قضايا وآراء

الماركيز يبتكر أغرب أشكال الكتابة في التاريخ

عدا ذلك يحيط الغموض والضباب سيرته العامة عند المتلقي العربي. إذ لا توجد تراجم كاملة لمؤلفاته حسب علمي. فحتى لائحته السادية الأشهر (مائة يوم من السدوم)، لم تترجم بالكامل. وهي نص عن رحلة مشبوهة لعدة أفراد، يصحبون معهم بعض الغانيات لممارسة أشكالا مختلفة من السادية، خلال الجولات الجنسية المحمومة. قسمها الكاتب على عمر الرحلة مائة يوم"1 ". ومن بداية مطاف هذا المقال الذي ينبثق من تتبع الظروف العجيبة والغريبة التي أحاطت بشكل كتابة اللائحة (الماركيزية)، مروراً بشكلها النشري الأخير. والذي لا يقل غرابة عن ظروف كتابتها. صعودا لمتابعة بقية الأشكال التي أنجز بها بقية كتبه. حتى اتجه مساره وأشكاله الكتابية نحو خاتمة تراجيدية هي اقرب ما تكون لميثولوجيا الأساطير. تأسيسا على هذه الإشارة لابد من التنبيه بداية، بأن المقال ليس معني بنقل فقرات معينة من كتب (الماركيز) للتعريف بها أو تسليط الأضواء عليها. ما يعنى به المقال أساسا متابعة ظاهرة تعد من اغرب ما وصل ألينا من ظواهر ثقافة الأشكال والأساليب الكتابية. منذ أن اكتشف الإنسان السومري أول الحروف وكتب منها النصوص إلى يومنا هذا. وعلى ذلك سيتابع المقال هذه الغرابة باعتبارها تشخص تجربة فردية انطلقت في فضاء زمكاني محدد. فبثت ذبذباتها ونشرت جيناتها التأثيرية فيه ليتكاثف بالشحنات الفكرية الهائلة، نافخا دخانه على أبناء الجيل الذي يشغل حيزه. فاختلفت أمام هذا الطقس المشحون بالتسارع استجاباتهم. وحدث التضاد في الفكر ففريقا يؤيد وأخر يعارض، والبعض يقف صامتا. ليبتدأ الصراع متسارعا سرعة الحراك حتى استقر أخيرا، بعد توضح الطقس الغائم نوعا ما. واصبح مستساغا على السنة المؤيدين. الذين شكلوا قاعدة جماهيرية مجتمعية توحدت في الرؤى والأهداف، لأنها عاشت في محيط إشكالي جدلي موحد. افرز بالتالي ظواهر اجتماعية موحدة بين المؤيدين، وموحدة بين المعارضين. شكلت وحدتيهما المتضادتين حلقة من حلقات الذاكرة الإنسانية. المنبثقة انبثاق التاريخ نفسه. وبتتبع خيوط هذه الظواهر التي لا يحدها حد في اجتياز فضائها الذي تولد فيه لتنمو وتتوالد في الأزمنة والأمكنة. فتتلاغى معها الأجناس والأقوام والأديان، إذ المعرفة البشرية هي نتاج ما يتبدى من كل التنويعات الإنسانية المتكاثرة كثر البشر أنفسهم. ولنشرع بعرض أول شكل (سادوي ) كتب به ( الماركيز) مسودته النفسية. وقبل ذلك لابد من الإشارة إلى نقطتين أساسيتين ثم الولوج بعدهما إلى الغرض المطلوب.

النقطة الأولى: لشحة المصادر العربية التي تسلط الضوء على (الماركيز) ونصوصه- بالنسبة لي على الأقل رغم بحثي المتواصل . سأخوض المضمار بلا وسائل مساعدة من مصادر كتابية أو مواد معرفية. ومرجعي الأول والأخير معلومات مختصرة عن كيفية كتابة المسودة. اطلعت عليها من مدة زمنية طويلة تصف الظروف الصعبة والاستثنائية التي كتبت بها- وهو نفس المصدر رقم واحد- . واطلعت في نفس الفترة على تحليلا مختصرا لم افد منه هنا لعنايته بالحالة النفسية للراوي لا بشكل كتابته*.

 النقطة الثانية : يحوي الشكل الكتابي غرابة وفرادة ليس لها ما يماثلها في أي تجربة أدبية أخرى. وهو يؤشر برائه اختراع كتابية ونشرية لم يعرف مثلها في التاريخ البشري الطويل. وبالحاظ محيطها الظرفي الذي كتبت فيه تبدوا اشد تفردا. وهذا الشكل لوحده يكفي لان يكتب فيه مقال ويكفي أيضا تبريرا لعنوانه. ولا يبقى ألا تبديل مفردة أنواع الواردة فيه مع الاكتفاء بهذا الشكل إلى نوع، وهو ليس بالفارق المهم. لكن عدم الاكتفاء بالشكل الأول جاء من صدفة - لولاها لما كتب المقال أصلا- دفعت بي نحو مصدر هائل أمدني بمعلومات كثيرة استطعت أن أتابع أهم ثيمة في ركامها. يستعرض المصدر الجديد الأشكال الكتابية المنوعة التي كتب فيها (الماركيز) باقي نصوصه. وقد تنوعت وفقا لتنوع ظروفها الموضوعية. فبعد إنجاز مسودتين أو ثلاث يضطر محكوما بضاغطية ظروفه، إلى تغير الشكل الكتابي السابق، والانتقال إلى شكل آخر اكثر صعوبة واخطر إنجازا. أضفت الأشكال الكتابية الجديدة إلى الشكل الأول فصرن لوحة سريالية . إلى أن الوثوق الكامل بهذا المصدر يعد مجازفة كبيرة. لأن التأكد من كون معلوماته تنتمي إلى التاريخ (الماركيزي) بشكل مطمئن غير متيسر. فالمصدر ينتمي إلى فن صناعة الأفلام. وطبيعة النقل التاريخي (الفيلمي)، لا تتقيد أمام التاريخ بتسليم مطلق ونقل حرفي. بل أسلوبها التمازج بين التاريخي -الماضوي- وإبداع المخرج -الحاضري-. وعليه لا يمكن الوثوق بواقعية كل الأشكال الكتابية المفروضة فيه. وان كان بعضها قريبا من الواقع خصوصا مع قراءته بوعي مقارن مع الشكل الأول الوارد عن مصدر أدبي، ينقل من مصادر تاريخية معاصرة للأحدوثة. لا يصعب عند إذ القول بأن من استطاع النجاح في الشكل الكتابي الأول، مع كل ملابساته يستطيع أن ينجح في الأشكال الكتابية الأخرى. ولو باستبعاد شكلا من أشكالها. وتبقى مسألة الجزم في ضمير المصادر التاريخية والأدبية المهتمة بالسيرة (الماركيزية) المفصلة أن وجدت.

 

1-ا لمصدر الأدبي /

أ-:الشكل الأول:

يسجن(الماركيز) لسبب غير واضح في المصدر. والبت في خطورة مرضه النفسي لم يحسم بعد. فأودع (الباستيل)السجن المعروف. كان ذلك في فترة تستشرف اندلاع ثورة. فالأوضاع متأزمة على كل الأصعدة، والدخان يتصاعد خفيفا في الأفق. محفزا حالة الطوارئ، لتشديد الرقابة في كل المجالات. خصوصا المجال الفكري والثقافي، الذي اتسع مقص الرقيب لامعا بحافتيه الحادتين ملوحا لهما بعقوبات مجحفة. لأي كلمة تحرض على الانقلاب، أو تكتب بما لا يتناسب وذائقة البلاط. وفي( الباستيل) لم يكن الحال مغايرا، فرض الحراس سطوتهم بالبطش الشديد. فلا تهاون مع الهفوات البسيطة فضلا عن الأخطاء المشبوهة. وتكثفت المباغتة السريعة إلى الزنزانات. وعد الورق وريش الكتابة من اخطر المحرمات داخل الحرم (الباستيلي) .هذه هي الأجواء العامة في تلك الفترة المظلمة من تاريخ فرنسا . أحداث موصوفة بدقة بالكتب التاريخية التي تؤرخ تلك الفترة المعروفة بملابستها للأعم الأغلب فلا داعي للإفاضة فيها. يذكر المصدر بأن (الماركيز)، تمكن بطريقة وأخرى من الحصول على ورقة طويلة- نستطيع أن نماثلها بورق وصولات الدفع المرتبطة بماكنة وهي على شكل شريط ورقي طويل-، ويظهر أن الصعوبة لا تكمن في الحصول على الورقة فقط. بل المحا فظة عليها من الزيارات المفاجئة للحراس اشد واكثر صعوبة. فما الذي فعله (الماركيز) للمحا فظة على مسودته . يقول المصدر: أنه ينجح بقلع حجرا صغير من جدار السجن بعد مدة من أعمال الحفر ألا قانوني. يخبأ فيه الورقة كلما كتب فيها بعض السطور. ولنا أن نتخيل ألان حجم المخاطرة والصعوبة في تحصيل ريشة الكتابة والمادة التي يكتب بها. والتي يمكن تخيلها من البركان دون الحبر. وبعد كل هذه المخاطر والظروف الاستثنائية تكتمل المسودة. لتبدأ مرحلة اصعب واكثر غرابة من كتابة المسودة. التي توضع في رحم قارورة زجاجية يغلق عنقها بباب لا يفتح بسهولة - ألا بكلمة السر سمسم -، ويرمى بها في عمق البحر الطويل الحجم والهائج الأمواج. فتسبح القارورة بصبر وتتماسك بحزم متماثلة مع حزم وصبر مرسلها. تتماوج بانسياب مطبقة بأنيابها على درتها الثمينة. واخيرا بعد جهد وبلاء وزمنا متطاول. تصل حافة أحد السواحل خارج الحدود التي انطلقت منها . وهناك يتلقفها شخصا ما بلهفة، وكأنه ينتظرها منذ أمد بعيد. يفك قفلها ويفتح حمولتها بقلق وارتجاف . يحدق مشدوها لا يفهم جملة من كلماتها الأجنبية. وفوق ذلك تحاشت سطورها، ودقت أحرفها الناعمة الملتفة على نفسها. يجهد في البحث على من يترجمها بصعوبة. ويجد لها ناشر ينقده مبلغا محترما. ويشترط على الناشر أن يضع اسم مؤلفها. وبعد فترة ترى الرواية النور وقد نقش اسم (الماركيز) فوق غلافها . سنترك التعليق على هذا الشكل حتى بلوغ الخاتمة ولنتحول ألان لنبين ما في الجعبة من أشكال كتابية أخرى. 

 

2: - المصدر السينمائي- الفيلمي- \.

 بالنسبة لهذا المصدر المتحرك صوتيا وصوريا يحمل عنوان ذو دلاله مهمة لبطله الرئيسي. إذ عنون: ( QUILLS)، يلعب الدور الرئيسي الذي يحاكي ( الماركيز) (jeoffrey ). تشاركه البطولة (katewinslet) وأخرجه philip kaufman ) يبدأ المصدر بمشهد مشحون دلاليا كما عنوانه. من أحداث الغوغاء والشغب الشعبي الهائج مع هياج وحماسة الثورة. وتطل علينا آلة بشعة مرعبة أنتجتها العجرفة البشرية والفوضى ألا إنسانية. ( فالمقصلة) في المشهد تتأرجح طائرة هابطة، والرؤوس البشرية تتهاوى على أطرافها ( متأقصلة) تتقاطر الدماء من رقابهم ومن شفاه معدمتهم ذات الحديد اللامع "2". ويظهر(الماركيز) يراقب المجزرة البشرية هذه من خلف ستار حجرته في المصح العقلي. بينما تعابير وجهه لا تدل عن ردود فعل رافضة أو موافقة. وفي الربع الأول من عمر(الفيلم) يطل علينا بشكل طبيعي يمارس الكتابة بكل حرية، وهو مجهز بكل ما يحتاج أليه. والحضر الوحيد يتعلق بكونه ممنوع من النشر. خصوصا وان المقصلة تطيح برأس كل من كتب قصة رومانسية عادية. الا أنه يستثنى من ألاقصلة لكونه مريض. لكنه لا يكتفي بالكتابة فهو يريد أن ينشر لئن النشر ما يكتب لأجله. ولقد وجد من يقدم على المجازفة بلعب دور الوسيط بينه وبين ناشر يتكفل مسوداته التي تصدر باستمرار. وفي فترة زمنية محددة تقريبا يحصل على قصة جديدة كلما جاء إلى المصح والتقى الوسيطة . تسير الأمور هكذا دون حدوث مشاكل خصوصا وان الوسيطة حذرة. لكن وبعد توالي النشر تصبح الروايات متداوله على نطاق أوسع، وتصل إحداهن يد الدكتور المسؤول عن المصح، ويخبر بدوره راهب المصح. الذي يباشر من فوره بالاتجاه نحو الحجرة. يلفاه جالسا يكتب كعادته يجرده من الورق وريش الكتابة والحبر لضمان عدم استمراره بنشر رواية جديدة فما الذي يفعله.

 

 ب: أشكال الكتابة المتبقية \

الشكل الثاني: يظُهر هنا إصراره وبراعته الفائقة في قهر اعتى ظروف المنع النشري للكتب. فما أن تصل وجبة الطعام المخصصة لنزلاء المصح ويكون حيينها مشحونا بالعناد والإصرار كما الأفكار، التي يبدو أن سيلها لا يتوقف عن وعيه. يفتح بطن وجبته الدجاجية، يستخرج منها عظم يشبه المقص الصغير. يلتهم الدجاجة بشهية ليمسك بكأس النبيذ الذي يقدم مع الطعام. يغمس العظم في حبره الأحمر، ولا يجد صعوبة في أن يعثر على ورق. فسريره مزود بشر شف ابيض من أروع ما يكون. وينهي كتابة مسودة نبيذيه قماشية نقشت حروفها بعظمة دجاجيه. أصبحت أخيرا قصة جديدة سلمها للوسيطة فأوصلتها إلى الناشر لترى النور.

الشكل الثالث : يكشف أمره أيضا من خلال انتشار روايته الجديدة. ويجرد هذه المرة من كل أغراضه حتى بعض اللوحات العار يه المرسومة على ورق. فيبقى وحيدا مع جدران حجرته الفارغة. وفي مكان من الحجرة توجد مرآه مثبتة على الجدار، لا مندوحة من الالتجاء أليها. لتحويلها ألا وسيلة من وسائل الكتابة. وبعد تحطيمها يمزق بزجاجها بصمات أصابعه وأطرافها فيتجمع لديه دم كثير، يكتب فيه على صفحة ثيابه هذه المرة وعلى جوربيه وحذائه.

 

الشكل الرابع : يجرد عندها من كل ثيابه ويبقى محاصرا بالفراغ مدرعا بالعري. هكذا كما الإنسان الأول وقد هبط للتو في أحضان الطبيعة. فلا يتحيرا في أمره لامتلاكه سحرا لم تعرف له البشرية مثيل فيما يتعلق بالكتابة. انه يعتقد بان الكون سيذوي ويتلاشى أن توقف النشر. وهنا يستعين بأصحابه المجاورين له فيطرح عليهم الاشتغال في مشروع كان قد عمل فيه واكتسب خبرة جيدة. انه مشروع حفر الجدران. فبما أن الوسيطة أصبحت مراقبة بعد اكتشاف أمرها وتم جلدها ومنعت من الاقتراب من حجرته. التي كانت وكعاملة غسيل لثياب نزلاء المصح تأتي أليها باستمرار، فيدس لها مسودته بين طيات الغسيل. ولما جرد من ثيابه انتفت الذريعة. فكان لابد له من التحرك والوصول أليها. وقد تم الأمر بعد اكتمال الحفر الجداري من حجرته، مرورا بحجرات عديدة. ليصل الأنبوب الحفري مخترقا جدارها. فأبتدر لمواصلة مشواره العجيب عبر الكتابة الصوتية. لكن ليس بما يشبه بعض الطرق( الكلاسيكية) في كتابة المذكرات إطلاقا. فهو لا يحب التقليد كما هو واضح من تفرده. فابتدأ ينطق العبارة بوضوح مبتدءا بأول اذن قريبة من شفتيه، لينتظر قليلا ممسكا عبارته التالية بطرف شفتيه متناغما مع أصداء عبارته السابقة بين الحجرات. حتى يسمع أخيرا احتكاكها بالورقة من خلال قلم الوسيطة .

 

الشكل الخامس والأخير : يقطع لسان الماركيز من جذوره لأنه استخدم فن الكتابة النطقية. ويترك مقيدا مع ألمه بسلسال ثقيل مشدود في حلق حديدي معانقا رقبته. فيبتلع قطعة القماش التي توضع في فمه بعد قطع اللسان لوقف الدم المتدفق. ويكتب قصته الأخيرة بماء أحشائه الذي يتدفق من فمه كلما ابتلع القماشة على جدران زنزانته الانفرادية. بخط كبير يزين الجدران شاهدة قبره. ليغمض عينيه فيه محاطا بكتابته وهكذا تنتهي قصة حياته المأساوية .

 

(أسدا ل ستار الخاتمة ):

في نهاية المقال الذي تشكل وتفاعل ( أدب – سينمائيا) كان بودي أن أشير إلى بعض الملاحظات النقدية للمصدر (الفيلمي). الا أن هذا مما يخرجني من هدف المقال. ولعلي أقوم بذلك في فرصة قريبة. فلا يتبقى في الذمة سوى اللمسات الأخيرة لاكتمال الشكل النهائي. واضح من سياق القصة المختصرة- للشكل الأول- أنه اعتمد الكتابة الذهنية لتدوين مسودته مستخدما قلم التركيز الواعي. وهذا يبدو معقولا ومحتملا أن لم نقل واقعا. فالأجواء تشير إلى كونه كان قد خطط من اجل المباشرة بكتابة روايته من وقت طويل. وارى انه أنجز قسمها الأكبر وخريطتها العامة في دفتر لا وعيه. لذا هيئ الأسباب لنقلها سريعا. لقناعته بان الإبقاء عليها داخل الزنزانة لوقت طويل غير مأمون أبدا، ومحفوف بالمخاطر. التي على رأسها مصادرة الرواية المخزنة في رأسه منذ زمن بعيد. خلال مباغتة تفتيشية أو عن طريق الوشاية. وبذلك سيخسرها إلى الأبد، لأنها لم ترى النشر الذي خطط له أولا، وهي قاب قوسين من التفكك من وجودها الذهني الذي بدا بالتراخي بعد أن احكم قبضته عليه بقوة لزمن طويل ثانيا. فكان مهيئا بالكامل لنقل المسودة على الورق. لأنها مكتوبة في ذهنه أصلا. وأنا استفيض في تأكيد ذلك لتتمظهر إمامي بعض ملامحه، التي لا املك عنها أي مفتاح نفسي مهم. وللأسف اتفق مصدراي السابقان-الأدبي والفيلمي- على إغماض ذلك كما قلت سابقا. ولا أستطيع التأكد من كونه مارس(ساد يته) على أجساد سطور رواياته والتذ نفسيا بالآم ودماء وصراخ شخوصها، أم انه مارس المسالك السادية خارج حدود النفس. وهذا ما يسكت عنه المصدرين. اكثر من ذلك يتحول في (الفيلم) إلى ضحية يمارس بحقها أنواع العذاب. ألا انه ومن منظور (الفيلم) نفسه، يتمتع بقوة وعي على درجة عالية من العافية. وهو من أصحاب الذكاء المفرط. لكنه يعاني من مشاكل نفسية ترتد في أسبابها إلى دوافعه الجنسية بالشكل الأساس. وعلى ما يبدو انه لم يكن موفق أبدا في أيجاد امرأة تتفهم بعض رغباته الغريبة ذات الذائقة النوعية. لذلك يحتقر زوجته ويهينها حينما تأتي لزيارته في المصح كما في الفيلم. لأنها لم تتمكن من فهم وتلبية نزواته. فلم يستطع التنفيس عن مضغوطات رغباته حتى اختنق بالضغط. ولأنه كان ذا مخيلة مذهلة وفائقة كما يتبدى ذلك من استمراره بالكتابة دون ملل أو تعب، ومع المخيلة الواسعة ذاكرة تمتص الحوادث وتستعيدها برائحتها مهما طال بها الزمان. فقد التجئ إلى الكتابة ينفد فيها رغباته وينزل خلال انسيابها ثقل الأفكار الملحاحة والمتكاثرة في رأسه. وبغض النظر عن كواليس نفسه العصية على إسبار أغوارها، حيث لا سبيل ألا الولوج إلى دخيلته ألا من خلال ما كتب. وهذا على فرض قراءته لا يضيف كشفا نفسيا معتمد- إلا اذا كان منقول بمصادر موثقة تغطي مساحة كبيرة من سيرته النفسية- اذ لعله يطهر بما يتقيا به علي السطور نفسه أو يحاول التخفيف من ضغط سؤ دخيلته حتى لا تتعدى إلى الخارج. وتبقى صفات شخصيته الأخرى قابلة للتمظهر فلنحاول أن نرسم من ملامحها شيئا.تنبئنا المعلومات التي استعرضناها في شكل الكتابة الأول. انه يتمتع بإرادة حديدية نادرة في قوتها وصلابتها. كما يتبدى ذلك بجلاء من كتابة مسودته في تلك الظروف الاستثنائية. وتتضخم لدينا قوتها اذا تذكرنا ولم ننسى الكيفية التي نشرت بها الرواية. فمن الواضح أن دفعه بالمسودة العزيزة على نفسه والتي تحمل الكثير من اجل نشرها. إلى أحضان ذلك البحر الصاخب ليدل على عدم وجود أي إمكانية للاحتمال، فيفرض أن الرواية قد تغرق، أو لا تجد من يعثر عليها. الى عشرات الآوات المحتملة في هذه الموارد. الا أنه وعن طريق غريزة تشبه السحر كان متأكدا من نشر روايته بنسبة مئوية كاملة. وحين لامس ظهر القارورة كف البحر، قرء الماركيز كف بحر المستقبل. ولعله اعجب بلون غلاف المسودة قبل أن تنشر في بحر الحاضر. ربما قرأ هذه النبوءة بشكل انفعالي هستيري لا يعبئ بالعقل ولا بالمنطق، ولا يعرف عنهما شيء. فصمم نجاح غايته وفق عقليته المنفلتة والجنونية تلك. فجاءت على وفق هواه - وهل يحظى الإنسان بأفضل فرص حياته بغير كسر سلطان العقل وجعله يتمرغ في عقده-. وفي كلا الحالتين يؤشر الإصرار العجيب الذي دفع به للقيام بتلك الكتابة وذلك النشر على قوة مخيلة سيالة، ووعي حاد ومركز، ورعشة وجودية قلقة. يستشف بها غموض الزمن."3" ومع ضم الأشكال الكتابية الأخرى، تصبح مسألة قوة وصلابة الإرادة (الماركيزية) بداهة لا تحتاج الى تفكير. ويبدو أنه يدرك السر في قوة أرادته، ومنذ سن مبكرة. وأدرك أيضا كيف يحافظ على بقاءها وتطورها عبر تعريضها الى تجارب قاسية وشاقة تتطلب قوة تحمل استثنائية"4". واخيرا تبقى حالته النفسية بحسب الطابع العام من المعلومات القليلة رغم جهلنا بأكثر تفاصيلها ليست خطيرة لحد ما -أن كان لم يمارس أفكاره خارجها-. لكن كتبه التي نشرها هي نصوص تحتفي بتلذذات ونزوات خطيرة ليست سليمة. ولعل هوسه بالنشر اكثر من الكتابة نفسها كما ألمحت سابقا، قد يؤشر لفكرة تعميم الشر والسعي الى عدوى الأصحاء ليصابوا بإمراضه. وهذا من اخطر الأفكار والسلوكيات لو انه كان يفكر فيها. اما بالنسبة للأشكال الكتابية، فلا يسعنا ألا أن نستغرب فرادتها ونعجب بعزم وأرادة كاتبها. فيكتب له هذا الإصرار العجيب في تحدي كل الظروف الاستثنائية التي حاولت لجم قلمه . لكنه جعل سطوة كلماته أقوى من كل الظروف. كما أن هذا الفعل الفردي استحال في شكله الأخير، الى لبنة جمعية كونية تضاف كدرس عميق في ثقافة الإرادة البشرية يثبت بأن "الإنسان \ الإنسانية" قادر على النجاح مهما كانت الظروف والأحوال .

 

......................

الهوامش:

 "1" - كتب عن هذه الرواية تحليلا مختصرا عن فكرتها في (المعقول وللا معقول في الأدب الحديث) كولن ولسن. 

"2"- من المفارقات العجيبة في مسار التاريخ الإنساني أن الثورة الفرنسية التي مهد ونظر لها فلاسفة ومفكرون أمثال (فولتيير) و( مونتسكيو) واخرون. وقامت على أساس تغير الأوضاع المزرية والأحكام الظالمة. تخترع في أيامها (المقصلة) بكل بشاعتها. وعلى يد أحد المثقفين والكتاب المشهورين الذي تعرض للظلم قبل الثورة على يد النظام الحاكم حين ذاك. فحمل الحقد في قلبه ليستغل الفوضى أيام الثورة لا من اجل الجماهير ولا الحرية ولا العدالة، بل فقط من اجل الانتقام لا غير. فراح يوجه الجمهور المتحمس والمندفع بكتاباته وخطاباته الرنانة المحرضة نحو الانتقام العشوائي واسترداد الحقوق- بلا حق طبعا-. وهكذا بدأت المقصلة تتأرجح صاعدة نازلة لترا صف تلول الأجساد والرؤوس البشرية. وتتقاطر الدماء منها ومنهم وسط فرحة المجتمع الباريسي المأخوذ حيينها بجمال (المقصلة).  "3"- شخصيا اعتقد بان الأشخاص الذين يتعرضون لأزمة نفسية، حادة والذين يقعون في غياهب الجنون. هم أشخاص ذوي حساسية ووعي عاليان ولا يسع المقام للإفاضة بذلك .

"4"-(إن الإرادة الإنسانية اذا تركت بلا تركيز وبلا تدريب ورعاية فأنها صائرة ولا محالة الى الأفول والاضمحلال) كولن ولسن \ (الشعر والصوفية)\ بتصرف.

 

" لاهاي"

9/1/2009

 

....................

*مقدمة بيترفايس لمسرحيته (اضطهاد واغتيال جان بول مارا).

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1072  الاثنين 08/06/2009)

 

في المثقف اليوم