قضايا وآراء

الأمركة: بين الفرانكشتانية و المابعد (2)

يسيطرعليهم هاجس تحقيق العدالة المستحيلة، وحيازة المال، وخاصة أموال الآخرين، ومواطنون في بلد هوالأقوى.. ولكنه الأكثرفساداعلى وجه الأرض.. البروفسوروالتر . أ. مكدوجال من كتابه -Walter A. McDougal. -Promised Land,Crusad State

 

بعض الحيثيات

ان الحديث عن ما بعد الأمركة أصبح موضوع الساعة لدى الخواص داخل المنتديات السياسية والثقافية، وحتى في دردشات العوام في المقاهي في اوروبا،... ولم تعد مفردة المابعد مجرد مقولة كارثية للفكر الارتعابي الدائرحول خطاب النهايات ، أوتردادا للأطروحات الموغلة في المثالية الموسوسة بتوجسات التخوفات السيكوبائية من النكسات والأزمات، فرارا أواحتماء من فزاعات انحطاط الحضارات، كما كان الشأن في لذة الكتابات القاتمة عن'النهايات في فترة ما بين الحربين، وما بعد الحرب الثانية الكبرى الثانية وما بعيدها مباشرة...

فالسقوط الأمريكي حقيقية حتمية آتية لاريب فيها، ولوكره الأمريكيون،.. الا أن الأمة الأمريكية–أفرادا وجماعات- مع خصوصية واستثناءات بلدهم (الاثنية والثقافية والدينية المعقدة) باقية الى قيام الساعة، كما بقي الصينيون والهنود والعرب والمسلمون بعد أفول نجم حضارتهم ، وذلك بعيدا عن اللغوواللغط والمهاترات المثارة حاليا-عندنا- حول ماهية السقوط ومتى وكيف ، بتلك التساؤلات السخيفة المثيرة لفانتازمات الخيال السياسي والرومانسيات المؤدلحة واسقاطاتها السلبية .. كسؤال الأعرابي لمحمد(ص)عن متى قيام الساعة؟ حيث نظراليه الرسول الأكرم نظرة استغراب، ومجيبا اياه: ليس المسؤول أعلم من السائل، فباغثه بهذا السؤال: وماذا أعددت لها ياهذا؟ .. أوكما أخرس سيد الصحابة الزهاد، وفقيه الأمة والعراق، عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله، حين اعتزل الأمة وحكامها لخيانتهم الأمانة، حيث بصق من كوة بابه الموصد في وجوه وفد من علماء الكوفة والبصرة ، حينما سألوه: فيما اذا كان سقوط الذبابة في الماء ينجسه أولا ينجسه، وصرخ في وجوههم تقتلون سبط نبيكم، الحسين، وتستفونني عن سقوط الذبابة في الماء؟.. تبا لكم.. !!. انها تساؤلات العقول الفارغة في كل امة في كل زمان ومكان، حيث أن من بني جلدتنا من بدؤوايحلمون بمركسة الأمريكيين، وآخرون يتنبؤون بأسلمته فسحقا لعديمي الجدوي والبصيرة من أقوامنا يمنة ويسرى !،.. بينما نجد الغربيين متكدرون ومنكبون في الاشتغال بالبحث في من هم الوارثون القادمون أهم الصفرالتينينيون؟ أم الدببة البيض القيصريون؟ أم أعاجم المسلمين المتمردين على الانظومة(الاسرائيلو-غربية) من شيعة الفرس الساسانيين والذئاب الغبر من الاتراك السنيين العائدين الى قض مضجع الغرب من جديد ، ولا يوجد ذكرلبني يعرب في قوائم الابحاث واهتماماتهم، بالرغم من عزهم النفطي وتعاليهم في البنيان بينما تنشر عنهم الابحاث في استهبالهم في استهلاك الكادجيات وتكالبهم على التفسخ و الملذات

 

وعطفا على هذه المسلمة نقول:

ان الحضارات كلها تنهار، وتتشابه كلها في أسباب سقوطها-وان اختلفت كما وكيفا ونتائجا-عندما تنعرج حضارة ما الى طريق التعفن الداخلي، لتصل الى منعرج اللاعودة-كما كان الشأن في حضارتنا العربية الآفلة، التي لا تبدوهناك أية تباشيرفي الآفاق لعودة شموسها الغاربة- الا اذا اكتفينا باجترارالرومانسيات النهضوية الفارغة، وترقيعات الحداثيات الغربية العرجاء و المبثورة، والطوباويات البائدة، بعد أن امتدت آثارالطعنات (الصهيونية-الغربية والرجعيات العربية)عميقا في جسم الأمة، حتى تخدر منها الوجدان، وتتلف منها الكيان، فاستحالت لقمة سائغة في أفواه صعاليك التاريخ، وحثالات الشعوب والساسة العضوانيون والمثقفين النرجيسيين، -

 ومن هذا المنظار، فأمريكا ليست أول ولا آخر حضارة تنهار، فهي ، أولا، تحمل–جينيا- ميكروبية الانحطاط للعوامل الذي ذكرتهاسابقا ، ولأنها ثانية، حضارة ذات استثناءات ناشزة، تشذ عن البعد الانساني، وعن باقي الحضارات البشرية عبر التاريخ من الصين الى البيرو(لبعض العوامل التي أتيت على بعضها في الجزء الأول من هذا المبحث)

 

 مسوغات ظاهرة الكتابة عن ما بعد الأمركة:

ان الكتابات المهتمة في الغرب في البحث فيما بعد الأمركة، من الكثرة والغنى والرصانة –أكاديميا- وبالتالي، فان دواعي كتاباتها ليست مجرد رغبات حقودة، لتسويد الولايات المتحدة الأمريكية أو شيطنتها، أوالتصغيرمن شأن الأمريكيين السذج والذين معظمهم طيبون لمن عاشرهم عن كثب، أومجرد اسقاط الفكرالتشاؤمي (البوكاليبسي)-بمعناه الثيولوجي (الكنسي - الماسوني الأخوي)علي الحضارات الفاسدة ،.. أوالتعجيل بتضخيم الرؤى الكارثية لأنبياء بني اسرائيل وسجع كهنتهم المنذر بسقوط بابل كما جاء في (توراة أورشليم وسفرالتكوين)، أوكما تحاول هوليود عبرأفلامها الأخيرة لعام 2009 زرع الرعب و الفوبيات الجماعية لدى الشعب الأمريكي والأوروبي والعالمي، بغية ترهيب البشرية سيكولوجيا، تمهيدا لقبول المزيد من الكوارث الطبيعية والفيروسية المصطنعة، ولتحمل الهزات الاقتصادية المفبركة المقبلة، ولقبول الاضطرابات والاجتماعية المقبلة التي هي تلك القشة التي ستقصم ظهر البعير بأمريكا، وذلك كله من أجل تيسيرتمريرقوانين جديدة مصادمة ولا أحلاقية ضد الأفراد والجمعات والهيئات المتمردة المحتملة في الداخل الأمريكي وخارجه ، تخرج عن كل المعاييرالتي ادعتها لثلاثة قرون فلسفات التنوير الفرنسية والأنوارالألمانية، والرجوع بالانسانية الى ما قبل الحضارة كما يرشح عن تسريبات صناديق التفكير لدى المجموعات (الاسرائلية-الأوربية-الأمريكية الأوروبية) التي–للغرابة- تتمركز كل تخطيطاتها وتصوراتها السياسية المقبلة–الداخلية والخارجية-على المقولات الراديكالية الاستعمارية لعهود ما قبل الكولونيالية بمشاركة المثفين العضوانيين الجدد من كل التوجهات... ويبقى الصراع المحتدم –أكاديميا- ما بين الباحثين هو حول من الذي سيعجل بسقوط أمريكا؟ أهي العوامل الداخلية أم الخارجية؟ أم تظافرهما معا؟

 

أمريكا: من الطهرانية الى الفرانكشتانية ثم ماذا بعد؟:

ان حلم الامبراطورية الأمريكية كأرض الرفاه في أرض الميعاد و أرض السعداء و أرض شعب الله المختار بالمنظور(التوراتي–البروتستانتي–الماسوني) كما روج ذلك الآباء الأولون المؤسسون للأمة الأمريكية، قد شارف على انهاء بريقه، وتأثيره في نفوس الأمريكيين من الأجيال الناشئة (البيضاء والسوداءأو الملونة) أو من طرف المهاجرين الجدد، من الباحثين عن الوهم والسراب والاثراء السريع واقتناص الفرص النادرة بالطرق المشروعة وغيرالمشروعة في بلد (صندوق عجائب الدنيا)

وأصبحت المقولات القديمة ل أرض كنعان الجديدة و أورشاليم الجديدة وملاذ العبرانيين القدامى الذين فروا من ظلم فرعون (الملك الانجليزي جيمس الأول وهربوا من أرض مصر(انجلترا)، بحثا عن الأرض المقدسة و الأرض النبيلة و المعبدالطاهر الذي أعطاه الرب للرواد الأمريكيين ـ تلك الأرض التي تطعمنا وتكسوالعالم وتنشرالعدل والمحبة والاخاء حسب تعبيرالرئيس جروفر كليفلاند كأول رئيس ديمقراطي منذ ما قبل الحرب.. تلك المقولات التي حفزت نفوس المهاجرين الأوائل بتقديم التضحيات الجسام والمعاناة، وممارسة حروب الابادات للسكان الأصليين والحروب الأهلية، لا تهزأعطاف معظم الأمريكيين اليوم ، بل ان أمريكا مهددة اليوم من الداخل لا من الخارج من الداخل وخاصة من:

-المحافل الماسونية السرية المهيمنة على رأس الهرم في السلطات التشريعية والتنفيذية، والتحكم في المنظمات والهيئات والمؤسسات الكبرى والصغرى، ومراقبة الرؤوس المدبرة والمسيرة للوبيات، لكي لاتحيد عن أهدافها ومهامها، منذ جورج واشنطن الى أوباما، حيث تعتبرالولايات المتحدة أول دولة رسمية في التاريخ الغربي قائمة على عقيدة استسرارية-غنوصية الأقدم في التاريخ، والأكثر سرية على الاطلاق وهي الماسونية (1)

-دعاة الحرب الذين يوجهون الاقتصاد الأمريكي و يتحملون أكثر من أي عدو خارجي مزعوم –مسؤولية تهديد البشرية بمحرقة نووية تفني ما أرسته الحضارات المختلفة طيلة آلاف القرون من ارث وثقافات، - كما فصل ذلك الباحث الأمريكي في الاقتصاد العسكري الأمريكي Victor PERLOفي كتابه الشهير Militarisme and industry

 

 بينما يتم التركيز وتوجيه الأنظار الىالأعداء والأغيار والبرارةالخارجيين الذين دمروا روما القديمة - كما يردد ذلك كل من كيسينغر وبريزينسكي - حيث سيحدث لأمريكا مثل ما حدث بالأمس القريب لروسيا التي ذوت مثل شجرة الصفصاف في الأرض القاحلة لوحدها، وانهارت مرتين في زمنين وعهدين متقاربين، وفي أقل من قرن واحد: حينما انهارت امبراطوريتها القيصرية العظمى، بقيام الثورة البولشفية الحمراء عام 1917، ثم حين تفككت بلطف وبثورات مخملية من الداخل ـ وعن طريق البروباغاندا المنظمة الغربية ، وليس بسبب القصف الأمريكي وشجاعة جنود المارينز الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة على السوفييت في حروبهم الباردة، سواء في الأزمة الحرجة بين المعسرين في الأزمة التشيكية، أو في أزمة كوبا، (مواجهات خروتشوف-كينيدي الشهيرة) التي عجلت باغتيال كينيدي المريب، بل كان تفكيك الاتحادالسوفياتي بسبب القالبية للانكفاء الذي يحدث لكل الحضارات عندما تستوفي شروط احباطها وانتكاستها،.. وبالنسبة للسوفييت، كان بسبب انطفاء الشعلة الثورية في النفوس، وخفوت الايمان بالحلم الماركسي ، حيث لم تعد الأوتوبيا المشاعية (للماركسية-اللينينية) سوى حلم جميل ولى ومضى... فكان العزاء السريع لعدم السقوط الكلي، هو في العودة الى خلفية الروس الثقافية القديمة، وحديقة حضارته القيصرية التليدة، للتمكن من اعادة اذكاء شعلة البقاء، لمقاومة المشروع التحالف الغربي الاطلنطي الجديد التي تم اقحام حتى دول شرق أوروباالتابعة للمعسكرالاشتراكي السابق، محاولة لتطويق ما تبقى من الامبراطورية الشيوعية الغاربة، حيث تعمل دهائيات بوتين ان يغير الروس الى ما يلي:

- ان يتحول الصراع في النفوس من صراع معسكرين ( رأسمالي / شيوعي) خسره الروس الى غير رجعة، الى صراع بين (قيصرية مسيحية أرثوذوكسية شرقية قديمة) في مواجهة (مسيحية غربية–يهودية–بروتستانتية)

- احياء الصراع القديم بين العرق السلافي الأبيض المحقًرتاريخيا-أوروبيا- من طرف اللاتين والرومان قديما، وصولا عنصرية الجرمانيين والغال والساكس والهون والآريين والسكندنافيين والأنغلوساكسون- ضد السلاف والهنغاريين والمجريين، منذ القرون الوسطى الى اليوم،

- محاولة مداواة جراح التفكيك والسقوط المبكر، واحباطات نوستالجيا جنة الفقراء وأمبراطورية البروليتاريا كما غرسته الماركسية الأرثوذوكسية ولقحته التنشيطية اللينينية Activisme léniniste، التي عجلت الستالينية الحمراء بمجازرها الرهيبة- بابادة أكثرمن خمسين مليون ممن أعدموا- بالتشكيك في المرامي النبيلة للبولشفيين، وذلك بسبب غباء ووحشية الرفيق الجيورجي ستالين، - مما زرع فسلة التبكيربسقوط حصن الشيوعية الحصين، وتنفيرالمثقفين المناصرين لها شرقا وغربا، بسرعة مذهلة لم تحدث لأي حضارة أو ثقافة في التاريخ البشري..

 

 وان طاهرة تفكيك السوفيات، ظلت ظاهرة ترعب الخبراء والدارسين الأمريكيين والأروبيين(2) أكثرمن الروسيين، منذ أواخر الثمانينات-رغم التمظهر بالحبورالساذج الطفولي للشامتين من دهانقة الساسة الغربيين الدهائيين، -حيث أصبح اصطلاح مابعد الأمركة صنواً و رديفاً لما بعد الشيوعية والاتحاد السوفياتي، ولذا، فان الحاجة التى تصديرهذا الارتعاب الحقيقي من الانفجارلهو ضرورة ملحة لانقاذ ما يمكن انقاذه من الجانب الأمريكي، الذي تعلب حضارته أشواطها القليلة المتبقية، التي ستخنقها قلاقه الداخلية، مع تزايد ظاهرة البطالة الكاسحة بشكل مرعب، -في كل ثلاثة ثواني في الساعة الواحدة-، مما سيدفع بالكونجرس الأمريكي الى استصدار قوانين جديدة لمتابعة وتجريم من ينشرون الاحصائيات المهولة عن الأزمات الداخلية بدون مراقبة لجان متخصصة... أي تباشيرالعودة الى المكارثية المرعبة،... ولاغرابة في ذلك !، فانها بلد العم سام بلد العجائب والغرائب !

 

د. الطيب بيتي العلوي/باحث مغربي في الأنثربولوجيا/باريس/فرنسا

baiti@hotmail. fr

 

......................

 هوامش

أنظر الفصول الخاصة بالأسس العقائدية المؤصلة للنظام السياسي الأمريكي منذ عام 1776 الى عام2009 من الصفحة 64 الى 121 من البحث الأكاديمي La Saga des Francs Maçons للباحثين: Marie-France Etchegon –Frédéric Lenoir Ed Robert Lafond 2009 -

وعن تداعيات ما بعدالقرن الأمريكي: the Post-Soviet Lessons for a Post-American Century by Dimitry Orolov

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1307 الخميس 04/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم