يسأل:من أي معين ثقافي وحضاري وديني وأخلاقي يغترف هؤلاء ؟؟

للبحث صلة

 

د. الطيب بيتي /باحث مغربي أنثربولوجي / فرنسا/بباريس

baiti@hotmail. fr

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1304 الاثنين 01/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم