قضايا وآراء

سلام الأصدقاء الأعداء

الأجداد للأحفاد كجزء من ذكريات المجد والبطولة الغابرة. وفي هذه الحكايا يوجد عادة كما كبيرا من التحيز والمغالاة والأحداث الوهمية المصطنعة التي يراد منها تضخيم بعض المواقف أو تلميع مواقف البعض. كما كانت هذه الحكايا تستخدم في أغلب الأحيان لتبرير الصراع عبر التاريخ، لأن دلالاتها عند كل طرف تختلف عما هي عليه لدى الطرف الآخر.

لم يخلد السرد القصصي ولغته المنمقة الحوادث المأساوية فقط بل ساهم أيضا في تنمية شعور الحقد والكره  تجاه الآخر ، وحفز الشباب لتقليد أجدادهم والبحث عن فرص يثبتون من خلالها رجولتهم ليصنعوا لأنفسهم قصصا يرويها الأجداد للأحفاد مجددا.

تجاوزت بعض الشعوب المتقدمة معاناة الماضي واجترار قصصه بالتركيز على صنع الحاضر من خلال دمج مجتمعاتها ضمن أطر حياة فيها الكثير من نكران ألذات التاريخية والتغاضي عن بعض قصص التاريخ  الماضي ذات الحساسية الكبيرة والتأكيد على الحاضر وبطولاته وتمجيدها وتمجيد ألذات لا تمجيد الأجداد.

ولكن أمما وشعوبا أخرى عجزت عن تخطي هذه العقبة وبقيت عالقة في أجواء المآسي التاريخية ولذا رافقت المآسي حياتها ولا زالت.ومن أمثلة ذلك ثلاث نماذج عايشنا معاناتها في العصر الحاضر وشاركنا في صنع أحداث بعضها مباشرة. حيث تغلبت لغة العنف الموروث على لغة العقل والتعايش لأن العقل نفسه كان محصورا في أجواء التاريخ ولا أقصد التاريخ كله بل الجزء المظلم منه فقط حيث نجد أن النماذج المختارة الثلاث نسيت كلها المشتركات التي تجمعها وأكدت على ما تختلف فيه مكوناتها فيما بينها وأعطت للماضي أهمية تفوق أهمية حاضرها ومستقبلها :

كوسوفو التي نسي أهلها  البطولات الرائعة التي أبداها الأرثوذكس الصرب و المسلمون الألبان بالقتال سوية ضد جيش السلطان العثماني مراد الأول الذي توجه في 1389 لاحتلال بلادهم فدخلوا بعد وفاة رئيسهم (تيتو)  عام 1980 بحرب مأساوية كانت دوافعها سياسية  ودينية جرت الويلات على الطرفين. وهي الحرب التي نجح المجتمع الدولي بالسيطرة عليها من خلال التدخل المباشر .

و رواندا الدولة الأفريقية التي سكنها شعبي الهوتو والتوتسي وتزاوجا فيما بينهم وتكلموا لغة واحدة هي (الكينيارواندا) فتحولوا إلى شعب واحد يعيش حياة مستقرة.واشتركوا سوية بالقتال ضد الاحتلال البلجيكي لبلادهم. فهم عاشوا أيضا مأساة حقيقية ارتكبت فيها مجازر وحشية منذ عام 1980 لتصل في عام 1994 إلى إبادة جماعية قتل فيها الهوتو خلال 100 يوم أكثر من 800000 من التوتسي في صراع دوافعه مادية واقتصادية بحتة بعيدا عن الدوافع الدينية والسياسية كما حدث في كوسوفو. وهنا أيضا كانت للمجتمع الدولي كلمته وفعله الذي مكن  الجبهة الوطنية الرواندية في 1994 من تشكيل حكومة وحدة وطنية صاغت خلالها دستور البلاد وأجرت في أغسطس/ آب 2003 انتخابات ديمقراطية  لإعادة بناء البلد.

والعراق البلد الذي يمتد تاريخه في عمق الزمان وتمتد حضارته إلى 6000عام من عمر البشرية.  البلد الذي تعرض لكل صنوف  الاستعمار لأكثر من ألف عام  وقاتل أهله سوية كل هذه الصنوف وطردوها من أرضهم.

تكمن مشكلة العراق ليس فقط في التنوع المذهبي والديني والعرقي الذي يتكون منه شعبه حيث الإسلام عدة مذاهب وفرق أشهرها الشيعة والسنة اللتان تضم كل منهما عدة فرق فرعية، والأديان وأشهرها الإسلام والمسيحية واليهودية والصابئية والإيزيدية. والعرقيات وأشهرها العربية والكردية والآشورية والكلدانية، بل أيضا في عدم  وجود قيادة وطنية حقيقية تأخذ على عاتقها تنمية المشتركات بين المكونات في كل تاريخ العراق الحديث منذ 1921 تأسيس الدولة العراقية الحديثة ولغاية عام 2003 ولذلك بقيت الصراعات والمشاحنات والكره  الذي تجمع عبر التاريخ الطويل فاعلة ومؤثرة ، وكانت العواطف مشحونة بالخوف من الآخر نتيجة سنوات القهر التي عاشها العراقيون خلال الأربعين سنة الماضية تحديدا والتي تعرضت فيها بعض الشرائح للإهمال والإبعاد والحرمان وحتى الإذلال! إضافة إلى أننا بكل فئاتنا وأعراقنا عملنا تماما كما تقول ربيكا كاتالدي (مساعدة برامجية في المركز العالمي للأديان والدبلوماسية، وطالبة ماجستير بجامعة جورج ميسون، معهد تحليل النزاعات وحلها) ضد بعضنا وليس ضد المشكلة التي نعاني منها جميعا.

وقد جاء التغيير في 2003  بدخول القوات الدولية بقيادة أمريكا ليعتقد بعض الناس أن زمن الأزمات قد ولى، وأن الحقوق ستعاد إلى أصحابها، والنظام الطبقي حيث التمايز في المواطنة سينهار، والديمقراطية العادلة ستحل بدل الحكم الشمولي الفردي.

 وفعلا عاش العراقيون لمدة ستة أشهر كاملة بدون حكومة ولا رجال أمن ولا شرطة ولا جيش ولا قانون  في وئام ومحبة عجيبين حيث اختفت بشكل شبه كامل الجرائم والسرقات والمشاحنات الروتينية بين الناس لدرجة أن المجتمع كله تحول إلى مجتمع مسالم  ملتزم بما في ذاكرته من قوانين وأنماط سلوك سوي، وتحولت البلاد لتعيش في مرحلة سلام مستقر !

لكن القيادات السياسية التي استلمت زمام الأمور فيما بعد ساهم قسم كبير منها في تضخيم حالة الخوف الديني والسياسي والعرقي لدى المواطنين من خلال الرهان عليها لتحقيق المكاسب السياسية لأن بعضهم فشل في تحقيق القيم التي كان ينادي بها ، إضافة إلى تدخل الأطراف الثالثة  التي يملك كل منها أجندة خاصة به وأغلبها من دول الجوار، ودخول تنظيم القاعدة الإرهابي ، وتردي الوضع الاقتصادي وفقدان الخدمات ساهمت كلها في  تحول السلام  المستقر إلى سلام غير مستقر ثم  إلى أزمة وصراع دموي خلق حالة من الفوضى التي رافقها التدمير والقتل والتهجير بشكل تفوق وحشيته ما لدى الحيوانات مما خلق حالة من الفوضى الخلاقة التي لا زالت مستمرة لحد الآن !

لقد قيم المجتمع الدولي خصوصية الحالة العراقية فأدرك أنه غير قادر على لعب نفس الأدوار التي لعبها في النماذج السابقة (كوسوفو و رواندا) وأيقن إنه يحتاج إلى آليات عمل جديدة غير تلك النماذج التي استخدمها هناك، وأن العراقيين أنفسهم يجب أن يكونوا جزء من الحل بل الجزء الأكبر فيه.

كما قيم العراقيون حالة بلدهم التي وصل إليها بعد ست سنين من الصراع الدموي فوجدوا أن طريق الحوار والانفتاح على الآخر ومد جسور التواصل معه وتفعيل دور المشتركات والحد من الخلافات والاحتكام إلى منطق العقل هو الحل الامثل والأكثر موائمة لروح التفاعل الإنساني.

 ولذا عملت أغلب المكونات العراقية على الحد أو إيقاف العمل بالسلوكيات التحفيزية والمثيرة للطرف الآخر وفتحت حوارات بينية على مستوى القيادات السياسية / الدينية / الفكرية / المجتمعية/ العشائرية/ العلمية. كما وغيرت القيادات المشاركة في العملية السياسية من لهجتها الحادة وخطابها السياسي الطائفي المنفعل وبدأت تهديء الموقف وتدعوا إلى تحالفات جديدة، ومصالحات ، وحوارات. وكذلك نشطت بعض المؤسسات الحكومية مثل لجان مجلس النواب في أداء دور وحدوي جديد بعيد جدا عن مواقفها المتشنجة السابقة. ومؤسسات المجتمع المدني التي كانت تدعو إلى حوار متمدن بين المكونات

كما عمل الجانب الدولي ممثلا  بمعهد السلام الأمريكي بالتعاون مع لجنة الأوقاف والشؤون الدينية في مجلس النواب العراقي من خلال ورشات العمل المتخصصة التي أقامها في أربيل  داخل العراق واستانبول العاصمة التركية على تدريب وإعداد مجموعة مميزة من كل شرائح الطيف العراقي على آليات تحليل وحل الصراعات الجديدة لكي تقوم بنفسها  بتحليل الصراع وإدارته وحله.

 والظاهر أن هذه السياسة أثمرت خيرا حيث كثرت في الآونة الأخيرة الدعوات لتفعيل لغة الحوار بدل لغة الصدام من خلال الكتابات الكثيرة التي تنشر في وسائل الإعلام والمواقع الالكترونية. والجهود الخيرة  لعقد مؤتمر حوار المذاهب والأديان الذي أتفق على عقده في شهر يوليو/ تموز القادم ، و دعوات التقارب والتعايش التي بدأت ترتفع في أوساط المكونات حتى علا صوتها فوق صوت الرصاص. وتكاتف بعض العراقيين المتخصصين في تحليل الصراعات لتأسيس منتدى حوار المذاهب والأديان العراقي.

إن مجرد توفر النوايا الصادقة المدعومة بالعمل الفعلي والمثابر يعتبر خطوة رائدة على الطريق الصحيح لإعادة الأمن والاستقرار للشعب العراقي . وذلك كله يؤكد بما لا يقبل الشك أن ثمة ضوء ساطع في نهاية النفق وأن العراقيين باتوا على بعد خطوات منه لا أكثر.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1072  الاثنين 08/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم